Wednesday, June 05, 2013

دراسة في القانون: نحو تكريس مفهوم جديد للمحاكمة العادلة (1/3)

إن الاهتمام المتزايد بالإنسان كائنا اجتماعيا له مكانة ودور تحددهما منظومة القيم التي تسود المجتمعات المنظمة، قد أصبح يطرح وبإلحاح هادف ضرورة الانتباه
 إلى كثير من المفاهيم، التي إن كان قد سبق للفكر الحقوقي أن رسخ بها ومن خلال العمل بها أسلوبا راغبا في تحصين منطق التعايش مع الآخر وقبول فكرة
 التساكن معه، فإن حدة التناقضات المجتمعية اليوم ما فتئت تفرز و بالملموس، مدى صعوبة مواكبة هذا الفكر لمدى حاجة الإنسان  لإثبات ذاته كغاية مثلى تفنى من حولها كل الأساليب المبتعدة عن تكريمه واعتبار آدميته.

بداية وقبل الانطلاق في أي حديث عن المحاكمة العادلة، لابد أن نسجل انخراطنا الإيجابي في كل الأوراش الحقوقية المفتوحة بوطننا الغالي، بل لابد أن نؤكد وبكل فخر واعتزاز بمؤسستنا القضائية المغربية، أن طموحنا في مزيد من التفرد للنموذج المغربي هو الذي يدفعنا إلى عدم البخل بمساهماتنا المتواضعة.
تختزل النظرة الضيقة مفهوم التعايش الاجتماعي في صهر الخصوصيات الفردية وتذويبها في ما تقتضيه حياة الجماعة من تشبع بمنطق «القيم المشتركة»، تنسلخ فيها الذات عن أنانية الاستفراد بالنفع لصالح أطروحات – نعتبرها اليوم متجاوزة – تعمل على تنميط سلوكات الفرد وربما تحاول إحكام السيطرة عليها بهدف تخليصها من كل مظاهر التمرد على القيم المجتمعية، ونحن إن كنا نقبل وإلى حد ما أن خصوصيات المجتمع المنظم تقتضي تشذيب فضاء الحقوق والحريات وتهذيب ردود الفعل المجتمعية خدمة للقضايا الإنسانية النبيلة التي تحصن المجتمع لذاته ولأفراده، فيجب أن لا يغرب عن البال أن المقاربة الأضمن لبلوغ ذلك لا تنطلق من إنزال الحقوق والحريات منحا تعبر فيها التشريعات عن مدى سخائها، بل تهتم بما ستؤول إليه الممارسة من احتواء وتجاوب مع روح منظومة حقوق الإنسان، لأنه على أي حال الدليل القطعي على مدى سلامة الخطاب التشريعي ومدى توفقه في اختيار المنهجية الملائمة لإبراز دوره.
إذن هناك إشكال – على الأقل في نظرنا المتواضع – على مستوى المكانة التي ينبغي الاعتراف بها للفرد الإنسان داخل المجتمع.  ومن دون المغالاة في البحث عن إرضائه، ومن دون الانسياق كذلك وراء السمو به إلى حياة لا علاقة لها بتلك التي نعيشها و ننفعل بمتناقضاتها، نقول إنه إذا كان الفكر الحقوقي لازال يبحث له عن وضعية قانونية تلائمه اجتماعيا، فما من شك أن الطريقة المثلى لمحاكمته لا يمكن سوى أن تكون مستعصية، ليس فقط لأن مفهوم المحاكمة كان وربما سيظل موضوعا يحمل كثيرا من الاختزال، بل أيضا لأن الاتفاق حوله شبه مستبعد، على الأقل إذا استحضرنا وبشكل موضوعي التباين الواضح الذي يسود فضاءات الفكر الذي يؤسس له. 
وقد نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول إلى أن موضوع المحاكمة في حد ذاته، وانطلاقا من طبيعة اشتغاله وتنوع مجالات توظيفه لا يرتبط بتاتا بتأصيل نظري يحتاج إلى توحيد الاجتهاد حوله عاصفا بكل الحدود الجغرافية والسياسية والثقافية …، بل هو مجال تحكمه إكراهات الممارسة وتواجه فيه حقيقة إنسانية بامتياز.
 ولعل الأمر يزيد تعقيدا عندما نبحث للمحاكمة عن وصف العدل، خصوصا عندما يطلب منا أن نجتهد لنضع لذلك شروطا أو ضمانات أو معايير…، وكلها باعتقادنا تؤكد حقيقة واحدة، أن المجتمع الدولي واع تمام الوعي أن مفهوم المحاكمة العادلة هدف أسمى يلتزم فتح أوراش إصلاحية كبرى، ليس فقط من قبل الدول التي اهتدت إلى المراهنة على التمسك بمقتضيات الحق والقانون كما هو الشأن بالنسبة إلى بلدنا، بل أيضا بالنسبة للدول التي قطعت أشواطا في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولنأخذ مثلا فرنسا التي فتحت مؤخرا مجالات عميقة لإصلاح العدالة عموما والجنائية منها على الخصوص، ليتأكد لنا أن موضوع المحاكمة العادلة ليس خطابا فوقيا توجهه الدول المتقدمة إلى الدول النامية، أو هو مراهنة اختباريه لمدى التزام هذه الأخيرة بفتاوى الدول الأولى في مجالات الإصلاح والتنمية، بل هو توجه حضاري انتهى إلى أن كرامة الإنسان واحترام آدميته هو المنطلق السليم لمواجهة كل التحديات سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية : وما المشاكل الحادة التي تواجهها الدول اليوم، خصوصا منها المتقدمة لمكافحة ظاهرة الجريمة إلا مؤشر على تغييب هذه الحقيقة الإنسانية الدالة على أن القوانين إنما تسن لتأطير سلوك المواطنين لا لابتكار نماذج خاصة من السلوك. 
ومع ذلك، لا بد أن نعترف أن القوانين مهما ظهر عيبها وانكشفت صعوبة احتوائها للحقائق الإنسانية محور تنظيمها، ستظل دائما بحاجة إلى خبرة الممارسة وكثير من النضج على مستوى التطبيق : فهذه المحطة الضرورية، فضلا عن أنها تضفي الهامش المطلوب من النجاعة على المجهود التشريعي المبذول، فالفلسفة التشريعية ذاتها إنما تبنى حقائقها القانونية لا حقائق ثابتة – بمفهوم الجمود– يتم إسقاطها على الواقع، بل حقائق نسبية يكملها هذا الأخير بتنوعه ومتغيراته، ومن ثم يصبح لمفهوم المحاكمة العادلة أهمية قصوى، لأن استحضاره ينمي لدى الفرد الإنسان الوعي بمصداقية الخطاب التشريعي وكذا ضرورته، والتمسك به يكرس المعادلة المطلوبة بين مدى حاجة المجتمع إلى التنظيم وبين مدى اعتبار الفرد الإنسان مخاطبا حقيقيا لا يقل عنه شأنا أو يفضله.
لن نكون مبالغين إذا قلنا إن موضوع «المحاكمة العادلة» يعتبر من المواضيع الأكثر حساسية لأنه أصبح رهان الدول الحديثة التي اهتدت، عن صواب، إلى أن ضمان الأمن والاستقرار للأفراد كالتزام تقليدي يقع على عاتقها لا ينبغي أن يذهب بها إلى حد حسم المعادلة لفائدة المجتمع، الذي مهما عبرت ردود أفعاله عن مطالب مشروعة ونزيهة، يجب أن لا تصل إلى حد تغييب الحقيقة الإنسانية عن مفهوم التعايش الاجتماعي، و لعله البعد الحضاري الذي تروم دولة الحق ملامسته، لأن أساس الحفاظ على المجتمع وضمان تماسكه يقتضي ضرورة الانتباه لمختلف مظاهر التمرد على القيم المجتمعية، ليس بهدف إقصائها أو إبراز كثير من القسوة في ردعها، بل رغبة في احتوائها كحقائق واقعية ملازمة لحركية المجتمع، تتطلب من الدولة أجوبة مقنعة باعتبارها المؤتمن الأول على تدبير التناقضات المجتمعية، وهي مهمة كما تضمن للمجتمع أمنه واستقراره فهي تضمن للفرد كذلك ما يقيه كل مظاهر التعسف. ولعلها الغاية المثلى التي تتوخاها المحاكمة العادلة، فهذه الأخيرة لا تعني تساهلا أو تبريرا للسلوك المناوئ للمجتمع، بل هي فقط طريقة قضائية تمكن من احتواء السلوك ذاته وتفريد الحل القانوني الذي يلائم خطورته الاجتماعية الحقيقية لا المفترضة.

بقلم: د. فريد السموني,  أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بالمحمدية

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا