مثلما تأثر القانون بالعولمة ، فإن المهن القضائية والقانونية لم تنج من تأثير العولمة الاقتصادية، ذلك أن الاستثمارات الأجنبية المتدفقة على الأسواق العذراء بالدول النامية تحتاج لا محالة إلى موثقين ومحامين ملمين بأحكام عقود التجارة الدولية وعقود الاستثمار، عارفين بقواعد القانون الدولي الخاص وبقواعد التحكيم التجاري الدولي وغيره من بدائل حل المنازعات خارج مؤسسة القضاء ، مطلعين على اللغات الحية وعلى أهم ما وصلت إليه تقنيات الاتصال والتواصل؛ من هنا جاءت الإشكالية المحورية التي يعالجها الموضوع والمتمثلة في مدى تأثير العولمة الاقتصادية على المهن القضائية
والقانونية عموما ومهنة المحاماة على وجه الخصوص، على اعتبار أن مهنة المحاماة هي خدمة قانونية يقدمها المحامي للغير، سواء كان شخصا طبيعيا أو اعتباريا، وطنيا أو أجنبيا.
شكك كثير من رجال القانون في قدرة المحامي المغربي بالنظر إلى واقعه الحالي – سواء كان شخصا طبيعيا أو اعتباريا – على الصمود أمام تيار العولمة الجارف، ويرجعون ذلك إلى عدة عوامل نذكر منها:
ضعف مركز المحامي المغربي
إن حرية تنقل الخدمات – المحاماة خدمة قانونية – سيستفيد منها لا محالة المحامون الأجانب دون المغاربة، إذ يكون من العسير على المحامي المغربي أن ينتقل لمزاولة المهمة بالخارج، والعلة في ذلك كما هو الحال بالنسبة إلى المنتجات الاقتصادية المغربية، هو عجز المحامي المغربي على منافسة المحامي الأجنبي لعدة أسباب منها :
1 - أن المحامي المغربي ألف التعامل مع النظام القانوني المغربي أكثر من غيره.
2 - نقصان التكوين والصعوبة في الوصول إلى المعلومة القانونية في المغرب فبالأحرى خارج المغرب.
3 - عدم التوفر على الإمكانيات المادية الكافية التي تسمح له بفتح مكتب بالخارج.
4 - عدم توفر المحامي المغربي على الكفاءة اللازمة لقبوله بالمكاتب الأجنبية.
5 - عائق اللغة التي يعانيها المحامي المغربي باستثناء القلة القليلة التي درست بالأقسام الفرنسية، ما تجعل المحامين المغاربة المعربين لا يجرؤون على التفكير في الممارسة في البلدان التي تعتمد غير اللغة العربية لغة رسمية قانونية، ذلك أن الاشتغال باللغة القانونية المتخصصة يفترض إتقانها وليس مجرد استعمالها عرضا واعتباريا.
امتياز المحامين الأجانب
لقد أصبحت الشركات الأجنبية المستثمرة في المغرب تشترط اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي، وتحدد سلفا الاختصاص القانوني والقضائي حال وجود منازعة بدل اللجوء إلى القضاء المغربي، والبحث عن محامي قد لا يرقى إلى مستوى طموحاتها في الدفاع عن مصالحها، بل إن المقاولات الأجنبية المستقرة في المغرب لها مستشارون قانونيون من بينهم محامون أجانب لا يجدون عناء في التعرف على القانون المغربي، طالما أن هذا القانون في غالبيته منسوخ عن القوانين تنتمي لى العائلة اللاتينية الجرمانية كالقانون الفرنسي الذي يعتبر مرجعا للقانون المغربي بفضل العلاقة التاريخية بين البلدين.
ومعنى هذا، أن نطاق ممارسة المهني المغربي ستتقلص، فشرط التحكيم يمنع عرض النزاع على القضاء ويجعله أمام هيآت لا يحتكر المحامون حق الدفاع عن حقوق المتقاضين أمامها، علما أن ليس هناك ما يمنع المحامي من أن يكون محكما على غرار ما يقوم به بعض كبار المحامين بمدينة الدار البيضاء .
الطبقية المهنية
من الآثار السلبية للعولمة كذلك، تكريس نوع من الطبقية المهنية، فقليلون هم المحامون المتخصصون في قانون الأعمال، وأغلبيتهم متمركز بالدار البيضاء وهؤلاء هم من يحضون بالتعامل مع المستثمر الأجنبي، بل ويعملون محكمين في بعض الأحيان وهذا من شأنه أن يثير موضوع المحامي والعولمة والربح المادي.
لا غرابة في أن تكون للعولمة آثارها الإيجابية والسلبية على اقتصاديات الدول النامية، ولا غـرابة في أن تتأثر المهن القانونية والقضائية لهذه الدول بهذا التيار الجارف، لذلك كان لزاما علــى الدول أن تحصن نفسها قدر الإمكان خاصة على المستوى القانوني.
فالمحامي الأجنبي أصبح يهدد المحامي المغربي في مصدر رزقه، إذ من السهل عليه العمل بالمغرب وبالمقابل يجد المحامي المغربي صعوبة في الانخراط في سلك المحاماة بالخارج حتى بالنسبة إلى الدول التي تربطها بالمغرب اتفاقية ثنائية أي أن مبدأ التعامل بالمثل كان وسيظل مغيبا.
وأحسن المشرع المغربي صنعا، عندما أكد على هذا المبدأ في المادة 5 من القانون الجديد للمحاماة، ونعتقد أنه يتعين على من يرغب في الانضمام إلى هيأة من هيآت المحامين بالمغرب أن يخضــع لاختبار في المعلومات في القانون المغربي وباللغة العربية على اعتبار أن قانون المغربة والتوحيد والتعريب لسنة 1965 قد جعل من اللغة العربية اللغة الرسمية أمام القضاء المغربي مع الاستعانة بترجمان عند الاقتضاء .
كما أن السماح للمحامي الأجنبي بالعمل في المغرب كأثر من آثار العولمة، يستلزم بالضرورة أن يتخلى عن مكتبه بالخارج أي عدم اعتبار المكتب الموجود بالمغرب مجرد مكتب ثانوي.
إنها مجرد متمنيات نعلم مسبقا عدم القدرة على تحقيقها، فمركز المحامي الوطني في مواجهة سيل العولمة الجارف مركز ضعيف لسبب بسيط هو خضوع التشريع المغربي لمنطق القوة المفروض عليه من قبل سلطات الدولة الأجنبية أثاء الأعمال التحضيرية للاتفاقيات الثنائية، هذه الأخيرة التي قد تلغي ما أقره التشريع على اعتبار أن الاتفاقيات الدولية المصادق عليها ترجح على القانون الداخلي حالة تعارضهما.
نخلص إلى القول إن التكيف مع العولمة مع الحفاظ على الهوية الوطنية هو أمر ضروري لا محيد عنه، فالعولمة تيار جارف لا مفر للمحامين المغاربة من ركوبه والسير معه، لأنه سيقتحم مجال عملهم عاجلا أم آجلا، لذلك أصبح التضامن بين المحامين المغاربة وتكتلهم في مجموعات أمرا ملحا من أجل التصدي لزحف المحامين الأجانب، فهم أكثر تنظيما وأحسن تكوينا من نظرائهم المغاربة، وهذا واقع يجب الاعتراف به بكل موضوعية.
وأملنا في التكوين فهو الكفيل بجعل محاميينا قادرين على منافسة نظرائهم الغربيين، صحيح أن المحاماة لئن كانت مهنة حرة، إلا أنها كذلك خدمة قانونية يجب القيام بها بالجودة اللازمة كأهم معيار في التنافسية التي تعتبر أهم مظهر من مظاهر العولمة الاقتصادية الحديثة.
بقلم : ذ/ يونس العياشي, قاض ملحق بوزارة العدل والحريات
دكتور في الحقوق
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى