المحامي
هنري روبير نقيب محامي باريس سابقا
ولقد جاء بعد ذلك بشيء من التفصيل فقال : " وهي مهنة تجمع بين اغراض شاقة من الفن الى الواجب ومن الجدارة الى النبل، يقبض صاحبها الذي فضله في كفه على اعنة الناس فيستضيئون بنوره ويحتمون عند ظل قوته، وهم مضطرون الى الاعتراف بنبوغه وفضله" .
تلك شهادة ذلك القاضي الكبير في عصره ولا يتهم فيها كما لو شهد بها محام، ولكننا نزيد على ذلك- مغلفين الجهة المشرفة لهذه المهنة - انها الفرصة التي تتاح للانسان لينفع فيها بني جنسه ويخفف عنهم عبء الشقاء وظلم الحظوظ، وهي من اجمل المشاغل العقلية تفتح امام المحامي سبيل استخدام مواهبه احسن استخدام .
---------------------
* ترجمة الاستاذ محمود خيرت السكرتير بمجلس الشيوخ بمصر، اختارها واستخرجها من العدد الاول لمجلتنا سنة 1939، المحامي، الاستاذ سامي معلول من دمشق .
--------------------
ومع ذلك فانها من اثقل الاعباء فليس هناك ما هو اتعب من حياة المحامي لانها تاخذ من زمنه وعقله على السواء، والمحامي ليس كالموظف يمكن له خارج عمله ان يتذوق طعم الراحة، ولا كالطبيب يكون بعد الانتهاء من عيادة مرضاه حرا طليقا، ولا كالجندي يصبح وهو بعيد عن الخدمة كاحد الناس غير مسؤول عن شيء ولا كالمهندس او الصانع لانه في وسعها ان يضعا حدا بين عملهما وراحتهما .
فالمحامي محروم من نعمة هذه الحياة الحرة الخاصة. واذا استثنى الساعات القليلة التي يستريح بعض الراحة فيها لا نجد امامه دقيقة واحدة يمكنه ان يقطعها في غير شؤون مهنته، ويسألونك لماذا ؟ وقد غاب عنهم ان مكتبه ليس مكان عمله وان مكان عمله انما هو مخه وحياته. نعم انه بعد ان يفرغ من دفاعه يخلع عنه ثوبه تاركا المحكمة بما فيها خلف ظهره، ولكن هذه الحركة التي يفهم الناس منها انه اصبح بعدها حرا لا يذوق خاطره بعدها مع ذلك طعم الراحة، ان ملف القضايا الذي يحمله تحت ابطه وهو منصرف، ربما كان اثقل على مخه منه على ساعده، لانه لا ينفك لحظة واحدة عن التفكير فيه .
كتب عليه ان يجهل معنى الراحة، وهو يستيقظ في الشتاء من الساعة السادسة صباحا وقبل هذه الساعة في فصل الصيف ثم ينكب على عمله بغير ملل حتى اذا دقت الساعة الثامنة انحدر الى مكتبه ليفض الرسائل التي تنتظره وليجيب عليها اما بنفسه او بواسطة كاتب يملي عليه، وهو في كل لحظة يرد في التلفون على مخاطبيه، ولا يخفى عليك ما في ذلك من التعب وضياع الزمن، خصوصا اذا انقطعت المحادثة مما يضطره الى انتظار عودتها ثم استئناف ما بدا فيه، وهكذا مما قد يتكرر .
واذا فرغ من فض رسائله والرد عليها وانتهى من محادثة مخاطبيه على ما مر وقد دقت الساعة التاسعة، اضطر الى استقبال زبنائه الذين يقصدونه عند تلك الساعة .
هذه هي الادوار التي تمر على المحامي كل يوم حتى اذا وقف امام القاضي صاح فيه : "من فضلك تكلم في الموضوع"..
ولكن هذا القاضي لم يستقبل مثل الزبائن الذين استقبلهم وهو في مكتبه من خلال سنتي التمرين اللتين قضاهما .
نعم انها كمدرسة شاقة تطلب صبرا وحلما، لانه اذا كان من هؤلاء الناس من يضيع على المحامي بعض زمنه، فان اخرين منهم يدخلون معه في تفاصيل لا نهاية لها، وقد تكون بعيدة كل البعد عن موضوع الدعوى. والمحامي مضطر، على كل حال، الى الاصغاء اليهم، فقد يكون في بعض احاديثهم الطويلة ما يصلح ان يكون اساسا صالحا للدفاع .
وفي يقيني ان مكتب المحامي مورد غزير يجد فيه القصصي والواعظ والحكيم مجالا فسيحا للتحليل والتقدير، يخفق عنده دائما فؤاد الحياة البشرية، لان قاصديه يدخلونه وهم تحت تاثير مشاغل لا حد لها قد تكون خطيرة، وهم يتقدمون الى المحامي وفي ايديهم حياتهم الحافلة بشتى الاشكال والصور، فيقدر مواقفهم التي لم يخطر لهم هم تقديرها، وهكذا يقبل عليهم غير حاسب حسابا للعبارات التي يغفلون فيها ما يدور بين جنوبهم من الشهوات والعواطف .
يذكرون له كل شيء لانهم يعلمونه الامين على اسرارهم، وان هذه الاسرار لا يمكن ان تتجاوز الجدران الاربعة التي يفضون اليه بها فيها .
ومن هذه الوجهة يتساوى الطبيب والمحامي من حيث الحياء، فحيث لا يوجد للحياء الجسماني امام الطبيب، كذلك ولا وجود للحياء الادبي امام المحامي وهو يستقبل كل يوم اناسا ما كان يخطر بباله انهم احياء يستامنونه على حوادثهم الخاصة التي كتموها حتى عن اقرب الناس اليهم .
وقد يكون بين هؤلاء الناس سيدات قد يكن قصدنه على غير علم من اوليائهن، فيبحن له كانهن قسيس يتلقى اعترافهن باسرار لم تتخط من قبل شفاهنن. تراهن وهن ينتظرن على سواهن من القاصرات يتحاشين ان يبدوا على ملامحن شيء من تلك الاسرار الدامية التي تحز في احشائهن، حتى اذا دخلن على المحامي ووثقن من اغلاق الابواب خلفهن، فاضت دموعهن وما عدن يتحملن الم تلك الاسرار فيخرجنها من حبوسها ورؤوسهن في ايديهن وهن يذكرنها بعبارات متقطعة وبصوت مختنق متوسلات اليه في ارشادهن الى ما لهن من الحقوق. وهكذا لا يعود لهن هدوءهن الا متى خرجن من هذا المكتب ( ملجا الاسرار) وعدن الى منازلهن حريصات على الا تنطق ملامحهن بتلك اللحظة الرهيبة التي قضت ظروف الحال بان يظهر ضعفهن فيها .
نعم ان القصصي الذي ينقب عن المواضيع ليتخذ منها اسبابا لاقاصيصه ليجد في مكتب المحامي طلبه من الوقائع الحية الاليمة يحللها ويمتحنها ليستخلص منها صورة صحيحة للحياة البشرية وهي في اقصى حالات اضطرابها .
وقد يقف الكاتب ساعات طويلة امام هذه الوقائع ينسى عندها ما يدور فوق المسرح من الحوادث المتكلفة، ولكن المحامي ليس هذا الكاتب وليس لديه وقت يسمح له بالوقوف لملاحظة تلك العواطف وتحليلها وتقديرها، لانه محكوم بطبيعة اخرى تجعله يراها تحت زاوية خاصة مركزها الوجهة الفنية التي تحتمها مهنته، وهذه الوجهة وحدها تصرفه عن الاشغال بسواها، تراه حين ينفجر بركان احقادهن والامهن لا ينظر عادة الا الى الوجه القضائي، يجري خلف الوسيلة الى كسب الدعوى التي يطلبن اليه رفعها، فيستعيد في ذاكرته ما مر عليها من الاحكام الصادرة في مثل هذه الحالات ويرسم في نفسه الاسلوب الذي يصيغ فيه اعلان الدعوى او مذكرته فيها، فهو مثله كمثل الطبيب امام مريض لئن بين يديه لا يشغله سوى تشخيص الداء .
وهكذا يدعم دفاعه بكل ما يراه صالحا من تلك الظروف ولكنه يجتهد ايضا في ان يصوغ في قالب قانوني ذلك الصراخ المؤلم الذي دوى في اذنه وحرك اوتار الرحمة في قلبه بغير ان يظهر ذلك غالبا عليه .
من هذا نرى انه ليس هناك وجه شبه بين المحاماة وبين الكتابة، كما يزعم الناس، لان الغموض الذي يجري خلفه المحامي والقصصي مختلف باختلاف الاسلوب الذي يجب ان يتبعه كل منهما، فالمحامي لا هم له الا ان يسير بسفينة موكله الى الربح، فهو يقتصر على الشكل الذي يتطلبه القانون والدفاع، واما الكاتب فلا يهمه الا ان يبحث عن ناحية الجمال يجري اليها غير مقيد الا بوحي خاطره .
ولو ان كاتبا ومحاميا اشتغلا بموضوع واحد لوجدت في النهاية فرقا كبيرا بين قصة الاول ومذكرة الثاني .
ولكن هذا ليس معناه ان هذه المذكرة لا تصل الى مستوى الجمال الذي ينشده الكاتب، الا ان تحقيق ذلك يكون مقصودا ويتحقق بوسائل غير الوسائل التي يجد الكاتب في قلمه سواها، فمثلا التفاصيل الكثيرة التي هي افعل في نجاح القصصي قد لا تراها في مذكرة المحامي او دفاعه لان الدعوى قد تضطره الى ان يسكت عنها .
وقد يضطر الكاتب كذلك الى تخير الاسلوب الكتابي الذي يخرج به سفر طليا قويا، ولكن المحامي مدفوع الى تجاوز هذا الاسلوب في مرافعته حتى يكون دفاعه سهلا على الاسماع لان خير الاساليب في الدعاوي هي التي اعتاد ان يسمعها القضاة جلية صحيحة .
وربما كانت رشاقة المحامي في صفاء تعبير ودقة وبحثه، ومع ذلك فان كثيرا من الكتاب الشبان يغالون في الاسلوب الى حد يجعله مشوشا غير مفهوم .
على ان القصصي في الواقع لا يرتبط الا بنفسه ولا يخضع الا لوحي خاطره ولا يبحث في غير ما يرضى قراءه بتصوير ما يلتذون به. اما المحامي فليس له هذه الحرية، لانه مقيد باصول مهنته وبمقتضيات دفاعه ثم ان امامه ايضا موكله الذي يجب ان يصل الى غاية يرضاها بكسب قضيته، فهو ملزم باتباع الاسلوب القانوني بغير حاجة الى اجهاد نفسه لادخال الاعجاب على سامعيه مقتصرا على اقناع القاضي الذي سيحكم له او عليه .
ولهذا لا يكون للمظهر الخلاب قيمة الدليل الصحيح، فيجب ان يذكر المحامي انه عند الدفاع في مقام يتطلب الاقناع قبل لفت الانظار اليه .
وما دام الامر كذلك، فمن الطبيعي ان يروض نفسه على تقدير كل شيء تحت تلك الزاوية التي اشرنا اليها، وان يكون رائده دائما ميزان المنفعة، اما الفن فانه في الدرجة الثانية، ومع ذلك فيجب ان يكون بمقدار لا يترتب عليه الاخلال بالدفاع.
واذا ذكرت كل ما سلف ادركت لماذا يضيق صدر المحامي كلما فكر في الزمن الذي تضيعه عليه ثرثرة المنتظرين من قاصديه، ثرثرة في المطالب لا فائدة منها، حتى ان بعض الكتاب الهزليين آسف لعدم وجود مقعد ذي لولب يتحرك من نفسه كلما جلس عليه زبون ثقيل فلا يلبث ان يرى نفسه خارج الباب بعد خمس دقائق .
وكلما نظر المحامي الى ساعته المطروحة فوق مكتبه، ذكر انه لم يعد امامه من الوقت ما يكفي لتناول طعامه حتى لا يفوته الدفاع في قضاياه، لان الجلسات بالرغم من افتتاحها متاخرة من بضع سنوات لا تبدأ مع ذلك الا عند الساعة التي يستريح فيها الباريسيون وبخاصة السيدات منهم لتناول طعام العشاء .
وربما كانت هذه الساعة هي الوحيدة في حياة المحامي من حيث ان يكون فيها بمعزل عن زبنائه .
ومع ذلك فانه اثناء طعامه لا ينقطع عن التفكير كلما ذكر الدعاوي التي سيترافع فيها، ولذلك لا يتجاوز ربع الساعة حتى يسرع الى دار المحكمة .
واما الساكنون من المحامين بعيدا عنها، فانهم يضطرون الى عربة كيفما كانت تنقلهم اليها، ولكنهم لا يسرعون بها حشية ان يوقفهم البوليس في الطريق فلا يجنون من وراء السرعة غير التعطيل، ومتى صار في المحكمة واخذ يتناول ثيابه وجدها لمالك غيره من زملائه يبحثون هم ايضا عن اثوابهم وكل منهم يجتهد ان يرتديه بسرعة ليجري الى الدائرة التي ينادون فيها باسمه وقد ينادى عليه في اكثر من دائرة .
وقد يجد ايضا في تلك اللحظة ربطة من الرسائل يبعث بها اليه من يجهلون عنوان مكتبه او يكتبها له بعض رفقائه او وكلاؤهم يحددون له فيها موعدا للاتفاق على ما يجب عمله في قضية تكون مشتركة بينه وبينهم .
ولكنه لا يجد من الوقت ما يسمح له بفض تلك الرسائل فياخذها معه ليقرأها بالجلسة في فترة انتظار دعواه .
وقد يطول الزمن الذي يترافع فيه مستغرقا النهار فيشد هذا المجهود اعصابه وينهكها خصوصا اذا كان مضطرا الى الدفاع امام عدة دوائر .
ومن المحتمل ايضا بعد ان يفرغ من عمله بالمحكمة ان يطوي ذلك الثوب وياخذه معه في محفظته الى المجلس العسكري ليترافع امام وجهة بعيدة كان يكون من بين دعاويه من اختصاص محكم او من اختصاص قاض جزائي. وقد تكون ايضا الجهة التي تنتظره للمرافعة امامها في الناحية الاخرى من طريق المحكمة، فيضطر الى سلوكه تحت انظار الناس الا اذا سلك طريق النفق، ولكن مهما تعددت الجهات التي ينتقل اليها او حتى لو ظل عمله قاصرا على دائرة واحدة، فان التعب الذي يناله واحد على كل حال بسبب اجهاد عقله او اعصابه وقواه في دفاعه وانتظاره في جو الجلسة الساخن الذي افسدته الانفاس وتعرضه بعد ذلك لتيار الهواء مما يؤثر في صحته ويجعله خالي الذهن من متاعب هذه المهنة الشاقة .
وبالرغم من الجلسات توقف احيانا للاستراحة، فان المحامي لا يجد في فترتها فرصة للراحة مادام لابد ان في ممرات المحكمة من ينتظره من زملائه او وكلاؤهم او ارباب القضايا الذين يريدون توكيله عنهم في شؤونهم، فيضطر بحكم هذا الموقف الى مناقشتهم فيها .
اضف الى ذلك انه يجب عليه ان يعلق في ذاكرته ملفات قضاياه حسب ترتيبها في مكتبه، بحيث اذا نودي على واحدة منها، تذكرها وتذكر تفاصيلها فيجيب على كل سؤال يطرح عليه بشانها .
وقد يضطر بعد فراغه من المرافعة الى البقاء ساعة اخرى امام احد قضاة التحقيق ليحضر استجواب موكله وبعد ذلك يعود الى منزله .
على انه لا يصل اليه الا ليستانف العمل من جديد كفض ما يجده من الوسائل او مقابلة من ينتظره من الزبائن او الرد من يطلبه في التليفون، وهكذا عند ساعة الغذاء قد تصادفه فترة - لا اقول ليستريح بها - بل ليلقي نظرة على القضايا المقبلة المستعجلة .
اما بعد الغذاء، فانه اذا لم يكن امام محكم يحضر لديه، فانه يختلس ساعات قليلة ليستريح فيها من مضض هذا العناء .
وربما لا تتاح له فرصة هذه الراحة نوعا الا حين يضطر الى السفر للدفاع في بلدة اخرى، ففي هذه الحالة يتسنى له في ذهابه وايابه هذه الفرصة، وربما ظن انه يستريح في ايام الاحد، ولكنه وهم منهم، لانه في مثل هذه الايام يخلو بنفسه الى قضاياه ليراجع ما دونه بشانها من الملاحظات ويتهيأ للدفاع عنها حتى اذا اقبل يوم الاثنين عادت حمى العمل الى حياته .
واذا اضفت الى هذه الصورة بانه مضطر الى استقبال اخوانه وتناول غذائه في المدينة والقاء بعض الخطب او المحاضرات في الجمعيات وغيرها مما هو واجب لا يصح ان يتنحى عنه بحكم مهنته، أمكنك ان تتصور كيف تكون حياة المحامي على وجه تقريبي .
واذا كانت هذه المهنة من اجمل المهن وأشهاها، فهل تراها ايضا في اشدها نصبا وكدا ؟
ان امام المحامي فرصا جمة ينعم فيها، ولكنه يحيا حياة متقدمة وهو يعمل في اليوم الواحد ما لا يقل عن خمس عشرة ساعة وعقله منهوك وزمنه موزع بسبب تلك المهنة التي لا تفارقه الا وهو على سرير الموت .
* مجلة المحاكم المغربية، عدد 77-78، ص 47
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى