هناك علاقة جدلية بين الديمقراطية والانتخاب؛ فلا يمكن الحديث عن وجود نظام ديمقراطي في غياب انتخابات نزيهة وشفافة ؛فالانتخابات غدت من الوسائل الناجعة لتعميق المسألة الديمقراطية لذلك اتجه الفكر السياسي الغربي إلى جعلها القناة الأساسية للوصول إلى السلطة بشكل تحول معه الحق في الانتخاب مجسدا لخاصيتين أساسيتين؛ فهناك الشرعية القوية من جهة وكونية تعاطي المجتمعات المتحضرة إلى العمل الانتخابي من جهة ثانية .فالانتخابات لا تعدو أن تكون سياسية وتقنية تخول للمواطنين اختيار شخص من بين عدد من المرشحين ليكون ممثلا للجماعة التي ينتمي إليها.(2)
غير أن إنجاح العملية الانتخابية لا يتوقف عند إصدار القانون الانتخابي بل يتجاوزه إلى إقرار جملة من المقتضيات القانونية والسياسية بدءا بإشكالية تبيئة القانون الانتخابي (المحور الأول) والتسجيل في اللوائح الانتخابية( المحور الثاني) مرورا بالتقطيع الانتخابي (المحور الثالث) والوقوف عند تأثير أنماط الاقتراع على العملية الانتخابية (المحور الرابع) وصولا إلى الحرص على تحقيق الشروط الذاتية والموضوعية للحملة الانتخابية الناجعة (المحور الخامس)
إن هذه التوطئة تضعنا أمام جملة من التساؤلات يأتي في مقدمتها : ماذا نعني بالانتخابات؟ وأي مسار اختطه في النظام الليبرالي؟ وما هي أشكال الانتخاب؟ وما مدى تأثير هذه الأشكال على المنظومة السياسية ؟ وكيف السبيل لإجراء انتخابات نزيهة شفافة وفعالة ؟
المحور الأول: مسألة تبيئة القانون الانتخابي
لا يمكن للباحث الجامعي أن يحصل حاصلا إذا ما اعتقد بأن هناك قانون انتخابي واحد موحد صالح لكل المجتمعات الانسانية؛ فالخصوصية السياسية مسألة تفرض نفسها بإلحاح شديد؛ بحيث لا يوجد نظام سياسي وحيد أو طريقة انتخابية واحدة تلائم على قدم المساواة كل الدول وشعوبها؛ وأن جهود المجتمع الدولي لتعزيز تنفيذ مبدأ الانتخابات الدورية والصادقة يجب أن لا تثير الشكوك حول حق سيادة كل دولة وفقا لإرادة شعبها في أن تختار بحرية وأن تطور أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية سواء أكانت متفقة مع أولويات الدول الأخرى أم غير متفقة(3)لأن التفرد السياسي مسألة تفرض نفسها بقوة الواقع فالعملية الانتخابية تخضع لاعتبارات تاريخية وسياسية وثقافية ودينية.بيد أن هذا الاقرار الدولي بخصوصية القانون الانتخابي لا يعني مطلقا التفريط في ثوابت الانتخابات النزيهة ؛ فالمساواة بين المترشحين؛ وضمان استقلالية العملية الانتخابية وحرص الدولة على أن تيسر للمواطنين التعبير عن إرادتهم بشكل حر ونزيه كلها مطالب لا محيد عنها لوصف انتخابات نزيهة وشفافة؛ كما أنه لضمان هذا الهدف يستحسن أن يصدر القانون الانتخابي عن جهة مستقلة تتميز بالحياد القانوني والسياسي؛ بحيث تشرف على العملية الانتخابية من بدايتها إلى نهايتها اجتنابا لأي طعن قد يصدر عن هذا الطرف أو ذاك.
وبعيدا عن هذه الاشكاليات تنظيم الانتخابات ينبغي له أن يراعى مسألة التناسب بين المراحل الزمنية لكل استحقاق انتخابي؛
- فكيف يمكن أن نراعي مسالة التناسب الزمني للاستحقاقات الانتخابية؟
حينما نتصفح الأعمال التحضيرية من البروتوكول الأول للميثاق الأوروبي لحقوق الانسان نجد المادة الثالثة تشير على أنه ينبغي أن لاتكون الفترات الفاصلة بين الانتخابات قصيرة جدا ولا أن تكون طويلة جدا؛ وإنما تكون بالأحرى متفقة مع الممارسة الطبيعية لدول الحرة؛ وتؤكد الممارسة بدورها على عمومية الحالة بحيث تبين أمثلة عشوائية أن النواب في الولايات المتحدة الأمريكية يعملون لمدة عامين وفي استراليا ونيوزيلاندا لمدة ثلاث سنوات وفي النمسا وبلجيكا لمدة أربع سنوات وفي بوتسوانا والمملكة المتحدة لمدة خمس سنوات ؛ وقضت لجنة الدول الأمريكية لحقوق الانسان بأن إجراء كل الانتخابات لمدة عشر سنوات يخالف الاعلان الأمريكي لحقوق الانسان(4)
*المحور الثاني: التسجيل في اللوائح الانتخابية
يعتبر التسجيل في اللوائح الانتخابية حجر الزاوية لضمان انتخابات فاعلة وفعالة ؛ فالاقبال على التسجيل في هذه اللوائح يترجم حجم المشاركة السياسية الانتخابات؛مثلما يخول للمواطن الحق في الانتخابات؛ إذ بدون هذه العملية لا يحق للمواطن المشاركة في كافة الاستحقاقات. وتعرف اللائحة الانتخابية La Liste Electorale بكونها تلك الوثيقة التي يسجل فيها مجموع من يؤهلهم القانون للمشاركة السياسية"(5) وتتميز اللائحة الانتخابية بكونها عامة ودائمة فعموميتها تعني أنها ليست مرتبطة بانتخابات محددة؛ فهي تسري على كافة الاستحقاقات والاستفتاءات الوطنية والمحلية ذات الصبغة السياسية؛ أما ديمومتها فتنصرف بكونها تحمل نتائج جد إيجابية لفائدة لناخب يأتي على رأسها أنه يصبح غير ملزم بالتسجيل عند كل استحقاق انتخابي أو في كل سنة.(6) بيد أن الديمومة لا تعني مطلقا أن هذه اللوائح تظل جامدة لا يشملها أي تعديل أو تحوير ؛ بل إنها قد تعرف مراجعة كلية أو جزئية تتم من قبل السلطات الادارية تبعا للمتغيرات التي تحدث للنمو البشري بالبلد.
إن السؤال المطروح في هذا الصدد هو : هل أهلية الانتخاب حق أو وظيفة؟
هناك جانب كبير في الفقه الدستوري يذهب إلى اعتبار الانتخاب حق شخصي يتمتع به كل مواطن؛ ويثبت لكل فرد باعتباره من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز حرمان أحد منها (7) والواقع أن حل هذه المسألة ليس هو الذي يفسر التنظيم العملي للانتخابات في الأنظمة الديمقراطية؛ وهذا ما نشاهده على سبيل المثال لا الحصر في المغرب حيث أن أهلية الانتخاب من الوجهة النظرية تعتبر وظيفة في بلادنا؛ وذلك ناتج عن إقرارنا لمبدأ السيادة الوطنية؛ فأهلية الانتخاب هي الوظيفة التي بمقتضاها يشارك المواطنون في إبراز الارادة العامة لكننا نلاحظ حتى مع تبنينا لهذا الموقف المبدئي أن الاقتراع يقع تنظيمه من الناحية العملية وكأنه حق؛ فممارسة هذا الحق يعتبر مجرد عمل اختياري في حين أن الغاية من فكرة أهلية الانتخاب كوظيفة هي أن تؤدي إلى التصويت الاجباري(8)
* المحور الثالث: التقطيع الانتخابي
" إن التقطيع الانتخابي ليس مسألة شكلية ؛ بل إنه عامل أساسي في توجيه الانتخابات؛ إذ يحدث أثرا مباشرا على نتائجها"(9) كأن يتم رسم حدود بعض الدوائر بطريقة تؤدي إلى جمع الأصوات الموالية لحزب أو مرشح منافس داخل حي واحد أو اثنين على الأكثر بحيث يحصل هذا الحزب أو المرشح على أغلبية ساحقة هنا في حين يصبح نصيبه من الأصوات في بقية الدوائر هزيلا للغاية(10) لذا تحرص الدول الديمقراطية على أن تسند مهمة التقطيع الانتخابي إلى هيئة مستقلة عن الحكومة والبرلمان مثلما عليه الحال في بريطانيا استراليا؛ كندا ؛ جنوب إفريقيا (11) كما تحرص للعديد من الأنظمة الديمقراطية على تحقيق المساواة في مسألة التقطيع الانتخابي ؛ فقد قضت المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية بأن شرط الحماية على قدم المساواة يعتبر مشروع تقسيم الولاية لدوائر في انتخابات الكونغرس غير دستوري لأنه أخفق في تحقيق المساواة بين الناخبين في كل دائرة؛ وفي مثال آخر فإن تفاوتا صغيرا يصل إلى 0.6984 في المائة يعتبر غير دستوري (12)
* المحور الرابع: الشروط الذاتية والموضوعية للحملة الانتخابية الناجعة:
للحملة الانتخابية أصول وقواعد سياسية تحتم على الفاعلين السياسيين الالتزام بمقتضياتها فالتزام الادارة بتطبيق القانون ونهج مبدأ المساواة مع كافة المترشحين وإقرار هؤلاء بضرورة وضع برامج واقعية ومحددة واحترام مقتضيات مدونة الانتخابات من قبل الناخب والمنتخب على حد سواء كلها عوامل أساسية من أجل إنجاح حملات انتخابية نزيهة وشفافة(13) والواقع أن الحملة الانتخابية تشكل مدرسة حقيقية لتعلم الديمقراطية؛ إذ تمكن المناظرات الاعلامية خصوصا التلفزيونية من معرفة الرأي والرأي الآخر مع احترام اختلاف وجهات النظر بين المترشحين على اعتبار أن الديمقراطية ليست فقط مجتمع الاختلاف بل ضمان الحق في هذا الاختلاف؛ كما أن هذه المناظرات تمكن المواطن من الاحاطة بمختلف المشاكل السياسية المطروحة؛ ويجسد النظامين السياسيين الأمريكي والفرنسي أفضل نموذج على إنجاح هذه المناظرات.
لكن قبل استعراض مقومات الحملة الانتخابية يجدر بنا التوقف عند هذا المفهوم؟
فماهي الحملة الانتخابية؟
يعرف الفقه الدستوري الحملة الانتخابية بكونها تلك الفترة الزمنية التي يحددها المشرع بغية تقديم البرامج الحزبية في الانتخابات للمواطنين ؛ بحيث يتضمن برنامج كل حزب مشارك في
الانتخابات تشخيصا دقيقا للمشاكل والاكراهات التي يمر منها البلد مع إعطاء حلول واقعية لهذه المشاكل.
إن هذا التعريف يقودنا إلى الوقوف عند أطراف العلاقة في الحملة الانتخابية ؛ فنجاحها يتوقف بشكل رئيسي على إدارة محايدة حيادا قانونيا وأحزاب مسؤولة سياسيا ومواطن واع اجتماعيا وسياسيا.
أولا : الحياد القانوني والسياسي للسلطات الادارية: يبرز الحياد القانوني والسياسي للسلطات الادارية في تعاملها على قدم المساواة مع كافة الأحزاب المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية لا من حيث التطبيق الصارم للقانون؛ ولا من حيث كيفية توزيع الدعم المالي العمومي أو إفراد حصص متناسبة للأحزاب في مختلف وسائل الاعلام العمومية.
إن مبدأ المساواة بين المترشحين يأتي على رأس مقومات نجاح الحملات الانتخابية؛ إذ يقنن هذا المفهوم قواعد اللعبة الديمقراطية من خلال ما تتضمنه مقتضيات القانون الانتخابي:
-1 : التزام الادارة بالتطبيق الصارم للقانون أثناء الحملة الانتخابية : لإنجاح الحملة الانتخابية لا بد لإدارة المختصة أن تكون حاضرة بقوة في المشهد الانتخابي لكي تطبق حرفيا مقتضيات مدونة الانتخابات.
إن التطبيق السليم والصارم للقانون من قبل السلطة يحمي من جهة المرشحين النزهاء من الممارسات السياسوية لمنافسيهم غير النزهاء؛ مثلما ينعكس هذا التوجه للإدارة إيجابا على نفسية المواطن؛ فكلما أحس الناخب بأن الادارة ملتزمة بتطبيق القانون إلا وساهم ذلك في بناء أواصر الثقة بين المجتمعين المدني والسياسي وانعكس ايجابا على حجم المشاركة السياسية ليس فقط في الاستحقاقات الانتخابية بل في مسلسل تدبير الشأن السياسي ككل؛ والعكس صحيح.
ويتجلى احترام الادارة المعنية للقانون بتقيدها التام لعملية افتتاح واختتام الحملة الانتخابية؛ ذلك أن هذه الخيرة تفتتح في ميعاد يحدده القانون بعد أن تكون عملية تسجيل المرشحين قد أقفلت وتنتهي في الموعد الذي يحدده لها القانون ؛ أي ليلة الاقتراع؛ إذ في هذه الليلة يحضر على أي مرشح أن يستكمل حملته الانتخابية بـأي شكل من الأشكال.
وعلى امتداد أيام الحملات الانتخابية ينبغي فلإدارة المعنية السهر على احترام القانون؛ وذلك بمنع كافة أشكال الخروقات الانتخابية كتوظيف الزبونية؛ شراء الأصوات؛ استغلال المرافق والآليات العمومية من أجل أهداف انتخابية؛ إقامة الولائم؛ تقديم الوعد بالتوظيف…. مثلما
يفترض في الادارة تطبيق أقصى العقوبات لأعوانها الذين ثبتت في حقهم خروقات إدارية من شأنها التأثير على نزاهة الانتخابات.
-2 إدارة الانتخابات :يتطلب من الدولة لكي تدير العملية الانتخابية توفرها على إمكانيات مادية تسهل مسألة تصويت الناخبين مثلما تتطلب طاقم بشري ذو كفاءة عالية وسمعة طيبة مشهود له بالنزاهة والحياد.
-ثانيا: إشكالية تمويل الحملات الانتخابية: تطرح مسألة تمويل الحملات الانتخابية من قبل الأحزاب السياسية إشكالات متعددة منها ما هو مرتبط بطبيعة بنيتها السياسية الداخلية ومنها ماهو مرتبط بعلاقتها مع السلطات الادارية.
كثيرا ما تجنح الدول الديمقراطية إلى تقديم المساعدات المالية للأحزاب بغية إنجاز حملاتها الانتخابية؛ بيد أن الاشكالية التي أمست تبرز في المشهد الانتخابي هو ظهور تباين ملحوظ في عمليات التغطية المالية لهذه الحملات، فالدولة تقدم إعانات مالية تبعا لمستوى تمثيلية الحزب داخل البرلمان مما يطرح إشكالية المساواة بين الأحزاب الكبرى والأحزاب الصغرى ؛ فهذه الأخيرة يصعب عليها مسايرة إيقاع التكاليف المالية الضخمة التي تصرفها الأحزاب الكبرى في حملاتها الانتخابية مما يضرب في العمق مبدأ المساواة التي تعتبر من المبادئ الأساسية للديموقراطية.
وغير بعيد عن هذه الاشكالية تطرح إشكالية أخرى لا تقل أهمية عن الأولى؛ وتتعلق بطغيان الضبابية على مصادر تمويل الأحزاب السياسية لحملاتها الانتخابية؛ إذ تطرح تحفظات موضوعية حول العلاقة بين تمويل الحملات الانتخابية وآفة تبييض الأموال أو علاقة الحملات الانتخابية بجماعات الضغط كالشركات الكبرى.
إن الضبابية التي تسود الحملات الانتخابية ظاهرة عالمية تسود جل الأنظمة السياسية المعاصرة؛ فالنظام السياسي الأمريكي يقوم في مجمله على ضرورة جمع التبرعات سواء في الانتخابات الرئاسية أو التشريعية بشكل قد يتعارض مع القانون، حيث تتداخل المصالح الاقتصادية والسياسية والشركات وجماعات الضغط في الحملات الانتخابية؛ كما أن فرنسا عرفت منذ بداية عقد السبعينات هذه الاشكالية بحكم ارتفاع تكاليف الحملات الانتخابية للصحافة الانتخابية. استطلاعات الرأي؛ اللجوء المكاتب المتخصصة في التسويق السياسي.
-ثالثا: الأحزاب السياسية أساس الحملة الانتخابية: تعتبر الأحزاب السياسية الأساس الجوهري لإنجاز حملة انتخابية قوية وفعالة؛نزيهة وشفافة الأمر الذي يفرض على الفاعلين السياسيين الالتزام بمقتضيات القانون الانتخابي تجنبا لأي عملية إفساد انتخابي كشراء الأصوات؛ إقامة الولائم؛ التصويت المتكرر للناخب؛ الانزال لمصوتين من خارج الدائرة الانتخابية؛ …
إن نجاح الحملة الانتخابية يتوقف بشكل رئيسي حول طبيعة التواصل السياسي الذي تقوم به الأحزاب السياسية في علاقتها مع الناخبين؛ فالتسويق الانتخابي ليس ترفا ماديا تظهره الأحزاب في حملاتها الانتخابية بل أمسى مطلبا لا محيد عنه لخلق تواصل فاعل يرمي بالأساس إلى إقناع المواطنين بالبرامج الحزبية عن طريق وسائط الاتصال المتعددة كالملصقات؛ المنشورات؛ وسائل الاعلام العمومية؛ التجمعات؛ اللقاءات المباشرة؛ بيد أن فعالية الحملة الانتخابية الحديثة تجد نجاعتها في الاعتماد على آليات التسويق السياسي للبرامج الحزبية لذلك نجد الأحزاب السياسية القوية في الأنظمة الديموقراطية ترتكز في إنجاز حملاتها على مكاتب الخبرة المتخصصة والمراكز العلمية من اجل القيام باستطلاعات الرأي ودراسة كافة الجوانب المتعلقة بالبرنامج الحزبي بشكل يجعله أكثر عقلانية وسهولة في لفت انتباه الناخب.
إن آليات التواصل السياسي تختلف تبعا لطبيعة الكتلة الناخبة وموقعها الجغرافي؛ فآليات التواصل السياسي بالعالم الحضري ليست هي نفس الآليات التي ينبغي التواصل به في العالم القروي؛ فمؤشرات الأمية؛ الفقر؛ البطالة؛ معدل السن… كلها عوامل تؤثر على طبيعة الخطاب السياسي؛ كما أن نمط الاقتراع يلعب دورا أساسيا في توجيه الحملة الانتخابية؛ فإذا كان الاقتراع الأحادي الاسمي يقتصر على المرشح دون الاهتمام بالحزب فإن الاقتراع باللائحة يؤدي إلى الانتخاب على الأحزاب السياسية أي على البرنامج الحزبي الأمر الذي يتطلب من المرشحين دراية واسعة بمبادئ وبرنامج أحزابهم بغية توصيلها للناخب مثلما يفرض عليهم ترسيخ أشكال الرموز التي اختارتها الأحزاب المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية وهو الأمر الذي يتطلب تأطيرا حزبيا مرتفعا حتى يتسنى للمواطن استيعاب كافة مراحل وأبعاد العملية الانتخابية من بدايتها إلى نهايتها.
رابعا: دور الناخب في توجيه الحملات الانتخابية : لا يقل دور الناخب أهمية عن دور الأحزاب السياسية في تدبير الحملة الانتخابية؛ فالوعي السياسي للناخب بأهمية الانتخابات يلعب دورا كبيرا في توجيه الحملات الانتخابية من قبل الأحزاب ؛ فكلما أحست هذه الأخيرة بوجود ناخبين واعين بالاستحقاقات الانتخابية إلا واضطرت إلى بذل مجهود مضاعف على مستوى وضع البرامج الواقعية واختيار المرشحين الأكفاء ؛ والعكس صحيح.
إن الوعي السياسي للمواطن يتحدد من خلال تنشئته الاجتماعية؛ فالوسط العائلي ومستوى التعليم ودور المجتمع المدني في إشاعة ثقافة المواطنة وتأهيل الفرد سياسيا وجمعويا كلها عوالم تساهم في بلورة وعي سياسي عميق لدى المواطن؛ إذ تمكنه من الادراك بأن الانتخابات ليست لحظة سياسية بل خيار استراتيجي يرهن مستقبله الاجتماعي والاقتصادي قبل أن يرهن مستقبله السياسي.
* المحور الخامس: أنماط الاقتراع… وتأثيرها على العملية الانتخابية
إن الربط الجدلي بين الديمقراطية والانتخابات يقودنا إلى البحث عن أسلوب لممارسة العملية الانتخابية لكونها الوسيلة التقنية التي تمكن المنتخب من النيابة في المؤسسة التشريعية حسب اتجاهات الرأي العام المعبر عنها في يوم الاقتراع؛ ولا يمكن التعبير عن إرادة الناخب إلا باللجوء إلى نمط معين من الاقتراع؛ حيث نجد في هذا الصدد شكلين رئيسيين: الاقتراع بالأغلبية والاقتراع بواسطة التمثيل النسبي .
والملاحظ أن هذا التقسيم ليس تقسيما شكلانيا؛ بل إنه يفضي إلى انعكاسات سياسية قد تصب إما في اتجاه إقرار دمقراطية حقيقية أو صورية تبعا لطبيعة شكل الاقتراع؛ فالاقتراع الأحادي الاسمي بالرغم من بساطته إلا أنه تعتريه جملة من السلبيات تتمثل في كونه يركز على الشخص أكثر من تركيزه على البرامج الحزبية ؛ مثلما يشجع على الرشوة الانتخابية.
بيد أنه ليس هناك نمط اقتراع جيد وآخر رديئ؛ فكل من نمط الاقتراع بالأغلبية أو التمثيل النسبي يعتريانهما سلبيات وإيجابيات حد قول الرئيس السابق فرنسوا ميتران؛ فهذين النمطين يعتريانهما سلبيات وإيجابيات(14)
أولا : الاقتراع بالأغلبية المطلقة أو بالأغلبية النسبية : يعتبر هذا النوع من أقدم الأنظمة الانتخابية (15) إذ هيمن على الساحة الانتخابية إلى غاية منتصف القرن19؛ ويتميز هذا النوع من التصويت بجعل المرشح الحاصل على أغلبية الأصوات هو الفائز دون الاعتداد بالأصوات التي حصل عليها باقي المرشحين ؛ فهو يفضي إلى الاعتراف بمجموع المقاعد للمرشحين الذين حصلوا على أكبر عدد من الأصوات.
-أ- الاقتراع بالأغلبية المطلقة : يأتي الاقتراع بالأغلبية المطلقة حينما يحصل المرشح على نصف الأصوات المعبر عنها زائد واحد (أي51% من الأصوات)؛ وفي حالة إذا ما تعذر ذلك تجرى دورة ثانية يكتفي فيها بالأغلبية النسبية للإعلان عن فوز مرشح معين؛ بحيث تعرف الأغلبية في دورتين بالأغلبية المطلقة.
-ب- الأغلبية النسبية : تعرف الأغلبية النسبية بالأغلبية في دورة واحدة ؛ وتتمثل في فوز المرشح الحاصل على أغلبية الأصوات في دورة واحدة.
- */ الاقتراع الأحادي الاسمي والاقتراع باللائحة: لكل من نظام الانتخاب الأحادي الاسمي ونظام الانتخاب باللائحة مؤيدون ومعارضون ؛ فلكل طرف حججه ومبرراته عن النظام الذي يدافع عنه:
- أ- حجج ومبررات أنصار الانتخاب الأحادي الاسمي: يرى أنصار هذا النظام أنه يتميز بالبساطة وسهولة الاجراءات؛ حيث تنحصر مهمة الناخب في اختيار نائب واحد فقط في دائرته الانتخابية الصغيرة الأمر الذي ينتج عنه تمثيل كل دائرة من دائرة الانتخاب بنائب واحد فقط(16) كما أن هذا النمط يمكن الناخب من معرفة السيرة الذاتية لكل مرشح.
- ب حجج ومبررات أنصار الانتخاب باللائحة: إن كبر دائرة الانتخاب المصاحب لنظام الانتخاب القائمة يحرر النواب من ناخبيهم مما يجعل الانتخاب يقوم على برامج وليس على العلاقات الشخصية ؛ كما أن هذا النوع من الاقتراع يجعل المواطنين أكثر اهتماما بشؤونهم العامة ما يضاعف من أعداد الأصوات الانتخابية إلى جانب كون الانتخاب على اللائحة يكون حول الأفكار والبرامج وليس صراعا بين الأشخاص بيد أن الأهم من كل هذا أن هذا النظام من شأنه أن يحول دون تشويه الانتخابات كالضغط على الناخبين أو المرشحين أو الرشوة أو تدخل الادارة في الانتخاب ؛ فقد قيل بأنه من السهل تسميم كوب ماء ولكن من الصعب تسميم نهر بأكمله.
ونجد في القانون الدستوري ثلاثة أشكال من نظام اللائحة:
-1 اللائحة المفتوحة:يتميز هذا النوع من اللوائح بكونه يتيح للناخب إمكانية اختيار أو عدم اختيار مرشحين لكن في إطار لائحة واحدة دون أن تتاح له إمكانية الجمع بين لائحتين أو اكثر.
-2 اللائحة المغلقة: وهو ما يمنع التبديل في القائمة؛ بمعنى أن ليس للناخب أن يبدل اسما باسم آخر من المرشحين المذكورين في القائمة؛ بل عليه أن يصوت لإحدى القوائم المتنافسة بدون إدخال أي تعديل عليها(17) وهذا الشكل هو الذي تم اعتماده في استحقاقات 27 شتنبر بالمغرب 2002
-3 اللائحة المختلطة: وتعرف كذلك باسم اللائحة المعدلة ؛ بحيث يعطي للناخب حرية اختيار العدد المطلوب من النواب ؛ مثلما يخول له إمكانية الجمع بين مرشحين من لوائح مختلفة أو تعديل في الأسماء المدرجة في اللائحة ؛ ويطبق هذا النظام في لبنان؛ بحيث تتاح للناخب إمكانية اختيار عدد من المرشحين يوازي عدد المقاعد المخصصة لكل دائرة(18)
غير أن تبني نمط الاقتراع باللائحة يقتضي استحضار جملة من الشروط الذاتية والموضوعية التي بدونها لا يمكن إنجاح هذا النوع من الاقتراع بحيث يضعنا هذا النمط أمام جملة من التساؤلات يأتي في مقدمتها أنه يتطلب جملة ما يتطلبه التصويت على برامج حزبية واضحة وشمولية .
وغير بعيد عن إشكالية البرنامج الحزبي فإن الاقتراع باللائحة يتطلب تأطيرا سياسيا جد مرتفع لدى الناخب يخول له التمييز بين هذا البرنامج وذاك ؛ كما أن هذا النمط يفرض قدرا كبيرا من التأطير السياسي بشكل يمكن الأحزاب السياسية من تحقيق الانضباط الحزبي لمناضليها؛ والواقع أن الأحزاب السياسية ظلت على امتداد تاريخ المغرب المستقل تعاني من ظاهرة الرحلات المكوكية لنوابها يمينا ويسارا.
ثانيا: التصويت بواسطة التمثيل النسبي:
إن السؤال المطروح هنا هو : كيف نميز بين الاقتراع المرتكز على الأغلبية ونظيره المرتكز على التمثيل النسبي ؟
إن التمثيل النسبي يعتبر أكثر إنصافا وعدلا لكونه يسعى إلى تمثيل جل الاتجاهات السياسية في البلاد ؛ فهو يفضي إلى توزيع المقاعد على اللوائح الموجودة أي بين الأحزاب السياسية المتنافسة في الانتخابات؛ وذلك لكي تكون هذه الأحزاب ممثلة داخل المجالس التمثيلية وفقا للأصوات التي ظفرت بها ؛ فهذا الأسلوب يقوم على فكرة عادلة ؛ إذ يسمح للأقلية بحماية حقوقها ومشاركتها في تمثيل إرادة الأمة؛ كما يمتاز الاقتراع بالتمثيل النسبي بكونه غير كعقد إذ يتطلب تقسيم الاقليم أو الولاية إلى دوائر انتخابية كبرى ؛ بحيث يتم وفقا لأسلوب اللائحة لا الاقتراع الأحادي الاسمي لأنه يتطلب التصويت على مجموعة مرشحين تضعهم اللوائح التي حصلت على أغلبية الأصوات وتلك التي حصلت على أغلبية الأصوات وتلك التي حصلت على أقل الأصوات بناء على نسبة الأصوات التي حصلت عليها ضمانا لتمثيل الهيآت الصغرى والكبرى في البرلمان والحيلولة دون استئثار الأحزاب الكبرى بالتمثيل البرلماني كما هو الشأن في الاقتراع بالأغلبية .
يبقى من المهم أن نشير بأن الانتخابات لا تعدو أن تكون تقنية سياسية يمكننا أن نوظفها من أجل تعميق الخيار الديمقراطي ؛ مثلما قد تستغل كآلية لرسم ديمقراطية الواجهة ؛بيد أن الاختيار الثاني ينتج عنه مضاعفات صعبة على المستقبل السياسي لأي نظام سياسي؛ والمعيار الفاصل بين الانتخابات النزيهة والانتخابات الصورية هو ضرورة احترام جميع أطراف هذه العملية للمعايير السالفة الذكر.
_________________
الهوامش
1)v.j.p.jacque droit constitutionnel et institutions politiques »edi :dalloz-paris1998-p24
(2)راجع مقالتنا"أدبيات حول الانتخاب" جريدة الأيام- العدد34-بتاريخ 25 أبريـــل 1 ماي2002–ص23.
(3) راجع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 46/137 وأيضا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم47/130 الصادر في18 ديسمبر 1992وكذا قرار الجمعية العامة للأمم لمتحدة رقم48/124 الصادرفي20 ديسمبر1993.
(4) جاي سجيل جوجوين" الانتخابات الحرة والنزيهة- ترجمة أحمد منيب؛ فايزة حكيم- الدار الدولية للاستثمارات الثقافية-مصر2000-ص57/58
(5) راجع مقالتنا "أدبيات حول الانتخاب" جريدة الأيام-مرجع سابق الذكر-ص23
(6) V.J.C.Masclet” Ledroit des elections politiques”– Serie “Que sais je? N 2643-Presses universitaires de france-paris-1992-p22.
(7) راجع عبد الغني بسيوني " النظم السياسية " الدار الجامعية- بيروت1992-ص 210
(8) راجع د .عبد الرحمان القادري : النظرية العامة للقانون الدستوري" دار النشر المغربية- البيضاء-بدون تاريخ الاصدار- ص272
(9) أنظر محمد زين الدين" التأثيرات السياسية لنمط الاقتراع الخاص بالاستحقاقات المغربية لسنة2002- جريدة بيان اليوم –6 شتنبر2002-ص4
(10) راجع زهير شكر " الوسيط في القانون الدستوري" الجزء الأول- النظرية العامة والدول الكبرى" المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- الطبعة الثالثة- القاهرة1994-ص110.
(11) راجع بيتر تيلور-كولفن فلنت" الجغرافيا السياسية في العالم المعاصر" الجزء الثاني-ترجمة عبد السلام رضوان- اسحق عبيد-عالم المعرفة- عدد 283- نشر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآٌداب- الكويت- يوليوز2002 –ص85-86.
(12) جاي-سجيل جوجوين" الانتخابات الحرة والنزيهة- مرجع سابق الذكر-ص 62-63.
(13) أنظر محمد زين الدين" أصول الحملة الانتخابية" جريدة الصحراء -16 شتنبر2002- العدد4988 -ص4
(14) J.C.Zarka” Les Systemes Electoraux” Editions Ellipses-paris 1996-p21
-15 .C.Zarka” Les Systemes Electoraux” op.cit -p21.
(16) راجع موسوعة العلوم السياسية- الجزء الأول- بيروت- الطبعة الثالثة-1990-ص341
(17) راجع موسوعة العلوم السياسية- مرجع سالف الذكر-ص341
(18) أنظر نبيلة عبد الحليم كامل" الوجيز في النظم السياسية والقانون الدستوري المغربي" دار النشر- البيضاء1980-ص123
ورً
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى