إذا كان للمغرب سياسات جنائية متعددة، فإن مختلف الفاعلين أجمعوا على كونها كانت فاشلة، وهو ما تمت ملامسته خلال ندوة السياسة الجنائية بالمغرب المنعقدة بإشراف وزارة العدل بمكناس. إذ دلت المداخلات المتوالية حينها على أن سياسة التجريم والعقاب تعرف مأزقا حقيقيا، لدرجة أن الإحصائيات التي تم الإفصاح عنها عندئذ أعطت الدليل
على وجود اضطراب واضح في رسم معالم سياسة جنائية لها قواعدها العلمية وآفاقها العملية وتأثيراتها الواقعية .
ففي الوقت الذي كان منتظرا أن يشهد فيه المغرب طفرة حقوقية حقيقية على المستوى التشريعي وخاصة عند صدور قانون المسطرة الجنائية الجديد لسنة 2002، نجد نوعا من الإصرار الغريب على التركيز على مؤسسة وزير العدل وإعطائه دورا محوريا في تطبيق السياسة الجنائية، ولعل تفسير ذلك ينطلق من النظرة التي تعتبر أن رسم السياسة الجنائية هو عمل حكومي صرف وبالتالي، فإن الحكومة يجب أن تتوفر على جهة تنفيذية هي التي تتولى تنفيذ السياسة الجنائية التي ترسمها.
إن هذه النظرة الاحتكارية، كانت في ظل الظروف الماضية تحتكم بالإضافة إلى ما سبق، إلى معطى أساسي وجوهري يتمثل في أن الدولة المغربية تعتبر القضاء وظيفة من الوظائف التابعة لوزارة العدل وبالتالي، فإن تكليف وزير العدل بتنفيذ السياسة الجنائية والسهر على ذلك التنفيذ كان يسير في السياق نفسه، إلا أن الأمر لم يعد كما كان عليه الأمر في ظل دستور 2011.
ولقد كانت لتلك السياسة آثار سلبية استشعرها الجميع كما سبقت الإشارة إلى ذلك، والعلة في وجود تلك الآثار تكمن في كون سياسة التجريم والعقاب ترسم في غياب تام لأهم جهة موكول لها مهمة التنفيذ ألا وهو السلطة القضائية، إذ أن الإقصاء المتواصل لرجال السلطة القضائية عند رسم سياسة جنائية يفوت على الجهات المعنية معرفة الإكراهات التي تعترض تطبيق المقتضيات التشريعية الجنائية. فإذا كان من الممكن التسليم بكون القطاع الحكومي يملك من المعطيات الأمنية ما يؤهله لإعطاء رؤية عن واقع الجريمة والانحراف في المجتمع، فإن تلك الإمكانية لوحدها غير كافية لضمان نتائج مرضية لسياسة جنائية منتجة. لذلك فقد كان لزاما على الدولة المغربية أن تعيد النظر في منهجية اعتماد سياساتها الجنائية، خاصة وأن عدم إشراك أهم الفاعلين في رسم السياسة الجنائية، سيساهم في إحداث نوع من القطيعة بين التوجهات التي حكمت صناعة قرار السياسة الجنائية، وتلك التي ستحكم تنفيذها، ومن هذا الاختلاف في التوجهات تنشأ مجموعة من الإشكالات التي تلقي بظلالها على المشهد الحقوقي المغربي، ولعل معضلة الاعتقال الاحتياطي تعتبر مثالا صارخا على نوع القطيعة الموجودة بين التصورات والمؤسسات كذلك.
فإذا كانت السياسة الجنائية تهتم بشقي التجريم والعقاب أساسا، فإن تلك السياسة يجب أن تتنبه إلى ضرورة ضمان وحدة الانسجام المؤسساتي، ذلك أنه لا يعقل في ظل الواقع الحالي أن ترسم سياسة جنائية بعيدة عن أعين السلطة القضائية، ويطلب من هذه الأخيرة أن تنفذها، وبعد إصدار الأحكام ترفع يد القضاء عن متابعة شروط تنفيذ العقوبات وظروفها.
وهنا نمثل لهذا الواقع غير السليم بالقانون المنظم للسجون بالمغرب، والذي يعطي سلطة الإشراف لجهة حكومية وغير قضائية على تلك المؤسسات في الوقت الذي يتعين فيه أن تفرض رقابة قضائية على تلك المؤسسات، من أجل السهر والإشراف على ظروف تطبيق العقوبة وتنفيذها.
إن هذا الخلل في الرؤية للسياسة الجنائية من شأنه أن يرتب نتائج سلبية مختلفة لا تتوقف حصرا في ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي أو وجود شرخ في التصورات بين الوضع والتنفيذ، وإنما في مجالات أخرى وعلى رأسها التشريع ذاته. وفي هذا السياق يمكن إثارة الانتباه إلى أن تجريم الأفعال أو إباحتها بعد التجريم يجب أن يخضع لضوابط صارمة وعلمية وموضوعية، وفي غياب هذه المعايير فإن أي سياسة جنائية ستكون محكومة بالفشل، وبالتالي فإن السياسة التشريعية في الميدان الجنائي يجب أن تؤسس على نوع من التشارك بين مجموع الفاعلين والمتدخلين في ميدان مكافحة الجريمة وحماية حقوق الإنسان وحرياته.
آفاق السياسة الجنائية المغربية
إن الوضع القاتم الذي كانت ترسم فيه السياسات الجنائية السابقة تغير بشكل كبير وخاصة بعد إقرار دستور سنة 2011، إذ أن أول مظهر من مظاهر التغير هو إعادة النظر في بناء السلط والمؤسسات وإعادة توزيع أدوارها. إن التعديلات الدستورية التي شهدها المغرب لم تستكمل دورتها بعد، إذ لابد من أن تتوج تلك التعديلات بطفرة تشريعية تفضي إلى إيجاد قوانين منسجمة مع المقتضيات الدستورية الجديدة وما التزم به المغرب أمام المنتظم الدولي من تشبثه بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا. ومن هذا المنطلق نجد أنفسنا مجبرين على إعادة النظر في التمثلات والأسس التي تحكم بناء سياسة جنائية فاعلة وعلمية.
وبهذه المناسبة يمكن القول بأن الدستور المغربي الجديد أسس لأمرين اثنين:
أولهما التأكيد على سمو الاتفاقيات الدولية على التشريع الوطني في مجال الحقوق والحريات، وهوما يجب أن ينعكس على مستوى السياسةالتشريعية، وخاصة ما ارتبط منها بالجانب الجنائي، إذ أن أنسنة هذه السياسة يجب أن تصبح أمرا محتوما ومسلما به.
وثانيهما هو تقرير مبدأ الفصل التام بين السلطة القضائية والسلطتين التشريعية والتنفيذية، كما أن هذا الفصل لا يتصور أن يكون جامدا، لذلك فإن نوعا من التعاون يجب أن يسود عمل السلطات الثلاث، ومن هنا يجب التذكير، بأن رسم أي سياسة سيكون للسلطة القضائية فيها دور يجب أن يكون مسبوقا بإشراك هذه الأخيرة في صياغتها.
وفي هذا السياق نود القول بأن الدستور الذي أوكل للسلطة القضائية ممثلة في القاضي مهمة حماية الحقوق والحريات، قد أوجب بطريق غير مباشر على السلطتين التشريعية والتنفيذية أخذ رأي السلطة القضائية في كل ما يتعلق بمسألة التجريم والعقاب، على اعتبار أنها تمس بالحقوق والحريات التي يتعين أن يتمتع بها كل فرد على حدة.
ومن هذا المنطلق، نشير إلى أن الإرادة الحقيقية للدولة المغربية في إشراك السلطة القضائية عبرت عنها من خلال مقتضيات الفصل 113 من الدستور الحالي والتي تنص على أنه : « ... يضع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بمبادرة منه، تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها. يصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان، آراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بسير القضاء مع مراعاة مبدأ فصل السلط «.
*عضو المجلس الأعلى للقضاء
وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى