إن منظومة العدالة، عبارة عن مؤسسات وتنظيمات اجتماعية، تلعب أدوارا اجتماعية وتحكمها علاقات اجتماعية وتشتغل على المشاكل الاجتماعية ...وعليه فإن أي عملية إصلاحية حقيقية، لابد أن تستند إلى مقاربة سوسيولوجية وسوسيوثقافية تطرح سؤال أي قضاء لأي مجتمع، وتبلور رؤيتها التشخيصية لواقع العدالة ببلادنا
على ضوء التحولات الاجتماعية والمجتمعية وفي إطار البنية الثقافية للمجتمع وتمثلها لدور المؤسسات القضائية يتميز التراكم المعرفي المرتبط بالشأن القضائي المغربي بطغيان مقاربتين رئيسيتين : أولاهما المقاربة النصية القانونية التي تنكب على الأسئلة المدرسية للنصوص القانونية والتنظيم القضائي والمساطر القضائية وتصنيفها وإشكالاتها القانونية والتطبيقية وتناقش الاجتهادات القضائية...، وثانيهما المقاربة الحقوقية التي تشتغل على الموضوع القضائي من زاوية مبادئ حقوق الإنسان وأهمها مبادئ استقلال القضاء والمحاكمة العادلة والحق في الولوج للقضاء والمساواة والنزاهة...كل ذلك على ضوء مرجعية المعايير الكونية لحقوق الإنسان.
تستفيد المقاربة الأولى من هيبة المناهج العلمية الأكاديمية وهو ما تفتقده المقاربة الثانية التي تبقى – في الكثير من الأحيان - في مهب المواقف السياسية واللغط الإعلامي...
لعل ما يمكن أن يثير أي متتبع للنقاشات والخطابات والمؤلفات المتعلقة بقضايا العدالة ببلادنا، هو غياب أي إسهام لعلم الاجتماع في هذا الموضوع . ورغم أن الشأن القضائي صار اليوم حديث الكل، فإن الطرف الوحيد الذي لا يتكلم في الموضوع هو عالم الاجتماع أو الباحث السوسيولوجي، حيث لا تحظى قضايا العدالة في المغرب بأي اهتمام من طرف المختصين في علم الاجتماع، رغم أنه في مجتمعات أخرى يوجد هناك فرع مستقل من فروع علم الاجتماع، يسمى علم الاجتماع القضائي ( SOCIOLOGIE JUDICIARE) يشتغل على المواضيع والمؤسسات القضائية وفق مناهج ومفاهيم علم الاجتماع.
إن منظومة العدالة هي عبارة عن مؤسسات وتنظيمات اجتماعية، تلعب أدوارا اجتماعية وتحكمها علاقات اجتماعية وتشتغل على المشاكل الاجتماعية ...وعليه فإن أي عملية إصلاحية حقيقية، لابد تستند إلى مقاربة سوسيولوجية وسوسيوثقافية تطرح سؤال أي قضاء لأي مجتمع، وتبلور رؤيتها التشخيصية لواقع العدالة ببلادنا على ضوء التحولات الاجتماعية والمجتمعية وفي إطار البنية الثقافية للمجتمع وتمثلها لدور المؤسسات القضائية. ذلك أن دمج العوامل الاجتماعية الثقافية والسلوكية في منهجية الإصلاح من شأنه أن يسعف بشكل كبير في تشخيص الكثير من اختلالات جهاز العدالة وعلى رأسها أزمة الثقة في النظام القضائي، وهذه الأزمة التي تعبر عن خلل في شرعية المساطر القضائية لا يمكن تجاوزها إلا عبر جعل هذه المساطر أكثر مرونة وانفتاحا على الآليات التي تتيحها المؤسسات الاجتماعية، كبدائل لحل المنازعات بشكل يؤسس لمعنى جديد وحقيقي لمفهوم القرب القضائي.
القضاء المغربي بين ضغط تسارع التحولات الاجتماعية
وجمود ثقافة التقاضي
باعتباره مؤسسة اجتماعية، فإن القضاء المغربي مطالب سواء من حيث التنظيم والمساطر أو من حيث التكوين والاجتهاد بمواكبة التحولات التي يعرفها المجتمع على جميع الأصعدة. لكن وبقدرما تضع هذه المواكبة على عاتق القضاء مهام جسيمة تتعلق بالإسهام في التنمية الاجتماعية وضمان الحقوق وحفظ الأمن الاجتماعي والاقتصادي في سياق معولم، بقدر ما تضعه في مواجهة ثقافة مجتمعية نافرة ومنفرة من عملية التقاضي.
مسؤولية القضاء في سياق التحولات الاجتماعية
مع تسارع التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، تلقى على القضاء أعباء أكثر جسامة سواء لجهة تأمين حماية الحقوق والحريات في سياق الانتقال الديمقراطي أو لجهة حماية الأمن الاجتماعي أو الإسهام في التنمية الاقتصادية وحماية الثروة الوطنية .
القضاء ومسؤولية حماية الحقوق والحريات
في سياق الانتقال الديمقراطي
في المجتمعات الديمقراطية التي تضمن فصل السلط وتتوفر على سلطة قضائية مستقلة، يعتبر القضاء الضامن الأساسي للحقوق والحريات، كما يعتبر اللجوء إلى القضاء سلوكا حضاريا ومؤشرا على تقدم المجتمع على درب الحداثة والحرية وإرساء قيم المواطنة والديمقراطية، لذلك نجد أن نسبة التقاضي في الدول المتقدمة ديمقراطيا أكثر منها في غيرها. ففي المجتمعات الأبوية مثلا حيث سلطة الأب ورب العائلة أو القبيلة، تكون نسبة اللجوء إلى القضاء ضعيفة، لأن المشاكل والنزاعات الاجتماعية يتم احتواؤها وفق الميكانيزمات التقليدية للمجتمعات المغلقة. والشيء نفسه بالنسبة إلى الدكتاتوريات الشمولية حيث يكون مؤشر التقاضي منخفضا نظرا إلى غياب الضمانات من جهة وإلى تراجع مكانة القانون في هرمية الضوابط الاجتماعية لصالح المكانزمات السلطوية والبوليسية من جهة ثانية.
إن تأمين الحق في الولوج إلى العدالة هو الضمانة الأساسية لتفعيل منظومة الحقوق والحريات بكاملها، وبديهي أنه كلما حصل تقدم في ضمان الحقوق والحريات كلما لقيت على القضاء أعباء إضافية ومسؤوليات أكبر واتسعت مساحة تدخله في العلاقات الاجتماعية ، ودليل ذلك أن الإجراءات الأولى لحماية حقوق الإنسان بالمغرب ابتدأت مطلع تسعينات القرن الماضي بإحداث القضاء الإداري كآلية للحد من تجاوزات السلطة، وكل التقدم الذي حصل بعد ذلك كان في اتجاه نقل الكثير من السلط والاختصاصات التي كانت بيد السلطة التنفيذية ووضعها بين يدي القضاء، خصوصا في مادة الحريات العامة، كاختصاص منع الصحف والمطبوعات وحجزها وحل الجمعيات والأحزاب، كما أنه حينما أرادت الدولة إعطاء ضمانة أكبر لنزاهة الانتخابات، قامت بإشراك القضاء في الإشراف عليها، وعندما أراد المشرع الدستوري إعطاء إشارة قوية في مسألة توسيع حماية الحقوق والحريات، نص في صلب الدستور الجديد على أن القضاء يتولى حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي( الفصل 117 ) وأن حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه ومصالحه (الفصل 118)، كما وسع من دائرة الرقابة القضائية لتشمل أحيانا حتى القرارات الصادرة عن الملك، كما هو شأن القرارات المتعلقة بالوضعية الفردية للقضاة (ف 114). وعلى المستوى الأفقي يكون اللجوء إلى القضاء في كثير من الأحيان تعبيرا عن سلوك تحرري ناتج عن نفض بعض القيود القانونية والاجتماعية، كما هو شأن مقتضيات قانون الأسرة، التي أعطت للمرأة حق طلب التطليق للشقاق ووضعت الروابط الأسرية تحت رعاية ومراقبة القضاء ابتداء من الزواج إلى الطلاق فالتعدد فحماية حقوق الأطفال.
وبالمحصلة، فإن توسيع الأدوار القضائية في المادة الحقوقية وارتفاع مؤشر التقاضي المرتبط بها وإن كان يثقل كاهل القضاء ويسبب تراكم الملفات والقضايا، إلا أنه يعتبر مؤشرا إيجابيا على حيوية المجتمع وتشبعه بقيم المواطنة والتمسك بالحقوق، مع التشديد على أن الأسئلة الكلاسيكية المرتبطة باستقلال القضاء ونزاهته وفعاليته لها دور محدد في طبيعة وفعالية تلك الأدوار.
بقلم: عبد الرحمان السحمودي, عضو المكتب الوطني للنقابة الديمقراطية للعدل
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى