إن التخليق باعتباره رهانا إستراتيجيا عاما يجب أن يكون موضوع تفكير مجتمعي عميق، قائم على فكرة التشاركية بغاية الوصول إلى بلورة خطة وطنية شاملة ومتكاملة من أجل وضع اللبنات الأساسية لمحاربة كافة مظاهر الانحراف في السلوك الإداري والمهني للأفراد الموكول لهم القيام بمجموعة من المهام، سواء منها ما يدخل في إطار مفهوم المرفق العام،
أو ما يمكن نسبته للمهن الحرة، ومن تم يمكن القول، بأن تخليق منظومة العدالة يدخل في إطار الخطة الوطنية الشاملة للتخليق و تعزيز قيم النزاهة و الشفافية.
الحديث عن تخليق منظومة العدالة من أساسيات الرهان الاستراتيجي الوطني الرامي إلى إصلاح هذه المنظومة، ذلك أن الحديث عن التخليق إنما يعني الحديث عن الرفع من نجاعة ومستوى مردودية قطاع العدل بمفهومه العام، وليس القضاء إلا جزءا منه. و يـأتي التفكير في كل ذلك في سياق سياسي واجتماعي يعرف مجموعة من التحولات المؤسساتية التي يشهدها المغرب، ويعمل على تنزيلها على أرض الواقع في ظل مناخ سوسيو سياسي متسم بإقرار دستور جديد، اعتبر أنه وثيقة متطورة لبناء دولة الحق والقانون .
ومن أجل ذلك، فإن الحديث عن تخليق منظومة العدالة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مجموعة من المسائل ذات البعد الحقوقي والمهني، من أجل الوصول إلى إقرار رؤية واضحة ومتسمة بنوع من النضج الذي يمكن اعتباره ترجمة لإرادة سياسية حقيقية في تنزيل قيم الشفافية والنزاهة.
وإذا كان المغرب شأنه شأن باقي الدول التي انخرطت في المنظومة الدولية بإرادتها الحرة والطوعية، فإن هذا الانخراط يجب أن يترجم على أرض الواقع من خلال الالتزام الحقيقي بالإرادة الجماعية الدولية التي تعبر عنها المنظمات الدولية المختصة سواء منها التابعة لهيأة الأمم المتحدة أو غير الحكومية.
وانطلاقا من كل ذلك، يمكن القول بأن الارتكاز على ازدواجية المنظومة القيمية بما يحقق الاستجابة لمتطلبات المبادئ الكونية وما يحافظ على الخصوصية الوطنية، يمكن أن يجعل من التفكير المغربي في مسألة تخليق منظومة العدالة جزءا من ظاهرة الاستثناء المغربي القائم على التفرد في اختيار مناهج العمل ومأسسة القيم المغربية الأصيلة.
واستنادا إلى كل ذلك، يمكن الإقرار بأن الهدف الرئيسي والدافع الأساسي لجعل مسألة تخليق منظومة العدالة مركز اهتمام كل التوجهات الاجتماعية من شركاء سياسيين وفعاليات مجتمع مدني، ومتدخلين مهنيين، هو الرفع من دور العدالة في تحقيق الإصلاح المنشود في ظل الاستقرار، وجعلها قاطرة للتنمية المستدامة بمفهومها الشامل.
إن الحديث عن تخليق منظومة العدالة، يجب أن يرتكز على مجموعة من المحددات البنيوية، منها ما هو مرتبط بالجهاز المفاهيمي، ومنها ما هو مؤسساتي تشريعي. وهو ما يمكن الوصول إليه من خلال الفصل المطلق بين طرق التفكير النمطية التي كانت سائدة ما قبل إقرار الدستور الجديد، وتلك المطلوب العمل بها بعد إقراره.
المحددات المفاهيمية للتخليق
من المعلوم أن الحديث عن أي مؤسسة كيفما كانت طبيعتها، يجب أن يكون مستندا على مجموعة من المفاهيم المنتظمة انتظاما يساعد على فهم الإطار العام الذي يتعين الاشتغال فيه. ومن تم فإن تخليق منظومة العدالة يجب أن يحدد نطاقه وكذا المؤسسات التي يجب أن تخضع له، مع اعتبار درجة مساهمة كل مؤسسة في صياغة قرار العدل حتى تأخذ النصيب الموازي لمركزها في المنظومة.
وفي هذا الإطار، يجب القول بأن فكرة منظومة العدالة، يجب ألا تختزل في القضاء بمفرده، وإنما تمتد إلى باقي المتدخلين في صياغة القرار القضائي، وفي هذا السياق يجب وبالضرورة إدخال مجموع المهن والوظائف التي ترتبط ارتباطا عضويا بالقضاء باعتباره المركز .
فمهنة المحاماة وكل مساعدي القضاء من مفوضين قضائيين وخبراء وموثقين وعدول ونساخ وغيرهم، بالإضافة إلى الشرطة القضائية والأطباء والمهندسين وكل الجهات التي يمكن أن تساهم في صياغة القرار القضائي يجب أن تكون معنية عند الحديث عن التخليق الذي يتعين أن يشمل منظومة العدالة.
فقيم النزاهة والشفافية، لا يمكن أن تستند إلا على مجموعة من المؤشرات المعتمدة من طرف الجهات المعنية برصد الاختلالات ودرجات الفساد في الأوساط الإدارية والمهنية، ولذلك فإن كل مؤشر من مؤشرات التقييم يعتبر في حد ذاته خلاصة لمجموعة من التداخلات البينية التي تظهر قوة الترابط بين المكونات المذكورة أعلاه .
واستنادا إلى ذلك، يمكن تصنيف اختزال الحديث عن تخليق منظومة العدالة في تخليق القضاء، نأيا عن المنطق الرصين القائم على الشمولية بدل التجزيئية، وعنوانا للتناول السياسي لفكرة التخليق بعيدا عن التناول المهني.
إن التخليق المنتظر لمنظومة العدالة، يجب أن يكون قائما على فكرة التفكير المندمج والمؤسس على شبكة التداخلات القائمة بين مختلف الفاعلين في حقل العدالة، وما يمكن أن ينتجه هذا التداخل من تشابك المصالح وبالتالي تداخل الأدوار، إذ أن كل ذلك يمكن أن يكون سببا في ظهور مجموعة من مؤشرات الفساد التي تنخر بعض المرافق من جهة وتميز بعض السلوكات التي يأتيها بعض الأفراد والمؤسسات من جهة أخرى.
و في هذا السياق، يجب عند وضع إستراتيجية شاملة للتخليق، التفكير في مضامين مجموعة من القيم و المفاهيم، وعلى رأسها أيهما الذي يعنى بالتخليق مثلا هل الرشوة أم الفساد، أم هما معا ؟ وما هي أوجه التمييز بينهما سواء على المستوى الاجتماعي أو على المستوى التشريعي والمؤسساتي؟ كما يتعين الحديث عن الدور الأخلاقي وما المقصود به في إطار فكرة التخليق، وهل يمكن الارتكاز فقط على قيم محايدة كالتكوين والمستوى في مفهومه العام، أم يتعين الأخذ بعين الاعتبار ما يتوفر للأفراد من قيم ذاتية ومؤهلات مبدئية ؟
إن تخليق منظومة العدالة باعتبارها فكرة مجردة تسعى إلى تطويع المؤسسات والأفراد على سلوك نهج قويم عند أداء مهامهم، يتعين أن ينطلق من منطلقات واضحة، أهمها التعبير الصريح عن الإرادة السياسية القوية والعزيمة الإرادية الراسخة في محاربة كافة أشكال الفساد والانحراف بعيدا عن النظرة التجزيئية أو التعامل الانتقائي مع الحالات والمظاهر .
وفي هذا السياق، يجب أن تتمثل الجهات المكلفة برصد مظاهر الفساد وتلك الراجع إليها أمر الزجر وتقويم ما انحرف من سلوك كل الآثار الممكنة من جراء ترسخ القيم الشاذة وغير المقبولة. كما لا يمكن اختزال فكرة التخليق في كل ما هو مؤسساتي وسلوكي وإنما يجب أن يمتد إلى التركيز على ما هو حقوقي من قبيل التمييز القائم على الجنس أو العرق أو اللغة أو المركز أو الجنسية و ما إلى ذلك .
بقلم : عبد السلام العيماني, عضو المجلس الأعلى للقضاء
وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالرباط
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى