إصلاح العدالة ليس مطلبا لذاته، بل في توفير مداخل البناء الديمقراطي والتحفيز على الاستثمار ناهيك عن حماية الحقوق والحريات، وما سيتبع ذلك من ترسيخ دولة الحق والمؤسسات وتكريس ثقافة حقوق الإنسان. وقد مهدت لهذا الإصلاح مرجعيات خطاب العرش لسنة 2008 الذي دعا فيه جلالة الملك إلى تبني حوار واسع لبلورة مخطط للإصلاح العميق للقضاء منحته مناعة وشرعية للقضاء وأكسبته مشروعية استمدت روحها من أعلى سلطة في البلاد ترجمته بجلاء. والخطاب الملكي الصادر في 20غشت 2009 الذي وضع خارطة طريقه بتحديث المحاور الأساسية للإصلاح وتوج ذلك بتصويت المغاربة على دستور. فاتح يوليوز 2011 الذي تناول السلطة القضائية، التي غدت مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. والتنصيص على حقوق المتقاضيين وقواعد سير العدالة ودور القضاء في حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم. فشكل بذلك الدستور الجديد مع الخطابات الملكية السامية ملحمة ترجمت بجلاء إرادة مشتركة بين ملك البلاد وشعبه بالاتفاق على أبجديات الانخراط في إصلاح القضاء وتخليقه وعصرنته وترسيخ استقلاله، وذلك لا يتأتى إلا بتبني هندسة علمية متينة ووفق مقاربة تتوخي إصلاحا عميقا وشاملا لمنظومة العدالة. وذلك لا يتحقق إلا بوضع إستراتيجية تنطلق من التشخيص للوقوف على مكامن الإصلاح. وتنتهي بوضع فلسفته العامة وأسسه النظرية القابلة للتطبيق.
أولا- حول المقاربة المعتمدة:
غني عن البيان، أن إصلاح منظومة العدالة يعد ورشا اجتماعيا بامتياز يهم جميع مكونات المجتمع المغربي فهو غير مقتصر على المنتمين لهيأة العدالة وحدهم. مما يجب معه استحضار تبنى إستراتيجية تهم جميع المكونات والأطياف والحساسيات في أفق تبني مقاربة تشاركية مندمجة. وقد استلهمت الهيأة العليا للحوار معالم المقاربة التشاركية المندمجة من التوجيهات الملكية السامية التي مافتئ جلالة الملك يدعو إلى الأخذ بها، سيما على مستوى ورش تبوء مكانة مركزية في هرم الدولة .
وتمظهرت الفلسفة العامة لهده المقاربة، كما رسمت معالمها التوجيهات الملكية سيما خطاب 8 ماي 2011 بمناسبة تنصيب الهيأة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة في الصور التالية :
- توسيع دائرة مكونات الهيأة العليا لتضم كل الفعاليات
- التركيز على بعد النجاعة في انتقاء أشخاص مكونات الهيأة المشهود لهم بالتجربة والحنكة والمعرفة الكافية والاضطلاع الواسع.
- الحرص على مراعاة التخصص واختلاف المشارب العلمية لمكونات الهيأة.
- مراعاة التعددية وتوسيع دائرتها حيث ضمت الهيأة في البداية 175 عضوا لترتفع إلى 190 عضوا.
- استحضار طابع التكامل والتناغم بين الأعضاء المكونة الهيأة.
بالنتيجة توخت التركيبة التعددية للهيأة العليا عكس الفلسفة أو التصور الذي أريد لها بأن تشارك وتدمج في تكوينها جميع المؤسسات الدستورية والقطاعات الحكومية والقضائية وتمثيلية المجتمع المدني ومختلف الفعاليات المؤهلة المعنية بإصلاح منظومة العدالة.
وتكمن أهمية المقاربة التشاركية المندمجة في الانصهار في مشروع الإصلاح وتوحيد الرؤى بشأن محاوره وفلسفة وإغناء أطروحات معالجة وبناء نظام متكامل تغذيه خبرات متنوعة ووجهات نظر مختلفة تتلاقح وتتناغم في أفق التأسيس لمشروع مجتمعي تفرض راهنيته بلورة نظام قضائي مستقل ناجع وقوي يوفر الحماية الفعلية للمراكز القانونية للأفراد والجماعات.
وقد ترجم عمل الهيأة العليا بوضع ميثاقها في يوليوز 2013 ضمنت ما وصلت إليه من استنتاجات، وما وضعته من خلاصات ترى أنها كفيلة بإصلاح منظومة العدالة. وقد وصلت إلى المعطيات المضمنة بالميثاق عبر اعتماد سلسلة من الآليات وحصرها على الشكل التالي :
* الحوار الداخلي على صعيد الهيأة العليا
* مجموعات العمل الموضوعاتية
*الندوات الجهوية للحوار
*الاستعانة بالخبرات الأجنبية
*الزيارات الاستطلاعية
*الندوات المواكبة على صعيد المحاكم
*الزيارات الميدانية للدوائر القضائية
*الأيام الدراسية مع المسؤولين القضائيين ومسؤولي كتابة الضبط
*الاقتراحات المكتوبة لمختلف الهيآت المعنية
*النافذة الالكترونية للحوار بالموقع الالكتروني لوزارة العدل والحريات.
كل هذه الآليات وضعت لتوفير شروط إصلاح شمولي وعميق لمنظومة العدالة وفق مقاربة إصلاحية تأحذ بعين الاعتبار الجانب المؤسساتي والتشريعي والموارد البشرية وموضعها في إطار مشروع نظام متكامل يتم تتويجه بحوار مع جميع المنتسبين والمهتمين بإصلاح العدالة بهدف التوافق على أطروحاته والتنزيل لمضامينه .
ثانيا: استراتيجيات الإصلاح
كان لزاما على الهيأة العليا لإصلاح منظومة العدالة تبني رؤية علمية وفق منهج تشاركي يربط مقدمات الإصلاح بنتائجه. تمحور حول الأسس العامة بدءا من تشخيص وضعها وراهنيتها، انتهاء بوضع الحلول المناسبة لها للنهوض بقطاع يعتبر حجر الزاوية في بناء صرح الدولة الديمقراطية، فشمل الإصلاح ست ركائز أساسية تشكل لبنات العدالة جسدت الأهداف الإستراتيجية الكبرى.
1 - على مستوى استقلال القضاء
ظل القضاء يتأرجح بين اعتباره وظيفة من وظائف الدولة وبين تبوئه مكانة في البناء المؤسساتي باعتباره سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، هذه الاستقلالية التي كانت تشوبها جملة من الأعطاب والاختلالات أضعفت من ظهورها بمظهر السلطة المكونة لبناء الدولة مع ما يترتب عن ذلك من نتائج التبعية والخضوع لمنطق التعليمات، وبالتالي إصابة الجسم القضائي بالترهل وضياع الحقوق ونشوء الممارسات المنحرفة وتقويض عرى الثقة وشيوع الفساد وأفول مؤشرات بناء دولة الحق والمؤسسات وسيادة القانون.
وتمظهر هذا التأرجح والضعف في تبعية جزء من القضاء وخضوعه لسلطات وزير العدل والحريات الذي يقوم بإدارة مرفق القضاء وتدبير طرق سيره وتنظيمه من خلال المذكرات والرسائل والدوريات التي يقوم بتعميمها على المسؤولين القضائيين تعكس السياسة الإدارية للسلطة التنفيذية، ناهيك عن استئثار وزير العدل والحريات بمجموعة من الصلاحيات تقوي من مركزه الإداري والقانوني من قبيل توقيف القضاة وانتدابهم ونقلهم والتعيين في بعض الاختصاصات كالتحقيق والأمر وتطبيق العقوبات وقضاء الأحداث, وترأسه للمجلس الأعلى للقضاء نيابة عن الملك، إضافة إلى تبعية قضاة النيابة العامة لسلطات الوزير وما يترتب عن ذلك من تقوية منطق التعليمات وتكريس مفهوم الدولة البوليسية العميقة مما يؤثر على البناء الديمقراطي وشيوع ثقافة حقوق الإنسان.
بقلم: أحمد قيلش
جريدة الصباح الاثنين, 17 فبراير 2014
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى