Sunday, August 04, 2013

دراسة في القانون: انفصال النيابة العامة (2/3)

كما أشرنا إلى أن وضع الآليات الكفيلة لحماية استقلال النيابة العامة، تتمثل كما يطالب بذلك الكثيرون في استقلال النيابة العامة العضوي عن وزارة العدل أو ما نسميه بانفصال النيابة العامة، يبقى السؤال ما هي تبعات القول بانفصال النيابة العامة عن وزارة العدل؟ إستراتيجية انفصال النيابة العامة 
عن وزارة العدل
إلى جانب أن الاستقلال بصفة عامة هو مسألة نفسية، فإنه يبقى في كثير من الأحيان قاصرا عن تحقيق الغاية المرجوة منه والمتمثلة في نقل السلطات المتنازع بشأنها من الجهة المستقل عنها إلى الجهة المستقلة. فالتاريخ يقدم الدليل على أن الكثير من الدول ممن أعلن عن استقلالها ليست كذلك، وأن الدول المستعمرة بقيت واضعة يدها على سياسات تلك الدول وعلى مقدراتها الاقتصادية. وفي المقابل يقدم مفهوم الانفصال ميزة انتقال جميع السلطات التي تتمتع بها الجهة المنفصل عنها إلى الجهة المنفصلة. وفي مجالنا هذا فإن النتيجة الطبيعية لانفصال النيابة العامة عن وزارة العدل أو عن استقلالها ينبغي أن تكون هي انتقال جميع الصلاحيات، وما أكثرها، التي كان وزير العدل يتمتع بها إلى الجهة التي ستخلفه في رئاسة النيابة العامة، وذلك إن لم نقل بتوسيع هذه الصلاحيات تماشيا مع التوجه الدولي الحالي الرامي إلى تعزيز سلطات النيابة العامة لمواجهة الجرائم الخطيرة التي تهدد أمن واستقرار المجتمعات الإنسانية مثل جرائم الإرهاب والفساد والتهريب بجميع أشكاله. 
إن الخطر كل الخطر يكمن في عدم نقل سلطات وزير العدل في مجال الرقابة على المال العام وغيره من المجالات الحيوية الأخرى إلى رئيس النيابة العامة المنتظر، ذلك أن من شأن إضعاف رئاسة النيابة العامة إضعاف للمؤسسة كلها، وتقزيم لدورها، وتقويض لضمانة من أهم الضمانات التي تقوم عليها  الديمقراطية في بلادنا فكرا وممارسة. تكفي الإشارة هنا إلى ما تلعبه النيابة العامة من دور أساسي في محاربة جميع أشكال التعسف في استعمال السلطة سياسية كانت بين أيدي أعضاء الحكومة والبرلمان وغيرهما من مؤسسات الدولة، أو اقتصادية بين أيدي رجال المال والأعمال. فما هي عناصر هذه الإستراتيجية التي من شأنها أن تيسر الانتقال السلس لسلطات وزير العدل إلى رئيس النيابة العامة؟ 
عناصر إستراتيجية انفصال النيابة العامة
يمكن تلمس عناصر الجواب على هذا التساؤل على أكثر من مستوى، فعلى مستوى التسلسل الهرمي، سوف يتعين تحديد الجهة التي ستنتقل إليها صلاحيات وزير العدل الإدارية منها والقضائية، ثم تحديد علاقة هذه الجهة مع باقي الجهات المتدخلة في الشأن القضائي. 
لعل أهم حسنة قد يأتي بها انفصال النيابة العامة زوال حالة التشرذم التي تعيش عليها هذه المؤسسة. فواقع الحال أبان على أن التوزيع الجامد، وفي أحسن الأحوال، المبهم للسلطات والاختصاصات بين ممثلي النيابة العامة  بالمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف ومحكمة النقض مع ما يترتب على كل ذلك أحيانا من تشنج في العلاقات بين هؤلاء جميعا، إنما يؤدي إلى إضعاف سلطة النيابة العامة ويحد من فعالية تدخلها. ولعل في توحيد النيابة العامة تحت سلطة واحدة تقوية لعملها وتدعيم لسلطتها.
لأنه لا يكفي في القاضي سواء كان منتسبا للقضاء الجالس أو للقضاء الواقف أن يكون مستقلا على ما استقرت عليه المعايير الدولية، وإنما ينبغي له أن يظهر كذلك بمظهر المستقل، وما دام أن واقع الحال في المحاكم يثبت أن النيابة العامة تعيش عادة، فيما يرجع لتسيير شؤون المحكمة، في ظل الرئاسة، فإن نجاح استقلال النيابة العامة يتوقف من ضمن ما يتوقف عليه، على تأمين بنايات لأعضاء النيابة العامة تكون مستقلة عن البنايات التي تؤوي رئاسة المحكمة. وهذا ينطبق بطبيعة الحال على الجهة التي ستسند إليها رئاسة النيابة العامة، إذ ينبغي هنا كذلك توفير بناية خاصة تليق بهذه الجهة وتكفي لإيواء طاقمها وتلبية احتياجات الأجهزة التي ستعتمد عليها في تدبير شؤون النيابة العامة. فمن عساها تكون هذه الجهة؟
إذا ما تركنا جانبا مسألة التسمية، وإن كنا نحبذ تسمية "النائب العام" تمييزا لها عن الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف أو بمحكمة النقض من جهة، وباعتبارها مشتقة من التسمية الأصل وهي "النيابة العامة" من جهة أخرى، فإن في نقل صلاحيات وزير العدل إلى الوكيل العام للملك بمحكمة النقض، كما يشيعه البعض، بعض الحرج الناتج أساسا عن الاعتبارات التالية:
تعتبر النيابة العامة بمحكمة النقض استثناء من الأصل في النيابة العامة والمتمثل في تحريك الدعوى العمومية ومباشرتها. هذا الاستثناء نابع أساسا من طبيعة الفضاء الذي تشتغل فيه. فمحكمة النقض هي محكمة قانون، ولذلك سمي أعضاء النيابة العامة بها محامين عامين يحضرون مداولات المحكمة، ويشاركون فيها تمييزا لهم عن نواب وكلاء الملك بالمحاكم الابتدائية، وعن نواب الوكلاء العامين للملك بمحاكم الاستئناف الذين يتمتعون بالصفة الضبطية، ولا يشاركون في مداولات محاكمهم. ويترتب عن هذا الاختلاف في الوظائف أنه على خلاف نواب وكلاء الملك ونواب الوكلاء العامين للملك، فإن المحامين العامين بمحكمة النقض لا يتلقون تعليمات من الوكيل العام للملك في القضايا التي يشاركون فيها. فهم أحرار في تقديم المستنتجات الكتابية التي يرونها صالحة للعدالة. صحيح أن الوكيل العام للملك هو ممثل النيابة العامة لدى محكمة النقض، غير أنه لا يمكنه، في ظل سكوت المشرع المغربي عن المقصود بالسلطة التي يعترف له بها على المحامين العامين، أن يرغمهم على تقديم مستنتجات لا يشاطرونه الرأي بخصوصها، فغاية ما يستطيع فعله هو تحويل ملف القضية إلى محام عام آخر أو مخاطبة المحكمة مباشرة باعتباره الممثل الأصلي للنيابة العامة. ذلك على الأقل ما نص عليه قانون التنظيم القضائي الفرنسي.    
ومن ناحية أخرى، فخصوصية النيابة العامة بمحكمة النقض تحول دون نقل صلاحيات وزير العدل_ ومنها صلاحية توجيه تعليمات بالمتابعة أو بنقل رأي الوزير إلى المحكمة، إلى الوكلاء العامين للملك بمحاكم الاستئناف_ إلى الوكيل العام للملك بمحكمة النقض، والذي قد يتحول، فيما لو تم ذلك، إلى خصم وحكم في الوقت ذاته. يتابع أو يأمر بالمتابعة، ويشارك في إصدار الأحكام. كما أن نقل سلطة رئاسة النيابة العامة من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بمعزل عن الصلاحيات المرتبطة بها هو بمثابة إجهاز على جهاز النيابة العامة. الحاصل إذن أنه ينبغي استحداث منصب جديد في السلك القضائي المغربي هو منصب "النائب العام" تسند له رئاسة جهاز النيابة العامة في سائر البلاد، وتنقل إليه جميع صلاحيات وزير العدل فيما تعلق منها بتنفيذ السياسة الجنائية وبالرقابة والإشراف على عمل النيابة العامة. ولعل في تجربة دولة كوريا الجنوبية التي باتت تعرف بالمعجزة الكورية بحكم النجاح السريع والباهر الذي حققته على الصعيدين الاقتصادي والديمقراطي أسوة حسنة.  

بقلم: رشيد صادوق, دكتور في الحقوق
جريدة الصباح الأربعاء, 24 يوليو 2013

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا