بداية لابد من الإشارة إلى أن صياغة مثل هذه العناوين قد توحي بأن أساس منطلقها خلفية متحاملة، الغرض منها تحجيم الأهمية الحيوية التي تحوزها قضايا الشأن العام باختزال الأخيرة في ظاهرة الفساد الإداري، وما ينبغي على الدولة أن تتخذه من تدابير زجرية استجابة لرد الفعل المجتمعي من جهة، وتطهيرا لمجالات تدخلها تحصينا للمصلحة العامة من جهة أخرى. ورغم صعوبة التعامل مع مثل هذه الموضوعات بصرامة الباحث المتحصن بضوابط التجرد والموضوعية نقول إن مسألة التخلص من الخلفية المحركة لمعالجة الموضوع تصبح أمرا ميسورا بعد اتضاح الفهم وتلمس الأبعاد والدلالات التي تحملها المقاربة الجنائية للشأن العام. يبدو غريبا ربط المنظور الجديد بفكرة التأصيل، مادام أن الأخيرة لا تعدو أن تكون عملا لاحقا تكرس به ومن خلاله معطيات سابقة، إما أن تكون في حاجة إلى تجميع منهجي تكتمل به في الفهم والدلالة وتصبح بذلك راسخة بالمبدأ والصياغة الواضحة، أو أن تمر من مقاربة تشخيصية لرصد مواطن الخلل للخلوص إلى تركيبة منطقية تتوقف عليها سلامة التحليل. إلا أنه ومن أجل التوضيح، نشير إلى أن فكرة تأصيل العلاقة هي في حد ذاتها عملية لا منتهية بحيث تحتاج دائما، وبالنظر لرهاناتها المتعددة، إلى تجديد الوعي بضرورة مناقشتها سواء على مستوى تجذير ثوابتها، أو على مستوى إكسابها قدرة المواكبة لمستجدات واقع تطورها وامتدادها، ولعلها الحقيقة التاريخية التي ظلت تعترف للقانون الجنائي بشرعية احتواء مجال الشأن العام، رغم التدافع الفقهي الحاصل بشأن التشكيك في مدى جدوى هذا الاحتواء. مع ذلك، بقيت التشريعات الجنائية تغالط نفسها باختلاق قراءات متعددة لتبرير احتوائها للشأن العام، لم ينتج عنها فسح المجال لتقنيات التجريم والعقاب حتى تنفتح على آليات جديدة تجعل من فكرة الاحتواء مطلبا حضاريا وسلوكا تشريعيا معتادا كما هو الحال في المجالات الأخرى، بحيث وعلى العكس من ذلك، ظلت المقاربة الجنائية للشأن العام حبيسة المنطق الزجري ولو بالمغالاة في توظيف الأداة الردعية، الشيء الذي لم يترك للمشرع الجنائي فرصة اختيار الموقع المناسب داخل منظومة القانون الوضعي. ومن دون أن نبخس الوظيفة التقليدية للقانون الجنائي، باعتباره الدعامة القوية التي تعول عليها الدولة لتصحيح كثير من الاختلالات المجتمعية، فإن الاعتماد عليها لوحدها في جرائم الشأن العام، قد أسفر عن مستوى الواقع عن تطبيق قضائي متضارب ومتناقض، كاد أن يفرغ الجرائم المذكورة من أهم خصوصياتها: ويكفي أن نستحضر هنا الشلل الكلي الذي يعرفه تطبيق أهم النصوص الجنائية، بحيث يصح التساؤل عن مدى جدوى إظهار كثير من الجرأة التشريعية في مجال تعقيده أكثر من أي إرادة عازمة على الحزم ومقتنعة بالمضي فيه؟ إن جرائم الشأن العام لا تخرج عن دائرة مظاهر الاختلال المجتمعي التي لا تحتاج من المشرع الجنائي سوى قراءة متكاملة لتجلياتها ومسح شامل لأهم أسبابها ومسبباتها، بحيث ومن دون تكلف في تقدير خطورتها، يمكن أن تتضح خصوصيتها بسهولة وبالتالي تتيسر مهمة احتوائها. ولعل أهم ما ينبغي التحصن به لإنجاح مهمة المشرع المراهنة بالأساس على الدور التخليقي الذي يضطلع به القانون الجنائي كأداة قوة استثمارها تظهر بالخصوص في تهذيب السلوك الاجتماعي و تقوية الاقتناع بإمكانيات الاندماج داخل منظومة القيم التي تعتبر قضايا الشأن العام مزودها الرئيسي. ولعل السبيل الأقرب إلى تكريس هذه الحقيقة التخلص نهائيا من توظيف جرائم الشأن العام، كخطاب تتكسر حوله الرؤى المستقبلية لتحديث المجتمع وتتقاطع فيه كل الاجتهادات الفكرية بحثا عن منفذ أو موقع يدعي وبشكل مطلق امتلاك المقاربة السليمة، والحال أن حساسية المجال تدفع إلى التمسك بما يكفي من المرونة لإشاعة الوعي بأن حجم القضية يثير مسؤولية جميع مكونات المجتمع، والطريق لمعالجتها ورش كبير يحتاج إلى مراجعة الذات قبل اتخاذ أي موقف حاسم في الموضوع. بنظرنا المتواضع، إن ما يجعل المهمة صعبة على المشرع ارتباط جرائم الشأن العام بالإشكالية الأخلاقية، أي تصور نماذج السلوك المساعدة على ضبط الانحراف، وهي كما يعلم الجميع منهجية تغرق الاجتهاد التشريعي في مسلسل من الافتراضات غالبا ما تؤدي بالنتيجة إلى تمثل متفاوت للحقيقة الواقعية، الشيء الذي قد ينتج عنه، وحسب قناعة كل مشرع، تراتبية غير مقنعة للمصالح المحمية بل وتوظيف شكلي لمنطلق الأولويات. لذلك نقترح و انطلاقا من اقتناعنا بالدور التخليقي الذي يضطلع به القانون الجنائي في علاقته بالشأن العام أن يقع أولا حسن استثمار تقنيات التجريم والعقاب بتحديد المبادئ الكبرى التي سيرتكز عليها المجال المحظور جنائيا، إذ عوض أن يجهد المشرع نفسه في إبراز أهم نقاط الاصطدام الكبرى التي تفرزها سواء علاقة السلطة بالمواطن أو ما ينبغي أن تحظى به الدولة وأجهزتها من اعتبار وحماية، يكون من الأجدى التأكيد على حماية منظومة القيم التي يقوم عليها مفهوم الاندماج داخل الحياة العامة، فتصبح بالتالي العلاقات التي تربط المكونات الثلاثة (دولة – مؤتمن – مواطن) الإطار المحدد لتصور مستويات الزجر والحماية من دون أن يطغى منطق افتراض الشرعية في مواجهة التمرد لأنه على أية حالة يختزل الإشكالية الأخلاقية بتقوية الاقتناع بالإعمال المتزايد للوظيفة الردعية. لن نكون مبالغين إذا قلنا إن جرائم الشأن العام في عمقها، وإذا أخذت بمعزل عن بقية الجرائم الأخرى، إنما تؤسس لمنظور خاص في التعامل مع ظاهرة الجريمة، ليس فقط لأن للاعتبار الخاص بالدولة فيها حضورا قويا، ولكن أيضا على الخصوص لأنها تحرر الدولة نفسها وأجهزتها من كل من يعبث بالقيم التي تجسدها ويأتمنها المجتمع على الدفاع عنها ولو بتقليص فضاء الحقوق والحريات. لذلك كلما تكرس مجهود المشرع الجنائي لخدمة هذا الهدف الأسمى، كلما استطاعت نصوص التجريم والعقاب أن تبلغ أهدافها النبيلة سواء بجعل السلطة في خدمة المواطن أو بمساءلة هذا الأخير بما يفرضه واجب المواطنة من أحقية الاعتبار للمؤسسات والأجهزة، أو بما يحمله مفهوم الحق والحرية من قدرة على التكيف مع متناقضات الحياة المجتمعية، أو بما يرمز له الائتمان على المال العام من حفاظ على الثروة الوطنية... وكلها نماذج سلوك لابد أن تنتهي إلى إظهارها وإبرازها فكرة احتواء القانون الجنائي للشأن العام، بحيث يصبح منطق الردع ذو البعد التخليقي مولدا لطاقة إقناعية تكرس لدى مكونات المجتمع أن هناك مصالح عليا تمثلها الدولة ولا يمكن للمجتمع أن ينشأ ويحيا ويتطور إلا بها وبتكريس كل مجهوده لخدمتها. خلاصة القول إن علاقة القانون الجنائي بالشأن العام منهجية متحضرة لخلق فضاء قانوني تذوب فيه أنانية الفرد لخدمة المجتمع، ومجال مناسب لتكريس الوعي بأن أصالة المجتمع المنظم تكمن بالأساس في الاحتكام إلى منطق القيم المشتركة التي تقوم عليها فكرة التعايش الاجتماعي.
د. فريد السموني
جريدة الصباح
الأربعاء, 22 يناير 2014
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى