Thursday, February 19, 2015

الجهوية الموسعة، وأسئلتها الملحة

الجهوية الموسعة، وأسئلتها الملحة
الجهة في اللغة السياسية، هي مجموعة ترابية منسجمة مجاليا، تهدف إلى خلق نوع من التكامل التنموي وإلى تحقيق قدر من التوازن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الأقاليم في إطار التنمية الجهوية التي تلائم تدخل الدولة لإنجاز عمليات التخطيط والتنمية المحلية.
في مفاهيم القوانين الدستورية الحديثة، تعتمد الجهة على مجال معين لتحقيق الانسجام بين عدة وحدات ترابية وإدارية لأجل النهوض بمؤهلاتها وتسخير إمكانياتها البشرية والطبيعية والمادية في إطار متكامل ومتوازن، فهي مجموعة من الأقاليم التي ترتبط أو القادرة على ربط علاقات فيما بينها على المستوى الجغرافي أو الاجتماعي، أو تحقيق برنامج من أجل تنمية منسجمة ومتوازنة لمختلف أجزاء البلاد، وهي منظومة جغرافية مؤلفة من مجموعة من الوحدات الترابية، تجمع فيما بينها صفات مشتركة، قد تكون مناخية، اقتصادية بشرية أو تاريخية، أي أنها تتصف بتجانس مكوناتها. التجانس الطبيعي/ الجغرافي/البشري. وتعتبر الجهة في عالم اليوم، العنصر الحاسم في تعميق الديمقراطية، كسلوك داخل المجتمع، وكمحاولة لاشتراك المواطنين وإعطائهم الفرصة للمساهمة في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصيرهم، والعمل على تنفيذها وتتبع سير عملها.
يختلف مفهوم الجهوية ذو المدلول الإداري عن مفهوم الجهوية ذي المدلول السياسي، فهذا الأخير، حسب بعض الخبراء يحيلنا على مشاركة المواطنين في تدبير شؤونهم المحلية، وعلى الاستقلالية في تسيير مصالحهم. من هذا المنطلق تبدوا فكرة الجهوية قريبة من فكرة الشؤون المحلية، إذ هناك تداخلا بين المفهومين. فكلاهما ينبع من داخل الجهة ذاتها.
يعني ذلك بوضوح أن مدلول الجهوية في الدول المتقدمة المصنعة، يختلف عن مدلولها في الدول المتخلفة. في الدول المصنعة، لن تكون هناك تنمية دون وجود تنمية اقتصادية جهوية، لذلك تكون التجربة في هذه الدول مزدوجة، إذ عليها أن ترتكز في تخطيطها على خلق مسلسل الإقلاع الاقتصادي العام، زيادة على محاربة الفوارق بين الجهات وإحداث تنمية متوازنة فيما بينها، والقضاء على الأثر التفقيري الذي يحدثه نمو جهة على حساب أخرى، وخاصة التي تظل منطوية ومنغلقة على نفسها. وهو ما يعني، أن تحقيق تنمية متكاملة ومتكافئة من منظور جهوي، لن يتم إلا بتحديث الرؤى والمطامح وتوظيف الوسائل والإمكانات ضمن دراسات معمقة تعتمد على تقديرات موضوعية لما ينبغي نهجه من أجل تنمية عملية شاملة ومتطورة، تهم كل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
وإذا كان المواطن في المنظور السياسي/ الديمقراطي، هو المحور الأساسي في عملية التنمية الجهوية من أجل تحقيق العيش اللائق له، فإن ذلك يستدعي بالأساس تعبئة واستخدام كل الموارد والإمكانات المادية والبشرية والطبيعية، على الصعيد المحلي والإقليمي والجهوي، من أجل تنمية مادية وبشرية وسياسة تعتمد بالأساس على استراتيجية ملازمة لروح المسؤولية، التي تستهدف تغيير العقليات على المستويين المركزي والجهوي، كما تعتمد التخطيط والتشاور والمساهمة الفعالة لكل الفعاليات في تنشيط الجهة بتعاونها ومساندتها لمضمون التنمية في المجال الجهوي.
في زمن العولمة/ زمن القرية الكونية، حيث كسرت الثورة التحديثية الإعلامية الحدود، أصبح على الجهوية مسايرة التطورات التي تعرفها الساحة العالمية، وهي تطورات إعلامية، تكنولوجية، ثقافية، سياسية، وعملية. تشكل عالما بلا حدود، لم تعد فيه السيادة تشكل مظلة واقية للدول، بما فيها تلك التي اعتبرت دائما متقدمة، ومن ثم أصبح من الضروري توسيع مفاهيم الجهوية، على المستوى الوطني، من أجل خلق انفتاح وتواصل، حقيقيين بين كل الجهات المكونة للدولة.
- 2 -
مغربيا عرف مفهوم الجهة تطورا تدريجيا منذ ستينات القرن الماضي، حيث أصبحت الجهة مصطلحا مألوفا في الأدبيات السياسية المغربية، ظهرت في الخطاب السياسي، والخطاب الإعلامي، وفي التقارير الحكومية وفي القوانين الانتخابية وغيرها، لتصبح الجهة من صميم الاهتمامات العامة للدولة وللمجتمع المدني، وبجميع فرقاء الشأن العام بالبلاد.
فالجهة والجهوية بالمغرب، كتقطيع ترابي وكتدبير للمجال، ونهج للامركزية، كانت وما تزال محط قراءات ودراسات معمقة، من زوايا سياسية وقانونية وجغرافية متعددة، كان أبرزها التصميم الوطني لإعداد التراب (سنة 2003) وتقرير الخمسينية (سنة 2005) وكتاب مغرب الجهات، الصادر عن المندوبية السامية للتخطيط (سنة 2008)، إضافة إلى العديد من الدراسات الأكاديمية، وهو ما يؤكد على أهمية موقع الجهة في المغرب الحديث.
وبالرجوع إلى كرونولوجيا مصطلح الجهة على أرض الواقع بالمغرب، سنجده تدرج خلال الخمسين سنة الماضية بهدوء وإصرار، ليقطع مراحل عديدة في مساره السياسي والقانوني، ويتحول في نهاية المطاف إلى مصطلح مصيري على مستوى كبير من الأهمية، بعد أن ارتقى من مجرد مؤسسة متواضعة سنة 1959، إلى مؤسسة دستورية سنة 1996.
في بداية الأمر جاء ذكر الجهة، عند رسم الحدود الترابية للجماعات المحلية، (ظهير 2 دجنبر 1959) وتركز من الوجهة القانونية في ظهير 23 يونيو 1960 عندما تم إصدار الميثاق الجماعي، الذي مهد للقانون المنظم للجهات الاقتصادية (ظهير 16 يونيه 1971).
وفي سنة 1984 عرفت الجهة، نقلة نوعية بسبب الإطار القانوني الذي أحدث لدعم الهياكل التشريعية والمالية والإدارية للجهات المغربية، التي عرفت سنة 1992 دفعة جديدة، جعل منها فضاء واسعا للتحاور وتنسيق الجهود ورفعها إلى مستوى الجماعات المحلية، بفضل التعديل الدستوري الذي عرفه المغرب خلال هذه السنة.
وفي سنة 1996، أصبحت الجهة في المفهوم الدستوري، كيانا يتمتع بتمثيلية قانونية على المستوى التشريعي حيث أسست المراجعة الدستورية الجهة إلى جانب العمالات والأقاليم والجماعات الحضرية والقروية، وتبنى الملك الراحل الحسن الثاني الجهة كخيار استراتيجي لمغرب القرن الواحد والعشرون.
يعني ذلك، ارتقاء الجهة من مجرد جماعة محلية ذات اختصاصات استشارية محدودة، (سنة 1959) إلى هيئة دستورية ذات طبيعة تقريرية، (سنة 1996) ترتبط بقنوات تمثيلية من داخل الغرفة الاستشارية بالبرلمان، وهو ما شكل قفزة نوعية للممارسة الجهوية، التي أخد المغرب بها منذ صدور قانون 4 أبريل 1974 الذي وضع الإطار القانوني لتدبير الشؤون الجهوية من طرف مجلس جهوي منتخب، وجعل الجهة فضاء للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، قبل أن تصبح دستورية قادرة على الفعل والتفاعل داخل الفضائين المحلي والوطني.
- 3 -
خارج التطور القانوني الذي عرفته الجهة مغربيا خلال العقود الخمسة الماضية، أصبحت الجهة في الخطاب السياسي/ الاجتماعي/ الثقافي خيارا مستقبليا لتجسيد الإرادة الوطنية في التطور الديمقراطي والبناء المؤسساتي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، اعتبرها الخطاب السياسي الرسمي والحزبي، مدخل حقيقي وضروري وتوجه أساسي وحاسم في إستراتيجية التنمية الشاملة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، كما كانت الحل الأمثل لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، ولخوض معارك الرهانات الصعبة التي تتطلب توجيه القوى الحية والفاعلة لمكونات المجتمع المغربي وتشكيلاته وتعبئتها الكاملة للإنخراط الجماعي في مسلسل الإصلاحات الدستورية والسياسية، لبناء الأسس الصلبة والأرضية الصالحة لديمقراطية سياسية واقتصادية واجتماعية سليمة وهادفة، ولتقوية الكيان المغربي ومناعته الذاتية.
في الخطاب السياسي للملك الراحل الحسن الثاني، كما في برامج الأحزاب السياسية على مختلف توجهاتها، جاءت الجهوية، الصيغة المتميزة والإطار الملائم لرصد واستعاب وتوظيف الموارد البشرية والمالية المتوفرة والمتاحة بكل روافدها ومكوناتها في تجاه تنمية جهوية متكاملة ومندمجة، تحقيقا لأسباب وظروف التنمية الوطنية بما يكفل التوازن والتناسق والإنسجام بين كل الجهات، فالجهة في هذا الخطاب تشكل الإطار المؤسساتي والكيان الترابي المفعم بالحيوية والدينامية والمجسد لأوجه التكامل بين مكوناته والكفيل بتعبئة وتسخير الإمكانيات والقدرات الذاتية لأغراض التنمية المنسجمة والمتناسقة، وفي نظر هذا الخطاب، الجهوية من شأنها أن تبلور مضامين وآليات وأدوات العمل المشترك والشراكة والتعاون والإندماج لكل العناصر الاقتصادية وتعبئة الفوائض المالية والاقتصادية ورصيد التراكم الرأسمالي المتوفر والمتاح في تعدده وتنويعه طبيعيا وبشريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
والجهة باعتبارها فضاء اقتصاديا واجتماعيا قائما بذاته ومجدا لمقوماته ولمضامينه الملموسة في التراكم المالي والاستشاري وفي تصور البرنامج والمشاريع التنموية المندمجة والمتكاملة والتخطيط للتنمية الجهوية، برزت في الخطاب السياسي المغربي كمؤسسة لها مكانتها المتميزة في تفعيل الممارسة الديمقراطية وتعزيزها جهويا، فعلى هذا المستوى من البناء الديمقراطي واللامركزي، تفرز مؤسسة الجهة في نظر العديد من أحزابنا السياسية، مهاما جديدة، تتمثل في التشاور والتفاعل والحوار الديمقراطي الهادف والبناء بين أعضاء مجلس الجهة الممثلين للجماعات المحلية ومجالس العمالات والأقاليم وللهيئات المنتخبة المهنية من غرف فلاحية وغرف الصناعة والتجارة والخدمات، وغرف الصناعة التقليدية وممثلي المنظمات النقابية للمأجورين، والتنظيمات المهنية لأرباب العمل والمقاولات.
وفي نظر المجتمع المدني عموما، الكيان الجهوي في شأنه أن يعزز اللامركزية، ويتمم بكيفية متكاملة ومتوازنة البناء المؤسساتي، ويعمل على بلورة صلاحيات وأدوار متميزة، فهي في هذا التصور، « كيان سياسي » يتواجد بها منتخبو الجماعات المحلية من مجالس جماعية ومجالس العمالات والأقاليم وممثلوا التنظيمات والهيئات المهنية والاجتماعية وأرباب العمل والشغالين، هي كيان من شأنه التداول في تطلعات نخبة الجهة وفي تصورها للمشاريع التنموية، فمن شأن المكون الجهوي كاختيار استراتيجي وكبعد ملموس من أبعاد التنمية المخططة المتوازنة والمتضامنة، أن يحقق شروط دينامية أكبر في التشاور والتفعيل تنعكس إيجابيا على إستراتيجية التنمية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية.
في هذا المضمار، تبرز الجهة في الثقافة السياسية المغربية، كمجموعة مندمجة وحية، كفضاء للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من شانه تحقيق التوازن إذا ما تم توزيع متكافئ ومتوازن للاستثمارات وللمشاريع والأعمال، عن طريق رصد للموارد البشرية والمادية والمالية، ومن شانه أيضا الإسهام في الحد على المدى المنظور والبعيد من الاختلالات والفوارق والتفاوتات الجهوية القائمة بين المغرب النافع، والمغرب غير النافع، وفي إضفاء نفس جديد قوامه الاستخدام المشترك للمؤهلات والقدرات الذاتية والموضوعية، وبالتالي في انجاز تنمية مندمجة متواصلة ومستديمة بتسخير الوسائل والإمكانات المتوفرة والمتاحة.
على هذا الأساس طالبت برامج وأدبيات بعض الأحزاب السياسة المغربية، وخاصة منها « اليسارية والتقدمية » بتوسيع فضاءات التنمية المتوازنة والمتضامنة التي تتيح تعبئة القدرات الكامنة في الجهة وفي قدراتها على استيعاب رؤوس الأموال والاستثمارات المنتجة والهادفة والفاعلة لانطلاق الأوراش الكبرى ذات الصيغة الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية والبيئية، التي من شأنها إعطاء للتوازن مفهومه على أرض الواقع.
وبتلخيص شديد، يمكن حصر الدوافع الأساسية للجهوية في الخطاب السياسي المغربي، الرسمي والحزبي والإعلامي، في محاور ثلاثة:
- دوافع سياسية تهدف إلى دمقرطة المؤسسات الجهوية وتدعيم اللامركزية.
- دوافع اقتصادية أملتها متطلبات التنمية وعوامل خارجية ناتجة عن التطور العالمي.
- دوافع اجتماعية لها علاقة بالوضع الاجتماعي الذي يعاني من رواسب التخلف.
هذه الدوافع وغيرها، دفعت بالخطاب السياسي المغربي إلى المطالبة الملحة ببلورة تصور عملي لجهوية حقيقية، تمنح الجهات في المملكة صلاحيات أوسع في تدبير القضايا المحلية، وعدم رهن الشأن المحلي بالسلطات المركزية، إذا استقطب هذا النقاش عدة أطراف سياسية ومدنية، خصوصا بعدما أكد النظام الجهوي الذي تم العمل به بعد تعديل دستور 1996على محدوديته في التعاطي مع قضايا المواطنين في مختلف المجالات التي تهم حياتهم اليومية، وكان في صلب هذا النقاش، نقاش يهم الخصوصيات اللغوية والخصوصيات القبلية، وهو ما يجعل التوجه نحو الجهوية الموسعة، توجها في محله وموعده، يصب في صميم مفاهيم الدولة الحديثة، إذ لم يعد مقبولا في مغرب الألفية الثالثة، جهوية شكلية، قائمة على أساس الهواجس الأمنية، لا تسند على أفق سياسي وعلى توسيع دائرة المشاركة، وهو ما يعني في لغة السياسة الخروج من مرحلة الجهوية المغلقة التي عرفها المغرب خلال هذه الفترة من التاريخ، والتوجه صوب مرحلة سياسية جديدة، ذات مواصفات أخرى تستجيب للحداثة والمعاصرة بقدر ما تستجيب للفكر الديمقراطي وشروطه الموضوعية، وهي الاستقلال النوعي/النسبي عن الدولة المركزية، والأخذ بمبدأ حقوق وواجبات الجماعات التي تشكل الجهات، وهو ما يفرض على الدولة القيام بأدوار جديدة مختلفة عن تلك التي كانت تقوم بها في السابق، والانخراط في عملية إصلاحية عميقة تبلور مؤسسات ديمقراطية قائمة على التدبير العقلاني وعلى التنمية المستدامة كما على الشراكة مع المركز الأساسي للدولة الأم.
- 4 -
السؤال الذي تطرحه الجهة اليوم على الباحث السياسي، لماذا جاء اختيارها مبكرا، كخريطة طريق/ إستراتيجية نحو القرن الواحد والعشرين…؟
في نظر العديد من الباحثين في الشأن السياسي المغربي، أن أهم دافع للتوجه إلى تبني الجهوية كاختيار سياسي إداري واقتصادي، يكمن في محاربة الاختلالات التي ورثها المغرب المستقبل عن عهد الحماية (1912-1955) فهو قبل كل شيء، نزوع نحو إعادة تهيئة مجالية جديدة في إطار السعي نحو محاربة ثنائية المغرب النافع والمغرب غير النافع، وأيضا في إطار فك العزلة عن المناطق الجبلية والنائية وإعادة دمجها في مسلسل التنمية في مغرب أصبح محكوما عليه برفع شعار التنمية بكل مقوماتها.
لقد أصبح مفهوم الجهة من المفاهيم الحديثة في الفكر السياسي والاقتصادي للمغرب المعاصر ولعل هذه الجدة، هي التي دفعت بالعديد من الباحثين إلى وضع الجهة في قلب انشغالاتهم، انطلاقا من أول دستور عرفته البلاد، في ستينات القرن الماضي، وهو ما جعل الجهة في مغرب اليوم، تكتسي أهمية قصوى بالنظر إلى التحولات العميقة التي بدأت تخترق البنيات الإقتصادية والإجتماعية والمجالية وأيضا لمتطلبات البناء الديمقراطي السياسي، لمغرب يطمح في الانخراط الإيجابي في فاعلية الحداثة والعولمة.
ويمكن إجمالا اختزال الاعتبارات التي قادت المغرب إلى الجهة، في عنصرين أساسيين:
أ- عمق الاختلالات والفوارق الجهوية التي طبعت تنظيم البلاد لفترة طويلة من التاريخ، والتي تظهر على مستوى توزيع السكان وتوزيع الأنشطة الإقتصادية والاستثمارات العمومية والخاصة. وأيضا على مستوى توزيع التجهيزات الأساسية.
ب- عجز الدولة المركزية على مواجهة هذه الإختلالات بالرغم من مختلف المحاولات الهادفة إلى تقليص الفوارق، وكان هذا العجز يعزى في السابق إلى غياب تصميم وطني لإعداد التراب كمرجعية أساسية لتوزيع التجهيزات والاستثمارات، ويضمن التنسيق الناجع بين مختلف المتدخلين، ويحدد دور وظيفة عمل الجهة في إطار من التكامل والتضامن وفق منظور شمولي يرسم الاختيارات الكبرى لتنظيم المجال المغربي.
إن عجز الدولة المركزية بعد حصول المغرب على الاستقلال، على مواجهة هذه الاختلالات بالرغم من مختلف المحاولات الهادفة إلى تقليص الفوارق، وغياب تصميم وطني لإعداد التراب كمرجعية أساسية لتوزيع التجهيزات والإستثمارات، ليضمن التنسيق الناجع بين مختلف المتدخلين، ويحدد دور وظيفة عمل كل إقليم في إطار من التكامل والتضامن وفق منظور شمولي يرسم الاختيارات الكبرى لتنظيم المجال المغربي، فرض على المغرب مبكرا اختيار « الجهة » كعلاج للعديد من المخلفات التي ورثها عن العهد الاستعماري.
من هنا جاءت الجهة في تصورات السياسات المغربية على عهد الاستقلال كإطار ملائم لمعالجة الفوارق، ولبلورة مخطط جهوي لإعداد التراب على المستوى الجهوي في إطار التوجهات الوطنية، التي تسمح بإدراك الحاجيات الملموسة وإقامة تنمية مندمجة فعليا، ومرتكزة على أسس من التآزر والتضامن فيما بين الجهات.
إن للجهة قدرة على توفير إطار أمثل لتوزيع السلطة، بواسطة وضع مستويات معبرة لممارستها، تضمن ليونة المساطر والقرب من السكان من حيث التمثيلية والتدبير، وتشكل آداة للمعرفة وإطار الجمع المعلومات الضرورية للمقاولات.
وللجهة أيضا، قابلية لإبراز الطاقات الكامنة وإمكانيات التوظيف الملائم للموارد الطبيعية والبشرية، تتوخى تحقيق التطابق بين التقييم الإداري والخصائص الجغرافية والبشرية والاقتصادية للتراب الوطني، لكي يصبح هذا العامل الأخير أقل إعاقة لعمل الفاعلين المؤسساتيين والاقتصاديين والاجتماعيين.
- 5 -
سؤال آخر يطرح نفسه اليوم بحدة… وبموضوعية، على المجتمع المدني المغربي:
ما هي علاقة هذا النقاش بتوجهات الملك محمد السادس، حول الجهوية الموسعة في مغرب الألفية الثالثة؟ وإلى أي حد استطاعات مرتكزات هذا النقاش، التفاعل مع المنظور الملكي حول الجهوية الموسعة؟
يلاحظ المهتمون والمتتبعون، أن الجهة حظيت في عهد الملك الشاب الملك محمد السادس، بإطلاق ورش تفعيلها على أسس أكثر تجدرا في الديمقراطية والتنمية والعولمة، وذلك من خلال إصلاح نظامها إصلاحا يعتمد على تقسيم يتوخى قيام مناطق متكاملة اقتصاديا وجغرافيا، مناطق منسجمة اجتماعيا وثقافيا، وهو ما يعني في هذا فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات الديمقراطية التي يسعى الملك الشاب إقرارها بالعديد من المجالات الأساسية للدولة المغربية.
الهدف بلاشك، هو إيجاد جهات قائمة الذات، قابلة للاستمرار من خلال بلورة معايير عقلانية وواقعية لمنظومة جهوية جديدة ومتطورة، وانبثاق مجالس ديمقراطية تتوفر على صلاحيات وموارد تمكنها من النهوض بالتنمية الجهوية المندمجة حتى لا تكون جهازا صوريا أو بيروقراطيا، وإنما مجالس تمثيلية للنخب المؤهلة لحسن تدبير شؤون مناطقها، وجعل الأقاليم الجنوبية المسترجعة في صدارة الجهوية المتقدمة.
في خطابه ليوم ثالث يناير 2003 وعند تنصيبه للجنة الاستشارية لإعداد مشروع جديد للجهوية الموسعة.أعلن الملك الشاب عن رؤيته الواضحة للمسألة الجهوية، فهي في تصوره يجب أن تستوفي أربعة شروط:
1-أن تكون مغربية صرفة نابعة من خصوصيات المغرب، غير مقلدة أو مستنسخة، متشبثة بمقدسات الأمة وتوابثها في وحدة الدولة والوطن والتراث.
2-أن يتمثل فيها الالتزام بالتضامن، إذ لا ينبغي اختزالها في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات.
3-أن تعتمد التناسق والتوزيع في الصلاحيات والإمكانات وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات.
4-أن تعتمد على انتهاج اللاتمركز الواسع الذي لن تستقيم « الجهوية » بدون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجحة قائمة على التناسق والتفاعل.
يعني ذلك في الخطاب الملكي إن الجهوية الموسعة فضلا عن كونها مطلب مغربي داخلي، يرتبط بالبناء الديمقراطي وتوسيع دائرة الديمقراطية، تشكل حلقة وسطى ومرحلة انتقالية، لتنفيذ مبادرة الحكم الذاتي بالمناطق الصحراوية المسترجعة على أرض الواقع، وذلك لتلافي كل الإشكاليات التي من شأنها أن تحول هذه المبادرة إلى أهداف بعيدة عن أهدافها.
والجهوية الموسعة هي قبل كل شيء شكل من أشكال المصالحة مع المجال، وإقامة نوع من التوازن بين المغرب النافع والمغرب غير النافع، على اعتبار أن هذه الجهوية تشكل إمكانات كبرى لتعميم التنمية والتوزيع العادل للثروة، تستوعب الخصوصيات المتنوعة في إطار التضامن بين الجهات، ومن ثمة يصبح الانتقال إليها انتقالا إلى مرحلة ديمقراطية حاسمة، لإعادة الفرز الداخلي على قواعد الارتباط بالوحدة وهو ما يمكن المغرب من التفكير في الإشكالات التي يمكن أن يطرحها الحكم الذاتي للصحراء بهدوء وامتلاك رؤية حقيقية تسمح للمغرب بحماية مسار وحدته الترابية في المستقبل، في حال توفر شروط تمتيع الأقاليم الجنوبية بحكم ذاتي.
لذلك لا نتصور أن تكون الجهوية الموسعة/المقترحة، ورشا واسعا للتنمية أو للديمقراطية فحسب، ولكن أيضا لإعادة التوازن إلى مختلف الجهات، وبالأساس لتلبية حاجيات الاقتصاد الوطني الممركز على قواعد غير متوازنة.
لأجل ذلك، فإن مبادرة الملك الشاب، تشكيل لجنة استشارية للجهة، انطلاقا من تصوره للجهة الموسعة، يطرح على الباحثين والخبراء العديد من الأسئلة: ماهو الفضاء الملائم لقيام هذه الجهة، الفضاء الألماني؟ الفضاء الإسباني؟ الفضاء الفرنسي؟ وماهي العوامل الحاسمة في تحديد هذه الجهة…؟
في نظر العديد من الباحثين والسياسيين أن بمغرب اليوم جهات واضحة المعالم، ذات شخصية ثقافية/ جغرافية/ اقتصادية، تمكنها من الاستقلالية والاستمرار…وجهات أخرى يصعب تصنيفها حتى وإن كانت تتمتع بشخصية خاصة بها، جهات لا تتوفر على الحد الأدنى من شروط الاستقلالية، تعاني من آثار بليغة من الفقر والتخلف والأمية وانعدام التجهيز، وهو ما يطرح إشكالية كبرى على الجهة كاختيار وكقضية. كيف يمكن تجاوز هذه الحالة/ الإشكالية وبأية إمكانيات..؟
من هنا يقول باحث مغربي مختص، « تنبع ضرورة إعادة تحديد الجهوية التي يدعونا إليها التصور الملكي المقترح، وهذا يقوم أساسا على تحقيق الفعالية قبل الحديث عن توزيع السلطات وحتى لا يصبح هذا الأخير غير عملي غدا، يتعين الانكباب على مناقشة تلك الفعالية ».
إن موضوع الجهة، باعتباره على ارتباط وثيق بمفاهيم الحداثة والعولمة وحقوق المواطنة، أصبح يستقطب اهتماما متزايدا، ليس فقط في المغرب، بل في مختلف أنحاء العالم، على اعتبار أنها الإطار الملائم لبلورة الاستراتيجيات البديلة للتنمية، التي تقوم على تعبئة الطاقات المحلية ومساهمة السكان في توطيد دولة القانون.
لذلك ما يجب انتظاره بعد المبادرة الملكية في هذا الشأن، هو إسراع اللجنة الاستشارية بصياغة مشروعها، وفق منظور فكري/ ثقافي/ سياسي يراعي مختلف الحساسيات السياسية بالبلاد، وهو ما يعني في نظر العديد من المهتمين والمختصين إحداث إصلاحات جذرية وعميقة، ذات طابع دستوري، لإعادة صياغة تشكيل صورة الدولة المغربية انطلاقا من صورة ونظام جيهاتها. ذلك ما يتوقعه فقهاء القانون الدستوري وفقهاء السياسة وعلم الاجتماع في بلادنا، من هذه اللجنة.

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا