للعمل أو الشغل مفهوم راسخ لا جدال حوله، فهو حقيقة ثابتة في الماضي والحاضر والمستقبل، وهو مصدر كل إنتاج وثروة وحضارة وخير ، وهو ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات ويفضله عنها. فبالعمل وحده انتقل الإنسان من حالة الهمجية إلى حالة التحضر والمدنية، وعن طريق العمل تحرر الإنسان من قسوة الطبيعة،
محولا مواردها إلى خيرات ينتفع بها ويشبع حاجاته منها باستمرار، وبفضل العمل، أقام الإنسان علاقات اجتماعية
ونمت المجتمعات وازدهرت الحضارات وظهرت علاقات العمل التي تطورت من فردية إلى جماعية.
اعتبر رواد الفكر الليبرالي أن ثروة الأمم تنتج عن العمل، وكان ذلك ثورة على ما روج له الاقتصاديون من قبل، من حيث إن مصدر الثروة هو الذهب والفضة، أو أن ينبوع القيمة الوحيد هو خصب الأرض.
وما قاله آدام سميت عن قيمة العمل في خلق الثروة في كتابه:« بحث في طبيعة ثروة الأمم وأمجادها» أكده الفقيه الفرنسي مونتسكيو الذي اعتبر أن الإنسان لا يكون فقيرا لأنه لا يملك شيئا، وإنما لأنه لايعمل».
والعمل المنتج للثروة كما هو معلوم، إما أن يتم في إطار حر من ذلك التجارة والصناعة والزراعة، وهي مهن قديمة قدم التاريخ، والصيدلة والمحاماة .. وإما أن يتم في إطار علاقة قد تكون نظامية مع الإدارة أو تبعية للغير.
ومن الطبيعي أن تتخلل هذه العلاقة، سواء كانت نظامية مع الإدارة، أو تبعية للغير، بعض التوترات والخلافات بين أطراف العلاقة الشغلية في مفهومها الجماعي.
ويعتبر الإضراب إحدى صور الخلاف الجماعي للشغل لا يقتصر على علاقات الشغل الجماعية في إطار العمل التابع، بل يمتد حتى إلى القطاع العام.
فما المقصود بالإضراب ؟ وما هو أساس ومصادر مشروعيته ؟ وما هو أثر الإضراب على (الدخل) الأجر بالنسبة إلى أجراء القطاع الخاص، والراتب بالنسبة إلى موظفي الدولة ؟ بمعنى آخر ما هو الأساس القانوني لوقف الأجر أو الاقتطاع من الراتب بسبب الإضراب، سيما في ظل تعثر أهم آفاق الحوار الاجتماعي حتى الآن، وتحديدا مشروع النقابات المهنية ومشروع القانون التنظيمي للإضراب الكفيلين بجعل العلاقة الشغلية سواء كانت تبعية أو نظامية مع الإدارة أكثر وضوحا؟
للإجابة على هذه التساؤلات سنعتمد على خلاف العادة المدرسة الأنكلوسكسونية في المنهجية لمرونتها مقارنة مع المنهجية اللاتينية الجرمانية التي تعتمد على ثنائية التقسيم.
أولا: ماهية الإضراب وأساس مصدر مشروعيته.
يقول الفقيه Guy Gaire في مؤلفه La grève ouvrière :«إذا كان من السهل التعرف على الإضراب عند اندلاعه فمن الصعب تعريفه».
ومع ذلك حاول بعض الفقه المغربي والمقارن تعريف الإضراب باعتباره أحد الحقوق الأساسية، وإحدى الحريات العامة التي تكفلها العديد من الدساتير لفائدة الطبقة العاملة، فالدكتور موسى عبود عرفه بقوله «الإضراب هو توقف الأجراء عن الشغل باتفاق في ما بينهم قصد إلزام مؤاجر بوسيلة الضغط هذه على قبول وجهة نظرهم بشأن المسألة المتنازع حولها».
وعرفه الأستاذ محمد سعيد بناني بقوله: « الإضراب هو امتناع كل أو جزء من الأجراء عن العمل بنية الإضراب، ونتيجة خلاف جماعي ، ويهدفون من ورائه بصفة مدبرة حمل المشغل على تلبية مطالبهم موضوع النزاع».
وعرفه الفقيهان Rivero et Savatier بقولهما :«الإضراب هو القطع المدبر للشغل من طرف الأجراء لإجبار رب العمل عن طريق وسيلة الضغط هذه على قبول رأيهم بشأن المسألة المتنازع فيها».
وعرفهG.LyonGaen et G.H.Gamerlinck بالقول: «الإضراب هو القطع الجماعي المدبر للشغل بقصد ممارسة ضغط على رئيس المؤسسة أو السلطات العمومية ».
وعرفته H.Sinay بقولها: «الإضراب هو الرفض الجماعي والمدبر للشغل للتعبير عن نية الأجراء في التموضع مؤقتا خارج العقد لضمان نجاح مطالبهم».
ومن خلال دراسة هذه التعاريف سواء للفقه المغربي والمقارن، يتضح لنا أنها وإن اختلفت في المبنى فهي تتفق في المعنى، إذ تفيد جميعها أن الإضراب هو ذلك التوقف الجماعي المدبر والمؤقت عن الشغل بهدف حماية أو الدفاع عن مطالب ذات طبيعة مهنية، وهو ما عكسه وعبر عنه المشرع الكندي.
وعليه، فللقول بوجود إضراب سواء في الفقه المغربي أو المقارن يتعين توفر ثلاثة شروط:
أن يكون التوقف مؤقتا عن الشغل من قبل جماعة من الأجراء؛
أن يكون التوقف مدبرا؛
أن يكون بهدف تحقيق مطالب ذات طابع مهني.
وقد كان للقضاء المغربي وفي غياب النص التنظيمي للإضراب دور مهم في تحديد مفهومه وشروط ممارسته أولا ، وبيان مدى مشروعيته من عدمه ، وذلك بوضع ضوابط إطارية ومعيارية مستعينا في ذلك بما استقر عليه الفقه المغربي والمقارن في هذا المجال. ومن الطبيعي أن يكون القضاء الإداري سباقا في هذا المجال، ويرجع ذلك بالأساس إلى أن غير القضاء الإداري قد تم استبعاده من فض نزاعات الشغل الجماعية – الذي يعتبر الإضراب إحدى صورها –ونعني بذلك القضاء الاجتماعي الذي يختص فقط بنزاعات الشغل الفردية ، فيما نزاعات الشغل الجماعية كما هو معلوم تبقى من اختصاص جهة غير قضائية تعتمد مسطرتي المصالحة والتحكيم لاسيما إذا تعلق الأمر بإضراب في القطاع الخاص.
بقلم: يونس العياشي : قاض ملحق بوزارة العدل والحريات
دكتور في الحقوق
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى