استقلال السلطة القضائية مطلب، كان ولا يزال يرفع من طرف كل أطياف المجتمع لما في ذلك الاستقلال من ضمان لسيادة القانون وهيبة الدولة و مؤسساتها،
واحترام حقوق وحريات الأفراد والجماعات. ويعتبر استقلال السلطة القضائية بحق مقياسا لمدى جدارة أي نظام سياسي بحمل لقب «الديمقراطي»، ذلك أن خضوع الجميع لأحكام القانون، كآلية تكشف عن مدى الوعي المتحضر، يتطلب بالضرورة أن تسند مهمة تطبيق ذلك القانون
لجهة معترف لها بهذا الدور ليس فقط على المستوى الوطني و لكن ذلك الاعتراف
يجب أن ينسجم مع ما تذهب إليه الإرادة الدولية في هذا الصدد .
إن الانتقادات الموجهة إلى الطبيعة القانونية للنيابة العامة ترتكز على مجموعة من المرتكزات، منها ما يرتكز على المقوم التاريخي ومنها ما يستند على الفكر الحقوقي، و منها ما يراعي مقومات أخرى، لكن ما سنركز عليه في مداخلتنا هذه، هو المقومان التاريخي والحقوقي .
إن الذين ارتكزوا على البعد التاريخي في نقد الطبيعة القانونية للنيابة العامة، ذهبوا إلى أن اصطباغ النيابة العامة بالطبيعة الإدارية، يجد سنده عند نشأة هذا الجهاز خاصة عندما ثارت الشعوب الأوربية في وجه الإقطاعية، و لما توجست هذه الأخيرة من الأمر خيفة، ابتدعت هذا الجهاز من أجل إظهاره وكأنه يدافع عن المصلحة العليا للمجتمع، إلا أنه في حقيقته لم يوجد إلا من أجل ضمان طريقة قانونية للتدخل في الجهاز القضائي وعمله من أجل حماية المصالح التي تتمتع بها نفس الطبقة الإقطاعية. ويرى موجهو هذه الانتقادات إلى أن مجموعة من الأنظمة السياسية لم تستوعب حجم التحولات التي عرفها الفكر الإنساني، وما أنتجته تلك التحولات من إعادة النظر في مجموعة من المسلمات وعلى رأسها اعتبار الدولة كصاحبة امتياز إلى دولة في خدمة المواطن، و بالتالي فإن أساس اعتبار النيابة العامة جهازا إداريا لم يعد له مبرر، لأنه لم يعد مقبولا اعتبار الدولة فوق القانون، وبالتالي لم يعد لوزير العدل أي دور في حماية مصالح الدولة التي يتعين أن تخضع في آخر المطاف للقانون وسيادته، بما يمثل ذلك من أسس للدولة الديمقراطية الحديثة.
وبالموازاة مع الانتقادات الموجهة على أساس تاريخي، ظهرت مجموعة من الانتقادات التي ركزت على البعد الحقوقي في انتقاد الطبيعة القانونية للنيابة العامة. و يرى أصحاب هذا التوجه النقدي أنه في ظل ما عرفه العالم من تحول في الفكر الحقوقي خلال القرن العشرين خصوصا بعيد الحرب العالمية الثانية، فإن مجموعة من الأنظمة السياسية الرائدة في الديمقراطية ارتأت التخلي عن المقاربة الإدارية والأمنية لعمل النيابة العامة، وتعويضها بالنظرة الحقوقية، منطلقة من كون النيابة العامة في الأصل، تعتبر جزءا من السلطة القضائية التي يعود إليها وحدها أمر حماية الحقوق والحريات وسيادة القانون.
ومن ثمة يذهب أصحاب هذا الانتقاد المؤسس على البعد الحقوقي، إلى أنه في ظل مناخ متسم بالفكر الحقوقي لا يمكن التسليم بكون النيابة العامة ذات طبيعة إدارية و حتى ذات طبيعة مزدوجة، إذ يرى هذا الفريق أن اعتبار النيابة العامة جهازا إداريا من شأنه أن يطلق يد الدولة في التصرف في الحقوق والحريات التي تم إقرارها عبر نضالات إنسانية متواصلة، وبالتالي فإن هذه الحقوق ستبقى مهددة مادامت النيابة العامة تحت السلطة والإشراف المباشرين للسلطة التنفيذية مجسدة في وزارة العدل. كما يرى أنصار هذا الاتجاه أنه لا يمكن تصور الطبيعة المختلطة للنيابة العامة، لأنه من شأنه أن ينتقص من مركزها ومن الاختصاصات التي خولت لها باعتبارها جزءا من السلطة القضائية، وكنتيجة منطقية لكل ذلك، فإنه لا يمكن القول باستقلال السلطة القضائية استقلالا فعليا ومطلقا وفق ما تعارف عليه الفكر السياسي المتقدم. وعلى ذلك، فإن اعتبار النيابة العامة جهازا مختلطا يدل على كون تطبيق القانون في مجموعة من الأحوال سوف يكون مطبوعا بمزاحية السلطة التنفيذية خاصة في ظل وجود مجموعة من القواعد القانونية التي تؤطر عمل النيابة العامة، كما هو الأمر مثلا بالنسبة لسلطة الملاءمة، التي يمكن أن تكون سيفا ذو حدين إما من أجل الإفلات من العقاب أو من أجل التعسف في استعمال تلك السلطات في ظل ضوابط قانونية، وهو ما يشكل جوهر الاستعمال السياسي للنيابة العامة بين الفرقاء من أجل تصفية الحسابات على حساب ضمان الحقوق والحريات وسيادة القانون وبناء المؤسسات الخاضعة لحكمه .
وتأسيسا على كل ذلك، فإن المنتقدين للطبيعة الإدارية أو المختلطة للنيابة العامة، يخلصون إلى أن اعتبار هذه الأخيرة ذات طبيعة قضائية، هو ما يجب تبنيه على اعتبار أن هذه الطبيعة تنسجم والمهام الموكولة إليها، باعتبارها جزءا من السلطة القضائية، مادامت أنها تسهر على حماية و ضمان تمتع الأفراد والجماعات بالحقوق والحريات سواء عند مثولهم أمام القضاء أو قبل ذلك أو بعده. ولعل هذا الاتجاه الذي يناصره هذا الفريق هو ما ينسجم والتوجه العالمي نحو إقرار وتكريس مناخ حقوقي يطبع تعامل وعلاقة الدولة بالخاضعين لسلطانها وفق ما أقرته ولا تزال تقره المواثيق والعهود الدولية، لذلك يدعو أنصار هذه الانتقادات إلى ضرورة إعادة النظر في الطبيعة القانونية للنيابة العامة على ضوء ما تؤكد عليه الاتفاقيات الدولية، ومن تلك الجهات المدعوة إلى إعادة النظر في الطبيعة القانونية للنيابة العامة نجد المغرب خاصة بعد إقرار دستور 2011 ، وبناء على ما التزم به من عهود والتزامات أمام المنتظم الدولي .
ضرورة إعادة النظر في الطبيعة القانونية للنيابة العامة
إن الطبيعة القانونية للنيابة العامة بالمغرب تجد سندها في ما يمكن أن نسميه بالبعد التاريخي أو الخلفية التاريخية، سواء من حيث التاريخ الحقيقي الذي هو أحداث ووقائع، أو من خلال الخلفية التاريخية للمنظومة القانونية المجسدة في القانون الفرنسي . لذلك فإن هذه الطبيعة يجب أن يتم التعامل معها على هذا الأساس، ومن ثم فإن المقاربة التاريخية هي التي يتعين الارتكاز عليها من أجل فهم أعمق وأشمل للطبيعة القانونية للنيابة العامة في المنظومة القانونية المغربية.
فبالرجوع إلى التاريخ الحديث للمغرب كدولة مستقلة ، نجد أن هذا الأخير شهد مجموعة من الأحداث التي طبعت المناخ السياسي خاصة خلال فترة السبعينات، الشيء الذي دفع مركز القرار إلى التعامل مع المؤسسات الإستراتيجية على نحو من المقاربة الأمنية التي طبعت مجمل القوانين التي لا تزال سارية إلى حينه، ومن تلك القوانين ما يرتبط بالنظام القضائي المغربي .
إن المغرب ، تعامل مع القضاء عموما باعتباره مرفقا من مرافق الدولة التابعة لوزارة العدل، ومن ثم، فإن الأحداث التي تم الكشف عنها من خلال الخلاصات التي انتهت إليها هيأة الإنصاف والمصالحة، أثبتت بما لا يدع مجالا للشك الدور السلبي الذي لعبه القضاء في تلك الفترة، الشيء الذي جعله مجرد أداة بيد الدولة، ولم تكن لهذه الأخيرة أية تأثيرات لولا تحكمها في جهاز النيابة العامة تحكما يكاد يختفي معه وجهها القضائي، فمن التحكم في المسار المهني لرجال القضاء المشتغلين بالنيابة العامة إلى التدخل في القرارات التي قد تتخذها النيابات العامة، إلى ما يشكل ذلك من تأثير على المسار الطبيعي للقضايا المنظورة من القضاء. ولذلك فإن معظم التجاوزات الحقوقية التي عرفها المغرب خلال الفترة التي كشفت عنها هيأة الإنصاف والمصالحة، أكدت أن القضاء كان له دور فيها، ومن ثم نادت توصيات الهيأة المذكورة بضرورة ضمان الاستقلال التام للسلطة القضائية و ضرورة إخراج السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل من السلطة القضائية إخراجا حقيقيا ومطلقا .
بقلم: عبد السلام العيماني, عضو المجلس الأعلى للقضاء وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى