Saturday, June 15, 2013

دراسة في القانون: إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب (الحلقة الثالثة)

عرفت الساحة الثقافية مؤخرا ميلاد كتاب جديد ازدانت به المكتبة القانونية المغربية، ويتعلق الأمر بأطروحة دكتوراه في القانون تحت عنوان «إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب، اختار لها كاتبها موضوعا رائدا استعاض فيه عن مقاربة إصلاح القضاء التي تبقى في نظره محدودة في الزمان والمكان، بمقاربة أكثر شمولية 
هي مقاربة «تنمية العدالة» التي لا يكون فيها إصلاح القضاء هدفا في حد ذاته، وإنما مجرد وسيلة لتحقيق هدف أسمى
 ألا وهو تحقيق التنمية البشرية مأخوذة من زاوية العدالة، المؤسسة والقيمة الفلسفية. تنفيذا لتوجيهات جلالته السامية أحدثت لجنتان تمثلت مهمتهما في إنجاز تقويم استرجاعي لمسار التنمية البشرية بالمغرب منذ الاستقلال، واستشراف آفاقها، على مدى العشرين سنة القادمة. وبالفعل تمت بلورة المشروع في صيغة تقرير يحمل عنوان «50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025» تمحور حول مفهوم «الكائن البشري» الذي يعد، في الوقت ذاته، محرك التنمية البشرية وغايتها. وفي ضوء ذلك تم تقويم ما حققته بلادنا، دولة ومجتمعا، من تقدم وما اعتراها من نقائص، وذلك من خلال خمسة محاور استرجاعية لمسار المغرب وهي :  
تطور الإمكان البشري للمغرب شعبا :الديموغرافيا والساكنة، المجتمع والتراث الجماعي، المكون الطبيعي للثقافة.
تحرير الإمكان البشري للبلاد دولة: المسار المؤسساتي، البناء الديمقراطي والحكامة.
تثمين الإمكان البشري، باعتباره حياة وتجليات : الصحة، التربية، ولوج الخدمات الأساسية، الحماية الاجتماعية ومحاربة الفقر.
تعبئة الإمكان البشري، من حيث هو قوة عمل وإنتاج للثروات : الاقتصاد والشغل.
الإمكان المادي والطبيعي، بوصفه إطارا وموردا للتنمية البشرية : تدبير الموروث الطبيعي والمادي، المجالات الترابية والبنيات التحتية.
وبغض النظر عن النتائج التي تم التوصل إليها، فإن المشروع قدم فائدة أساسية تمثلت في أنه وضع يده على المفهوم الحقيقي للتنمية باعتبارها مسلسلا للتغيير يكون الإنسان وسيلته وغايته الفضلى في آن واحد، كما أنه ساهم في «.. تغذية النقاش العمومي وفتحه على أوسع نطاق، حول السياسات العمومية التي يتعين تفعيلها في المستقبل القريب والبعيد..». وفي إطار هذا النقاش العمومي الذي لا تقدر فضائله بثمن، تدخل مساهمتي هذه التي أتمنى أن تكون مفيدة.
إن النظرة القطاعية التي تختزلها مفاهيم الإصلاح ورد الاعتبار التي تم اعتمادها في السابق للنهوض بمرفق القضاء بقيت قاصرة ولم تحقق الغايات المرجوة، لذلك لاقت انتقاد محرري تقرير التنمية البشرية بالمغرب باعتبارها شكلت إحدى العقبات الرئيسية في وجه ظهور حكامة جيدة «..إن تحليل تجربة خمسين سنة الأخيرة، يثير بقوة، مسألة جوهرية أخرى، تتعلق بإشكالية الحكامة سواء على صعيد المركز أو المجالات الترابية، أو القطاعات العمومية أو الخاصة .. بالإضافة إلى الانحرافات والممارسات غير القانونية، يمكن تسجيل أشكال أخرى من العجز من قبيل تفضيل هيمنة النظرة القطاعية الضيقة، والكفاءة غير المتساوية.
وفي المقابل تقدم النظرة الشمولية التي توفرها مقاربة تنمية العدالة، إلى جانب جميع الفوائد التي أشرت إليها في البداية، إمكانية تجاوز الصعوبات التي تثيرها النظرة القطاعية. 
إن «الكائن البشري» الذي تمحور حوله تقرير»50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025» هو نفسه «الكائن البشري» الذي يتمحور حوله موضوع هذه المساهمة. فهذا الكائن، في مجالنا هذا، يجب أن ينظر إليه على أنه وسيلة التنمية القضائية وغايتها الأساسية في الوقت نفسه. وعلى هذا لا يكفي الاعتراف له بالحق في ولوج الخدمات الأساسية ومن ضمنها خدمات القضاء، وإنما ينبغي تقويته من خلال تمكينه بداية من جميع الآليات القانونية وغيرها التي تسمح له بالممارسة الفعلية لذلك الحق، ومن خلال إزالة جميع العوائق والحواجز التي تحول بينه وبين التمتع الفعلي الكامل بذلك الحق، سواء تعلق الأمر بحواجز موضوعية كالحكامة،  أو بحواجز ذاتية كالفقر والأمية وما شاكلهما انتهاء. وعليه فإن معالجة موضوع تنمية العدالة تمر بالضرورة التطرق لمبدأ الولوج إلى العدالة أولا وللإدارة القضائية ثانيا. 
إذا كان حاضرنا يرتكز على ماضينا لاستشراف مستقبلنا، وإذا كان الحق في ولوج العدالة أحد تجليات فكرة الديمقراطية ، فإنه يتعين علينا أن نشرع بالتأصيل لهذا الحق عسى أن تفيدنا هذه العملية في معرفة ما يجب علينا أن نفعله لتطوير الحق في ولوج العدالة المغربية في ارتباط مع ثقافة حقوق الإنسان عموما ومع الثقافة القضائية الايجابية على وجه الخصوص. إن أي مبادرة تتخذ في هذا الإطار لابد أن تستهدف مضامين هذا الحق بكيفية شاملة ومندمجة. إن من مصلحة المواطن كما من مصلحة العدالة أن تسود الشفافية العلاقة بينهما، وهذا أمر لن يتأتى إلا إذا تمتع بحق فعلي في الإعلام والإرشاد والتوجيه. كذلك تفقد العدالة كل معانيها إذا تعذر على المواطن ولوجها، إما لأن تكاليفها تتجاوز قدراته، أو لأن بناياتها بعيدة عن متناوله، أو لأنها بطيئة تصدر أحكامها في آجال مبالغ فيها، أو كذلك لأن تلك الأحكام لا تجد طريقها إلى التنفيذ. لكن ما طبيعة ونوع هذه العدالة التي يتعين علينا تيسير ولوج «الكائن البشري» إليها ؟
إن نوع العدالة التي تسود في كل بلاد رهين إلى حدود بعيدة بنوع ومستوى القضاة الذين يخدمونها، ولذلك نجد المجتمعات الديموقراطية تولي عناية كبيرة لاختيار الأشخاص الذين يضطلعون بمهمة القضاء من بين أصحاب الأخلاق والكفاءة المهنية العالية. وهي لا تقف عند هذا المستوى، وإنما تهيئ لهم كذلك من الوسائل والإمكانيات ما يكفي لتكوينهم التكوين الجيد ضمانا لأعلى مستويات الخبرة. والمغرب كغيره من البلدان سار على النهج نفسه بحيث وضع معايير دقيقة لاختيار المرشحين لمنصب القضاء وتكوينهم وضمان تكوينهم المستمر. والتساؤل الذي يطرح حاليا هو إلى أي حد وفق المغرب في اختياراته وإلى أي حد استطاع أن يلبي احتياجات قطاع العدالة على هذا المستوى ؟.

بقلم: رشيد صادوق, دكتور في الحقوق

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا