تحتل الجهوية مكانة مهمة في الترسانة القانونية للحكامة المحلية الجيدة، ووسيلة أساسية لدمقرطة تدبير الشؤون العامة عن طريق مشاركة المحيط في اتخاذ القرار الجهوي والوطني، تخفيفا للثقل السلطوي للسلطة المركزية الذي أصبح يشكل أحد الأسباب الرئيسية لتعذر التنمية الجهوية.
إن ارتقاء الجهة إلى جماعة محلية مع دستور 1996 اختيار وطني وإرادة سياسية، فالجهة إذن تعد مكسبا دستوريا وأداة أساسية لتدعيم اللامركزية والديمقراطية المحلية في المغرب وتقليص الفوارق والاختلافات بين المدن والقرى وبين مناطق المملكة. كما تشكل مجموعة مندمجة وفضاء للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإعداد التراب الوطني والتخطيط[1].
إن اقتناع المغرب يجب أن تكون الجهة جماعة محلية منسجمة مجاليا وتهدف إلى خلق تكامل اقتصادي وإداري تنموي من أجل النهوض بالإمكانيات البشرية والطبيعية والمالية وتسخيرها في إطار منسجم ومتوازن دفعه إلى إعادة النظر في الإطار القانوني للجهة بما يدعم من استقلالها ويوفر لها المجال الأنسب للقيام بدورها سواء من ناحية الإمكانيات البشرية أو المالية أو المجالية[2]، قصد تنمية جهوية مندمجة، هو نفس الاقتناع الذي يتوجه نحو خلق إطار جهوي موسع، كمطلب وطني يكرس الحكامة المحلية الجيدة ويسمو بالديمقراطية المحلية ويساعد على الوحدة الوطنية.
لكن كيف يمكن للنموذج المغربي أن يوفق بين الخصوصية والمقاربات الموجودة؟ هل ستتمكن الجهوية الموسعة المرتقبة من ترسيخ حكامة محلية جيدة وتحقيق التنمية الشمولية؟ وإلى أي مدى ستتمكن الجهوية الموسعة المرتقبة من تجاوز الإكراهات المجالية والتنموية والسياسية المعاشة حاليا؟
إن الحديث عن نوع مغاير من الجهوية ببلادنا ليس وليد اليوم[3]، كما أن العديد من الدول لم تعد فيها الجهوية ضرورة اقتصادية وإدارية فقط إذ أمام تراكم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي وصلت إلى الحد الذي أصبحت فيه الدولة المركزية عاجزة وحدها على إيجاد الحلول اللازمة لحلها، فقد تبنت نوعا جديدا من الجهوية تمنح بفضلها الوحدات الترابية التحتية هامشا أوسع في التسيير الذاتي والتخلص من المركزية الضيقة، كما أنه بفضلها ستمكن العديد من الدول – بينها المغرب- من إيجاد حل لمشاكلها الترابية وتكريس جهودها من أجل تدعيم التنمية المحلية في إطار اللحمة والوحدة الوطنية، وبلادنا بهذه الخطوة تقتفي أثر بلدان مجاورة وتسير على هدي تجاربها المتطورة في هذا الشأن لاسيما إسبانيا وإيطاليا اللتين استطاعتا بفضل الجهوية السياسية تصحيح الكثير من الاختلالات بين شمالها وجنوبها وتنويم العديد من النزاعات الانفصالية المحتملة داخل ترابها[4]. والتي هددت كيانها ومسيرة تقدمها.
فالمغرب ونظرا للتنوع الإثني والإرث التاريخي والثقافي المميز لبنيته الاجتماعية يستلزم البحث عن وسيلة لتوحيد وتقوية روابط هذا الخليط والفسيفساء تفاديا للانقسامات والنزاعات وتدعيما للوحدة، ولعل السبيل لذلك هو الاعتراف بالحقوق والحريات لمختلف المكونات المحلية عن طريق نظام لا مركزي سياسي متجاوزا بذلك نظام اللامركزية الإدارية.
ومن المؤكد أن الجهوية المعمول بها حاليا وهي جهوية إدارية لا يمكن أن تشكل حلا لقضية الصحراء بل لابد من تطوير الجهوية الإدارية إلى جهوية سياسية قادرة على الحفاظ على الوحدة الترابية للدولة[5]، وإطارا ملائما لحل مشكل الصحراء وإعادة بناء مسلسل المغرب العربي[6]، حيث أكد الملك على "فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية، مؤكدين عزمنا الراسخ على تمكين كافة ساكنتها وأبنائها من التدبير الديمقراطي لشؤونهم المحلية، ضمن مغرب موحد، سواء بإقامة جهوية واسعة وملائمة، وذلك طبقا لإرادتنا الوطنية، أو من خلال الحكم الذاتي المقترح، من تم التوافق السياسي بشأنه واعتماده كحل نهائي من طرف المنتظم الأممي[7]".
فالجهوية إذن مطالبة بالإجابة عن هذه التساؤلات وحل الإشكاليات في إطار حكامة محلية جيدة، ومن خلال تبني وإيجاد تصور شامل للجهوية الموسعة، التي ليست مجرد إجراء تقني وإداري بل توجها حاسما لتطوير وتحديث هيكل الدولة، والنهوض بالتنمية المندمجة وذلك من خلال إشراك كل القوى الحية للأمة في بلورته"[8]. من هنا يأتي تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية قصد إعداد تصور عام لنموذج وطني للجهوية تشمل كل جهات المملكة، ونابع من خصوصيات المغرب، وبعيدا عن اللجوء للتقليد الحرفي أو الاستنساخ الشكلي للتجارب الأجنبية، والغاية من كل هذا تأسيس نموذج مغربي للجهوية.
وبالعودة إلى خطاب 6 نونبر 2008 نجده من بين ما تضمنه خارطة طريق للمشروع الجهوي الموسع أهدافا ومرتكزات ومقاربات، كما أنها تبين أهدافه والمتمثلة في ترسيخ الحكامة المحلية الجيدة، وتعزيز القرب من المواطن وتفعيل التنمية الجهوية المنسجمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
أما المرتكزات التي يتعين أن تقوم عليها الجهوية الموسعة المنشودة فهي:
- التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها في وحدة الدولة والوطن والتراب وأن تكون الجهوية تأكيدا ديمقراطيا لتميز المغرب الغني بتنوع روافده الثقافية والمجالية المنصهرة في هوية وطنية موحدة.
- الالتزام بالتضامن، وأن لا يتم اختزال الجهوية في مجرد توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهات، بل عبر توفير موارد مالية عامة وذاتية.
- اعتماد التوازن في تحديد الاختصاصات الحصرية للدولة مع تمكين المؤسسات الجهوية من الصلاحيات الضرورية للنهوض بمهامها التنموية في مراعاة لمستلزمات العقلنة والانسجام والتكامل.
- انتهاج اللاتمركز الواسع الذي لن تستقيم الجهوية دون تفعيله في إطار حكامة ترابية ناجعة.
أما المقاربة المعتمدة في هذا الإصلاح فهي الديمقراطية والتشاركية، الأمر الذي يجعلها تؤسس لحكامة محلية جيدة.
وهكذا فالمغرب قد راكم تجارب جهوية مليئة بالعبر والدراسات والأرقام والسلبيات، مما يجعل أمر وضع تصور لنظام جهوي جديد ليس بالعمل العسير[9].ويدفع بالتجربة الديمقراطية التنموية إلى الأمام. إذا ما تم استثمار التجارب السابقة والمقارنة بما يخدم الخصوصيات الوطنية والهوية المغربية، كما ينهل من اختلالات واكراهات التجربة التاريخية والتطور التاريخي لبناء الجهوية ببلادنا. إلا أن تمديد وإعطاء فرصة أخرى للجنة الاستشارية لإعداد التصور يظهر أن العمل عسير في خضم التجارب العديدة المقارنة.
وهكذا ومن أجل حكامة محلية جيدة في أفق جهوية موسعة التي تعد المدخل الحقيقي والتوجه الحاسم في التنمية الشمولية في كل أبعادها، لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، يجب إرساء قواعد جهوية ناجعة وفعالة ومبينة عل مرتكزات وأسس متينة، وبهذا يتطلب الأمر تفصيل صلاحيات الهيئة التداولية للجهة والهيئة التنفيذية المنبثقة عنه؛ ومن هنا لابد من :
- إيجاد صيغ قانونية لتفعيل نقل الاختصاص من الدولة إلى الجهات بوضع إطار قانوني ينظم هذا الانتقال[10].
- إعطاء الجهوية مستوى ترابي أسمى من الجماعات المحلية الأخرى تدعيما للديمقراطية في بعدها الجهوي لتحقيق التنمية المستدامة. وتقوية المؤسسة الجهوية المنتخبة ديمقراطيا بالاقتراع المباشر.
- وضع إطار جهوي تنفيذي وتمكينه من الوسائل البشرية واللوجستيكية المساعدة لتنفيذ البرامج الجهوية.
- إحداث إطار جهوي يستوعب الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والمهنية والمدنية كقوة اقتراحية واستشارية. في نسق شمولي لبلورة ونجاعة القرار الجهوي التنموي. على غرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
- ضرورة نهج سياسة محكمة في عدم التركيز.
- تحديد الجهة على أساس تكوين مجموعة متجانسة ومندمجة، وتغليب نوعية المجال الجهوي على المعيار الكمي، وعدم الاعتماد على الإقليم كقاعدة للتقسيم مع إعطاء الاهتمام للطاقات والخصائص الاقتصادية والاجتماعية والبشرية للمكونات الترابية مما يجعل البعد التنموي الغالب[11].
- توفير الموارد المالية للجهة.
- ضمان التمثيلية النسائية في المجالس الجهوية وإدماج مقاربة النوع في البرامج والسياسات الجهوية.
- إعطاء صلاحيات للجهات بإبرام لاتفاقيات دولية ذات طابع اقتصادي واجتماعي والتي لا تكلف عبئا ماليا على الدولة.
- إعادة تنظيم الوصاية من خلال إعطائها صبغة قضائية سواء على مستوى المحاكم الإدارية أو المجالس الجهوية للحسابات.
- العمل في إطار الشفافية لتدبير الشؤون الجهوية سواء أثناء التخطيط والبرمجة أو اتخاذ القرار.
ولعل هاته المرتكزات وغيرها لمن شأنه أن يجعل الجهوية الموسعة فضاء أمثل للديمقراطية المحلية واللامركزية والاستيعاب جميع المكونات المجتمعية وفضاء لتكريس أسس الحكامة المحلية الجيدة، وكسب رهان التنمية الجهوية والوطنية.
وبصفة عامة يمكن القول على أن الجهة كجماعة محلية أو في إطار التصور الجديد للجهوية الموسعة معول عليها للنهوض بالتنمية بكل أبعادها وتمظهراتها. واستيعاب العديد من الإشكالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمجالية، مما يجعلها إطارا لإرساء حكامة محلية جيدة. بما يخدم صناعة القرار التنموي المحلي ويفعل التنمية المحلية ويراهن على التنمية الشمولية.
[1] - الحسين الوزاني الشاهدي: "الجهة أداة لتطوير ودعم اللامركزية"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية. عدد 35، 2000، ص 33.
[2] - أحمد أجعون: "علاقة الجهة بالإدارة المركزية في المملكة المغربية"، المجلة المغربية لأنظمة القانونية والسياسية، عدد خاص السنة الرابعة 2005، ص 24.
[3] - لقد جاء ذلك على لسان الملك الراحل في كتابه ذاكرة ملك حيث قال: "إن المغرب بمثابة فسيفساء بشرية وجغرافية، ولهذا أريد تحقيق اللامركزية، لأترك يوما الجهات تتمتع باستقلالية كبيرة على شاكلة المقاطعات الألمانية لاندر، وذلك سيكون بالتأكيد في مصلحة المغرب الحديث، بحيث يكون التنفيذ أسرع والتطور أكثر واقعية، فالمغرب حباه الله بتنوع رائع لأنه يزخر من الناحية الجغرافية بصحراء شاسعة وواحات نخيل وارفة الظلال وثلوج تكسو جباله وسهول خصبة، فضلا عن سواحل مترامية الأطراف على المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. ولا ينقصه إلا صقيع القطب الجنوبي". الحسن الثاني: "ذاكرة ملك" منشورات الشركة السعودية للأبحاث والنشر. الطبعة الثانية 1993، ص 125.
[4] - عبد الكبير يحيا:" تقسيم التراب والسياسة الجهوية بالمغرب: نحو اعتماد جهوية سياسية"، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية. ع 84، الطبعة الأولى 2010، ص 332.
[5] - محمد بوبوش: "الجهوية السياسية كأداة لتجاوز مشكل الصحراء"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة عدد 52، 2006ن ص 98.
[6]- Saâdia Ben Hachem El Harrouni : « La construction régionale au Maroc : dynamique et enjeux ». Publication de REMALD, Série « Manuels et Travaux Universitaires», n° 60, 1ère édition 2008. p 484.
[7] - خطاب الملك بتاريخ 6 نونبر 2008.
[8] - خطاب الملك بتاريخ 4 يناير 2010 بمناسبة تنصيب أعضاء اللجنة الاستشارية المكلفة بوضع تصور حول الجهوية.
[9] - رشيد لبكر: "رهان التنمية في مسار الجهوية بالمغرب" مسالك الفكر والسياسة والاقتصاد، عدد مزدوج 13-14، 2010
ص 57.
[10] - المهدي بنمير: "الحكامة المحلية بالمغرب وسؤال التنمية البشرية"، مطبعة وليلي، الطبعة الأولى مراكش 2010، ص 51.
[11] - عبد الكبير يحيا: م.س، ص 212.
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى