البحث في موضوع الجهوية السياسية الإيطالية يقتضي منا طرح السؤال عن المقصود بالجهوية السياسية و مبرراتها و أساس شرعية هذه الجهات و تنظيمها و اختصاصاتها و علاقتها بالسلطة المركزية و الجماعات المحلية بإيطاليا .
الواقع أنه لم يسبق لأحد أن رأى الجهة بعينه يوما ما ، و هذا يعني أن تلك الفكرة توحي بواقع و ترمز إلى حكام محليين و إقليم محدد و شعب و تنظيمات محلية و إلى ممارسات إدارية محلية و تقترن كثيرا بحكم محلي ذاتي إداري تشريعي ثقافي و اقتصادي . لقد بذلت الكثير من الجهود لتعريف الجهة و مع ذلك ، فإن الجهة يختلف مفهومها باختلاف الظروف التي أنتجت صيغة و شكلا محددا لها ، و بالتالي فالمفهوم الحديث يقوم على أساس وجود منطقة جغرافية محددة أو جهة مستقلة عن السلطة المركزية لها اختصاصات محددة و موارد مالية و بشرية تسمح لها بتدبير أمورها باستقلالية و حرية .
و بتركيز شديد نلاحظ أن مفهوم الجهة في الأنظمة المقارنة، مفهوم متغير يأخذ عدة أشكال و نماذج . جهة وظيفية كما في بعض الدول ، جهة اقتصادية و إدارية و ترابية كما في فرنسا ، جهة سياسية كما في إيطاليا ، لكن كل هذه الأشكال و النماذج متداخلة و تصب جميعها في تفويض مهمة من مهام الدولة و تقليص الفوارق الجهوية و تنمية مجموع جهات البلاد تنمية منسجمة و متوازنة مع تحقيق مطالب التيارات السياسية المحلية.
التجربة الإيطالية
في مجال الجهوية السياسية
تعتبر إيطاليا من بين الدول التي تطبق ما يسمى بنظام الجهوية السياسية التي تعتبر أقصى درجات اللامركزية في إطار الدولة الموحدة دون الوصول إلى مستوى الدولة الفيدرالية ، و بالتالي فهي وسيلة لتحديث الدولة دون تجزئة سيادتها مما دفع الفقه إلى الاصطلاح على هذا النوع من الدول «بالدولة الجهوية»l›etat régional « أو بدولة المجموعات المستقلة «l›état des autonomies» . و يستجيب هذا الشكل من الجهوية لهدفين رئيسيين هما : تعميق التعددية السياسية و الثقافية من جهة ، و الحرص على الاندماج الاجتماعي و التضامن المجتمعي من جهة أخرى ، لذلك ، فلا غرابة أن نجد الدول التي كانت تعاني من المركزية الشديدة و من اضطهاد الأقليات هي التي ذهبت بعيدا في مجال هذا النوع من الجهوية . و يمكن الاستدلال على ذلك بما ذهبت إليه الحكومة الإيطالية في شهر نونبر 2005 عندما منحت الجهات صلاحيات تشريعية استثنائية في مجال الصحة و التعليم و الشرطة المحلية للوصول إلى دولة فيدرالية.
مبررات الجهوية السياسية الإيطالية
يمكن تحديد الأسباب و المبررات التي دفعت إيطاليا إلى تبني هذا النظام فيما يلي:
* لقد اضطرت إيطاليا خاصة بعد انهزامها في الحرب العالمية الثانية للتخفيف من المركزية الشديدة التي كانت تعاني منها في ظل النظام الديكتاتوري الفاشستي الذي انتصر قادته لنظرية الدولة الكليانية ( ETAT TOTALITAIRE ) .
* الخيار الجهوي جاء كذلك استجابة لمطلب تحديث الدولة التي لم تكن أبدا متجذرة في المجتمع الإيطالي ، زيادة على ما فقدته من مصداقية في ظل النظام الذاتي و بالتالي لجأ الإيطاليون إلى هذا الخيار لتقوية الدولة دون تجزئة سيادتها و أيضا لتعميق التعددية السياسية و الثقافية .
* و أخيرا فإن إحداث المناطق الخمس «الخاصة» و التي تتميز عن باقي المناطق الأخرى من حيث النظام القانوني جاء بسرعة غير عادية لتلافي الاصطدام مع الجنوب الإيطالي ذي المطالب الانفصالية، كما أنه جاء لمعالجة مشكلة هذا الجنوب الذي عانى كثيرا من التهميش مقارنة مع الشمال، هذه المطالب السياسية المحضة كانت من أسباب هذا النموذج من اللامركزية و الجهوية المتقدمتين و هي التي تفسر الاختصاصات الواسعة للمنطقة .
شرعية الجهوية السياسية الإيطالية
يقصد بذلك الإطار القانوني الذي تعتمد عليه في وجودها ، فعلى خلاف الجهوية الإدارية الذي يعتبر الأساس الشرعي لها هو الأساس القانوني ، حيث أن التشريع العادي هو المختص بوضع القواعد الجهوية، سواء من حيث التنظيم أو الاختصاصات أو تحديد الموارد المالية و البشرية ، و على خلاف ذلك فالأساس الشرعي لوجود الجهة في إيطاليا هو الأساس الدستوري ، فالدستور الإيطالي ينظم الجهات و يحددها و يبين عددها و أنواعها و اختصاصاتها ، كما أنه يحدد الموارد المالية الخاصة بها و كذا قواعد توزيعها و لا شك أن هذا يحقق للجهة الإيطالية عدة ضمانات و مزايا نذكر منها
- الأساس الدستوري لشرعية الجهوية يعتبر ضمانة أساسية لإعطاء الجهة مكانة متميزة داخل التنظيم الإداري و السياسي و لا يتجلى فقط في الاعتراف بوجودها دستوريا كجماعة محلية و إنما في طريقة انتخابها و تحديد وسائلها المالية .
- الدستور الإيطالي يعطي الجهة سلطات سياسية و قضائية و إدارية أصلية، و يمنحها الصلابة و الجمود الذي يمنع إجراء أي تعديل لقواعدها أو تكييفها مع المستجدات إلا بتعديل دستوري.
و على الرغم من أن الدستور الإيطالي يجعل من الجهة وحدة سياسية متميزة داخل التنظيم الإداري و السياسي، حيث يمنح لها سلطات أصلية تشارك من خلالها الدولة في ممارسة السلطات التقليدية ، فإن هذا الأساس الدستوري يبقى غير كاف لإعطاء هذه الجهات الاستقلال الحقيقي كما هو الشأن بالنسبة للجهات الألمانية ( LANDERS).
تنظيم الجهة واختصاصاتها
في إيطاليا
الفصل 115 من الدستور الإيطالي لسنة 1947 ينص على أن «المناطق تتكون من وحدات مستقلة لها سلطات خاصة ، و وظائف خاصة تتحدد طبقا للدستور، و هناك 19 منطقة تتمايز من حيث النظام القانوني ، إذ نجد خمس مناطق خاصة و 14 منطقة عادية» . فالخاصة أحدثت قبل العادية من حيث الزمن لتلافي الاصطدام كما سلف القول مع الجنوب الإيطالي ذي النزعة الانفصالية ، كما أن الجهوية في إيطاليا يؤسسها الدستور في فصله 119 الذي ينص على الجهات الخمس (سيسيليا ، سردينيا ، ترين تين ، ألطو ديجيي ، فريولي ، فينيتيسا ...) و لكل واحدة قوانينها التأسيسية الخاصة و بشروط و ضوابط يعتبرها البعض تكميلية بالنظر إلى قواعد الحكم الذاتي الجهوي، فيما يعتبرها البعض الآخر جهوية غير موسعة و مقيدة بقواعد الدستور .
و بالنتيجة فإن القوانين التطبيقية داخل كل جهة لا يمكن خضوعها إلى قانون موحد، لأن ذلك سيؤدي إلى تقوية مصالح جهة على جهة أخرى ، و هو ما دفع إلى الحديث عن استقلال ذاتي خاص ممنوح لبعض الجهات و استقلال ذاتي أصلي . و تجب الإشارة إلى أن المعيار الأساسي في الحكم هو امتلاك الجهات الأصلية بقوانين تأسيسية دستورية خاضعة في تعديلها لقواعد محلية كحالة سردينيا التي تعطي حق تعديل دستورها المحلي إلى المجلس الجهوي بهذه الجهة .أما بخصوص الهيئات المسيرة للجهات الإيطالية فهي تتشكل حسب الفصل 121 من الدستور من المؤسسات التالية :
- مجلس جهوي تشريعي و هو بمثابة مجلس تداولي ينتخب بالاقتراع العام المباشر لمدة خمس سنوات و يمارس الصلاحيات و المهام المسندة إليه بموجب الدستور و يجوز له اقتراح مشاريع قوانين .
- حكومة جهوية محلية و هي عبارة عن جهاز تنفيذي للجهة يضم لجنة تنفيذية .
- رئيس الحكومة الجهوية و ينتخب من لدن المجلس الجهوي و هو الذي يمثل الجهة و ينشر القوانين و اللوائح الجهوية و يسير الوظائف الإدارية المفوضة من الدولة للجهة طبقا لتعليمات الحكومة المركزية .
بالنسبة للاختصاصات المخولة للجهات فقد حددها الفصل 117 من الدستور و كذلك مرسوم رئيس الجمهورية المؤرخ في 1977 تتمحور حول ثلاثة مجموعات من الأنشطة العمومية :
الأولى تهم المصالح الاجتماعية ، النقل ، الصحة العمومية ، المساعدة الاجتماعية .
الثانية تهتم بإعداد التراب الجهوي و التعمير ، الغابات ، الأشغال العمومية .
الثالثة تهم الأنشطة الاقتصادية، الفلاحة، التجارة، السياحة، المياه المعدنية، و على الجهات ألا تخرج عن سياسة و قوانين الدولة في هذا المجال .
أما الاختصاصات الإدارية فموكولة إلى سلطات الجهة و إذا حصل تنازع في الاختصاصات بين الدولة و الجهات، فإن المحكمة الدستورية هي التي تفصل فيها . و في المجال المالي يعترف الدستور الإيطالي للجهات بجباية الضرائب الخاصة بها و تهييء ميزانيتها في استقلال تام، غير أن هذا الاستقلال غير مطلق ، حيث أن للدولة سلطة التنسيق بين ماليتها و مالية الجهات.
المغرب و النموذج الإيطالي
هل يمكن استلهام التجربة الجهوية الإيطالية و أخذ بعض مضامينها لتنزيلها على مشروع الحكم الذاتي المرتقب بالأقاليم الجنوبية ؟
إذا ما أخذ المغرب بالنموذج الإيطالي الذي أثبت فعاليته و قوته و إذا اقتصر تطبيق خيار الجهوية الموسعة على بعض المناطق المغربية ، و في مقدمتها الأقاليم الصحراوية كما جاء في الخطاب الملكي الأخير . في هذه الحالة يستدعي الأمر إجراء تعديل دستوري عميق للارتقاء بنظام الجهة الاقتصادية و الإدارية في هذه المناطق إلى مستوى الجهوية السياسية في إطار الدولة الموحدة و منحها وضعا قانونيا خاصا، كما هو الشأن بالنسبة لإيطاليا .
أما بالنسبة للأساس الشرعي للجهوية المرتقبة في المغرب ، يمكن أن يكون الأساس الدستوري محددا و منظما و مبينا للجهات و أنواعها و اختصاصاتها، سواء بالنسبة للجهة الخاصة التي يمكن أن تكون محل تعديل دستوري عميق و بقية الجهات العادية مرتبطة بقانون عادي،وفي هذه الحالة يمكن للمشرع الدستوري أن يضع ميثاقا جهويا يقسم المملكة إلى منطقتين ، منطقة ذات نظام خاص (نظام الجهوية السياسية القائم على الحكم الذاتي و أخرى عادية تتمتع باللامركزية الإدارية). الجهة الخاصة يجب أن تكون منطقة يمارس سكانها عن طريق هيئات تنفيذية و تشريعية و قضائية السلطة الكلية على إدارة الحكم المحلي على ان تحتفظ الدولة بالسلطة الكلية على العلاقات الخارجية بما فيها الاتفاقيات الدولية و الأمن الوطني و الدفاع الخارجي و كذا المحافظة على السلامة الإقليمية من أية محاولات انفصالية من داخل الإقليم أو خارجه و جميع المسائل المتعلقة بإنتاج الأسلحة و المتفجرات و بيعها و حيازتها و استخدامها و تعيين الحدود البحرية و الجوية و البرية و حمايتها ، بالإضافة إلى ذلك يكون العلم و العملة و الجمارك و نظم البريد و الاتصالات المعمول بها في المغرب هي نفسها المعمول بها في هذه المناطق . هذا دون السقوط في تضارب الأدوار و تداخل الاختصاصات . كل هذا لتحقيق تكامل في أدوار الدولة و الجهات ذات النظام الجهوي الموسع.
خلاصة
إن قاعدة الجهوية السياسية مكنت في العديد من التجارب الدستورية خصوصا المرتبطة بمسلسلات الانتقال الديمقراطي، من تشكيل حدود وطنية متوافق عليها و أمة قائمة على أساس احترام معطى التعدد و تجسيد فكرة حل الوسط بين مطالب المركز و النزعات الاستقلالية للجماعات البشرية.
عضو الجمعية المغربية للقانون الدستوري
وأستاذ القانون العام |
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى