السلاح الاقتصادي في علاقات الشمال – الجنوب
أولا –الشمال – الجنوب:إطار خاص للسلاح الاقتصادي
1- استخدام السلاح الاقتصادي في اتجاه واحد توجه حالات تكون فيها الدولة المعاقبة بلدا أو عدة بلدان من الجنوب, والمستهدف بلد من الشمال. ومنها الهند, كمستعمرة بريطانيا, ضد جنوب إفريقيا1 في عام 1946, ثم كدولة مستقلة ضد البرتغال من 1953 إلى 1961 والبلاد الواطئة من 1957 إلى 1962, ومنها موقف الجامعة العربية ضد الولايات المتحدة والبلاد الواطئة في عامي 1973 –1974, ثم ضد كندا في عام 1979, تلك هي الأمثلة الجدية من هذه الحالات. وتفهم هذه الحالات الاستثنائية بسهولة, على أساس النظام الاقتصادي والسياسي للقوة الهندية الكبيرة, ولسلاح الطاقة النفطية للدول العربية المصدرة للنفط. لكن هذه الوسائل تفتقر إليها معظم بلدان الجنوب. وعلى عكس ذلك, إن بلدان الشمال المعاقبة تحوز في الغالب على الشروط الضرورية الثلاثة لاستخدام السلاح الاقتصادي: عدم تساوي الأرباح الاقتصادية للشركاء, ورغبة الشريك التي يصل فعلها إلى درجة الحصول على تنازل سياسي, والقدرة على تنفيذ العقوبات أو منح الأفضليات. وإلى ذلك إنها في الغالب أقوى اقتصاديا وسياسيا من البلدان المستهدفة, وترتبط بها النسبة الأهم من مبادلات البلدان المستهدفة.
2- مجموعة كاملة من الأهداف – يمكن لجميع الأهداف الواردة في جدول التصنيف في الصفحة 21, التي تتعلق بها السياسة الداخلية أو الخارجية للدولة المستهدفة, أن تندرج في إطار علاقات الشمال – الجنوب, وتفسر هذه الشمولية جزئيا بالاختلال الكبير للقوى القائمة: حيث تسمح للشمال بالتوجه نحو الأهداف الأكثر طموحا ( مثلا, تغيير طبيعة نظام مثل التمييز العنصري 2 أو وقف حرب معينة ) كما الأكثر تواضعا ( مثلا, احترام حقوق الإنسان ). ويبقى السلاح الاقتصادي, في بلدان الجنوب حيث تكبح الديمقراطية والحريات, وحيث تكثر بؤر الحرب " الساخنة " , عنصرا هاما لتدخل الشمال .
3- مضمون مميز- يرتبط ضعف أهداف الجنوب بتبعيته الاقتصادية للشمال: حيث تعتبر المساعدة الاقتصادية للتنمية المقدمة من قبل الدولة المعاقبة, والقروض من المؤسسات المالية الدولية ( البنك الدولي, وصندوق النقد الدولي) رافعات قوية في تصرف البلدان الأكثر تصنيعا.
وفضلا عن ذلك, إن تخصص العدد من الزراعات في البلدان النامية بمنتجات تصديرية تجعلها أكثر عرضة لعقوبات المقاطعة. وتعتبر حالة العقوبات الأمريكية ضد كوبا, التي تدخل في إطار علاقات الشرق بالغرب أكثر مما هي في إطار الشمال والجنوب, نموذجية في هذا الخصوص. وقد تمحورت هذه العقوبات الصادرة في عام 1960, والنافدة إلى اليوم, حول المقاطعة لمنتجات إستراتيجية بالنسبة للاقتصاد الكوبي, أي السكر. هكذا أرادت الولايات المتحدة خنق الاقتصاد الكوبي, بجعل السكريات المخصصة لكوبا في السوق الأمريكية معدومة, وبتوزيعها على البلدان المنتجة الأخرى.
ويمكن أن ينكشف توزيع المساعدة الغذائية على البلدان المستفيدة ك " جزرة " هامة1 . هكذا خصصت الولايات المتحدة القسم الأكبر من مساعدتها الغذائية إلى نمطين من البلدان – نمط بلدان جنوب شرق آسيا ونمط بلدان الشرق الأدنى- قبل الاهتمام بأفريقيا ( وخاصة نيجيريا ) في السبعينات, وتشدد صوفيا بسيس على أن:
" الوجه السياسي لهذه المساعدة كان يظهر بالقيود المطروحة أمام الحصول عليها: حيث لم يكن أي بلد يقيم علاقة تجارية مع كوبا أو فيتنام الشمالية يأمل بمساعدة غذائية أمريكية, خلال زمن طويل, وقد جرى استئناف تسليمات الحبوب إلى حكومة تشيلي التي كانت معلقة طيلة حكم ألندي, بعد وقوع الانقلاب العسكري في عام 1973. وكانت الولايات المتحدة تقدم المساعدة إلى البلدان " الصديقة " أو القابلة لتكون كذلك".
وفي الولايات المتحدة, تستند القروض المتعلقة بالمساعدة الغذائية إلى القانون العام 480. وغالبا ما كانت تؤجل في الماضي أو تعلق أو تخفض للضغط على بلدان مثل مصر من عام 1963 إلى عام 1965, أو اندونيسيا من عام 1963 إلى عام 1966, إن مثل هذه القرارات هي أشد صعوبة لقبولها اليوم من الرأي العام في البلدان المعاقبة, وتطبق خاصة على بلدان أفريقية يجتاحها الجوع, مما يفسر, مثلا, كون المجالات المغطاة بالقانون العام 480 مستثناة من تعليق المساعدة الاقتصادية الأمريكية المقررة حاليا إثيوبيا اعتبارا من عام 1976 لإرغامها على احترام حقوق الإنسان.
يمكن أن نذكر في الأخير, في عداد العقوبات الاقتصادية الخاصة بإطار –الشمال والجنوب, تعليق الإمتيازات التجارية المرتبطة بالنظام المعمم بالتفضيل الذي صاغه مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية CNUCED, في جملة من التسهيلات التعريفية تمنحها البلدان الغنية للبلدان النامية دون مقابل. وعلى هذا الأساس, احتل تعليق الإمتيازات الناجمة عن النظام المعمم بالتفضيل SGP موقعا هاما, في عداد العقوبات المتخذة من 1987 إلى 1990 من قبل الولايات المتحدة حيال بنما لإرغام الرئيس البنمي للتخلي عن السلطة.
ثانيا – مثال لـ " الجزرة "1
القمة الفرنسية الأفريقية في بول Baule (حزيران / يونيو 1990)
منذ القمة الفرنسية الأفريقية في مدينة بول, حزيران/ يونيو 1990, رافقت فرنسا حركة ديمقراطية في البلدان الأفريقية, عبرت عن نفسها بذاتها إلى ذلك الوقت. وكانت فرنسا, وهي تشهد الحروب الأهلية الدامية في ليبيريا و الصومال, تتمنى ألا يؤدي التحرر السياسي لأفريقيا الناطقة بالفرنسية إلى الانحراف في تيارات العنف. فشهدت سياسية فرنسا الأفريقية, التي دعمت خلال ثلاث عقود سلطات معادية للديمقراطية, ومتصلبة باسم المصالح الاقتصادية والجيوسياسية, منعطفا كبيرا. وفي بول, حث الرئيس ميتران الرؤساء الأفارقة الحاضرين في القمة على «الدخول في الطريق الديمقراطي ». وظهر استخدام السلاح الاقتصادي ضمنا في الرغبة الواضحة للرئيس الفرنسي لربط " الجهود التعاونية لفرنسا باحترام الحريات الأساسية ". لكن فرا نسوا ميتران خفف من هذا الربط مؤكدا على أنه " يجب على كل بلد السير في الديمقراطية على أسلوبه ووتيرته ". ورأى العديد من الرؤساء الأفارقة في هذه الصيغة احتمال كبح المسار الديمقراطي بتغير مظاهر السلطة فقط. وقد أتاح تعيين التقنيين, في مرحلة أولية, في الإدارة السياسية اليومية, حيث كان يمكن التضحية بهم في حال ظهور الأزمة الاقتصادية والاجتماعية, للرؤساء القائمين الاحتفاظ بسلطتهم مع الاستحسان الفرنسي. لكنه , سرعان ما أخذت الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية تتنافس في سباق جديد إلى " الكسب الديمقراطي ". وكانت كلفة إقامة تعددية حقيقية عالية جدا بالنسبة لفرنسا التي ترددت وتتردد اليوم في السير إلى الأمام في التعاون الاقتصادي لكي يصل التناوب السياسي الذي حصل في عام 1990, في بعض الدول الأفريقية الى دولة قانون حقيقية تعيد العسكر إلى ثكناتهم. وربما لا يكون المنعطف السياسي لقمة بول إلا تبدلا عاديا لأنه صاغ هدفا غير واضح, ولأنه لم يتابع بسياسة فرنسية على مستوى الربط الذي عرض في البداية.
ثالثا –العقوبات الإقتصاية"عصي " الشمال ضد الجنوب
1. العقوبات الأمريكية ضد " البلدان الإرهابية "
أ) تحديد خط سياسي متماسك من الكفاح ضد الإرهاب: رهان بين الكونغرس والرئيس الأمريكي ( 1974-1985). – منذ مصرع الرياضيين الإسرائيليين في ميونخ, في صيف 1972, اعترف الرئيس نيكسون بالحاجة لاتخاذ موقف في مواجهة المشكلة الجديدة للإرهاب. فعرضت الولايات المتحدة على الأمم المتحدة مسودة اتفاق حول منع ومعاقبة عمليات الإرهاب الدولي, فخلقت الإرباك في الأمم المتحدة التي لم تستطع الاتفاق على التمييز بين الأشخاص والشعوب في حال الكفاح من أجل التحرر من جهة, وبين الإرهابيين من جهة أخرى.
ومنذ عام 1972, وأمام عجز الأمم المتحدة عن التصرف حيال العمليات الإرهابية, قررت الولايات المتحدة التصرف وحدها. فصوت الكونغرس في عام 1974 على قرار مقاومة عمليات خطف الطائرات. فسمح هذا القرار لوزير النقل بالحد من العلاقات التجارية الجوية, وحتى بقطعها مع البلدان التي لا تظهر رعاية أمنية جوية كافية في وجه المخاطر الإرهابية. وفي حزيران / يونيو 1976, قرر الكونغرس الوقف الفوري للمساعدة لأي بلد يدعم أو يشجع الإرهاب الدولي ويسمح بالقيام بمراقبة عمليات التصدير والاستيراد لتشجيع البلدان الأخرى على إتخاد إجراءات فورية تمنع العمليات الإرهابية. وبعد ذلك, في عام 1977, قدم الكونغرس مشروع تعديل يطلب من رئيس الولايات المتحدة نشر لائحة بأسماء البلدان الداعمة للإرهاب الدولي, ويسمح للكونغرس إضافة بلدان أخرى إلى اللائحة إذا كان يعتبرها ناقصة. وتضمن القرار كذلك قطع العلاقات الجوية مع البلدان الواردة في اللائحة ورفض السماح لمن سبق أن أقاموا في هذه البلدان بالدخول إلى الأراضي الأمريكية, وقد استخدام الرئيس كارتر حقه في النقض ضد هذا القرار الذي كان يعتبره يحد من صلاحية الرئاسة في أعوام 1977, 1978, 1979.
وقدم الكونغرس في عام 1979, دون أن يبالي بالمعارضة الرئاسية, تعديلا ذهب إلى أبعد من ذلك: حيث كان يطلب من الإدارة أن تطلع الكونغرس على الصادرات نحو البلدان التي تظهر دعما متكرر لعمليات إرهابية, في حال كانت هذه الصادرات تساهم بالطاقة العسكرية لهذا البلد أو تزيد في قدرته على دعم الإرهاب. وكانت عمليات الشطب والإضافة إلى هذه اللائحة ترتبط بالحسابات الجيوسياسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط, وبمقياس الإرهاب الدولي. وإذا كان قد جرى سحب العراق من اللائحة, فإن ذلك قد جرى لإظهار استئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ سبعة عشر عاما, في غمرة اشتداد الحرب بين العراق وإيران.
وفي عام 1985, صوت الكونغرس الأمريكي على قرار تنمية التعاون والأمن الدولي, الذي كان يشتمل على مادتين تتعلقان بصورة مباشرة بالكفاح ضد الإرهاب لأنهما سمحتا للرئيس بفرض عقوبات على الواردات والصادرات ردا على الدعم للإرهاب الدولي.
ب) مثال عقوبة ضد " دولة إرهابية «: ليبيا1 (1978 –1993 )
أ) العقوبات الأمريكية ( 1978- 1992).- اتخذت العقوبات الأمريكية الأولى, ردا على الدعم الليبي لمجموعات "ارهابية" في عام 1978, وتمثلت في الحظر على مبيعات الأجهزة العسكرية. ثم في عام 1981 فرضت الولايات المتحدة إجراءات المراقبة على الصادرات من معدات الملاحة الجوية, ومقاطعة واردات النفط الخام في عام 1982.
في كانون الأول / ديسمبر 1985 أدت الهجمات الإرهابية في مطارات روما وفيينا المنسوبة إلى الفلسطيني أبو نضال, إلى إطلاق العقوبات الأمريكية ضد ليبيا. وكانت الولايات المتحدة تعتبر أن ليبيا بقيادة القذافي هي التي تمول وتساعد زعيم "الإرهاب" الفلسطيني. فأعلن الرئيس ريغان في 7 كانون الثاني / يناير 1986, "المنع الكامل" للصادرات والواردات, ولكل عقد تجاري وأية علاقة جوية مع ليبيا, قبل أن يضاف إليها غداة ذلك, تجميد الممتلكات المالية الليبية في الولايات المتحدة, وفي فروع المصارف الأمريكية في الخارج. وكان يعتبر هذا التجميد, من جانب أمريكا, احتراسا يستهدف إعاقة ردود محتملة من طرابلس, ضد الممتلكات الأمريكية في ليبيا. وكانت الولايات المتحدة قد قررت تجميدا مماثلا ضد إيران بعد حادث أخذ الرهائن الذي حصل في تشرين الثاني / نوفمبر 1979 في سفارة الولايات المتحدة في طهران, دون الحصول على نتيجة حقيقية. بالمقابل, كانت العقوبات التجارية تضايق الشركات الأميركية التي لا زالت قائمة في ليبيا, وفي مقدمتها الشركات النفطية.
هناك أربع شركات ( ماراثون, كونوكو, اميرادا, وأوكسيدنتال) تنتج أكثر من نصف النفط الليبي الخام. وكانت هذه الشركات تبحث عن " الأغطية الشرعية " التي تسمح لها باحترام العقوبات رسميا مع متابعة نشاطها ومع الاحتفاظ بممتلكاتها التي تصل إلى عدة مليارات دولار.
وبعد أن طلبت الولايات المتحدة رسميا, دون جدوى, من البلدان الأخرى الانضمام إلى عقوبتها, كانت تدعو بعض البلدان الأوروبية إلى عدم إحلال شركاتها النفطية محل الشركات الأمريكية, لكي لا تعرض العقوبات ضد ليبيا للخطر.وفي نهاية عام 1988, كان أحد الإجراءات الأخيرة لرونالد ريغان, في نهاية ولايته, توقيع مرسوم رئاسي يسمح للشركات النفطية الأمريكية بالعودة إلى ليبيا, وللشركات الأخرى للعمل في هذا البلد بواسطة الفروع الأجنبية2.
لكن العقوبات الأمريكية لم تؤد إلى وقف العمليات الإرهابية, بل جرى عكس ذلك. فردا على انفجار قنبلة في 5 نسيان / إبريل عام 1986, في أحد ملاهي برلين الغربية التي يتردد إليها الجنود الأمريكيون, أمر الرئيس ريغان, في 15 نسيان / إبريل عام 1986 بقصف طرابلس وبنغازي بالطيران. ويبين الخيار العسكري بوضوح أن الهدف المتوخى من العقوبات لم يتم التوصل إليه. وآلت هذه العقوبات إلى الفشل منذ البداية, لأنها لم تضغط بقوة على المبررات التي كانت تدفع لتمويل العمليات الإرهابية.
ب) عقوبات الامم المتحدة ( 29 أيار/مايو 1992).-جاء تدويل العقوبات ضد ليبيا نتيجة لعمليتين إرهابيتين قاتلتين بشكل خاص ): ففي كانون الأول/ ديسمبر 1988 وقع الاعتداء ضد طائرة بوينغ تابعة لشركة بان آم فوق لو كربي في اسكتلنده, وتسبب بموت 270 راكبا, وفي أيلول / سبتمبر 1989, انفجرت في الجو طائرة 10- DC الفرنسية ومات في الحادث 171 شخصا... وفي النهاية نسبت المسؤولية عن الإعتدائين إلى ليبيا. وطلب الأميركيون والبريطانيون تسليم المسؤولين المتهمين بعملية لو كربي, كما طلبت فرنسا استحضار أربعة ليبيين إلى فرنسا لاستجوابهم على أراضيها, واصطدم الطلبان برفض العقيد القدافي.
وقام هؤلاء الأعضاء الثلاثة الدائمون في مجلس الأمن بممارسة الضغوط لإتخاد عقوبات دولية ضد ليبيا.
وقرر وزير الخزانة الأمريكي في 29 آذار/ مارس 1992, تجميد ممتلكات 46 شركة متعددة الجنسية تحت إشراف ليبي في الولايات المتحدة, وفي 31 آذار / مارس 1992 وجه قرار مجلس الأمن رقم 748 إنذارا إلى ليبيا, محددا لها مهلة حتى 15 نيسان1 / إبريل للامتثال لطلبات البلدان الثلاثة التي تعرضت للاعتداء على طائراتها , ولإلزامها بتقديم دليل العدول عن الإرهاب , وفي حال عدم الاستجابة لا بد من تطبيق العقوبات الدولية:
- حظر ومقاطعة جوية تامة (باستثناء رحلات ذات طابع إنساني, والحج إلى مكة).
- حضر على الأسلحة ومعدات الملاحة الجوية.
كان لهذه العقوبات في الواقع, إضافة إلى الأخرى المتخذة في عام 1986 من قبل الولايات المتحدة, تأثيرا معنويا واسعا. وبإمكان ليبيا إحباط الحظر والمقاطعة الجوية بفضل التعاون مع الجيران العرب ( خاصة تونس ومصر) المستعدين لتكثيف المبادلات البحرية والأرضية مع ليبيا. أما العقوبة الوحيدة التي يمكنها أن تضايق السلطة الليبية, فهي المقاطعة النفطية, لأن 90% من دخل ليبيا إنما مصدره " الريع" النفطي. ورغم العقوبات لم تكن الشركات الغربية, وخاصة النفطية منها, تريد التخلي عن المن الذي تمثله الثروات النفطية الليبية, وظلت تعمل في ليبيا.
وتظهر هذه العقوبات المتواضعة جدا والمنفذة دائما كأنها نوع من تحديد التاريخ بالنسبة للمجموعة الدولية, وكما قال الممثل الأمريكي في الأمم المتحدة توماس بيكينغ, في أيار/ مايو 1992, ل "إرسال إشارات واضحة بأنها لا تتساهل أمام المخاطر على السلام والأمن الدوليين, وبأنها مستعدة لاتخاذ إجراءات ملموسة ضد إرهاب الدولة".
2. رغبة أميركا باحترام حقوق الإنسان في بلدان الجنوب (1976- 1993).
- إذا كانت رئاسة كارتر قد ظلت في الأذهان كرئاسة "أخلاقية " حريصة على احترام حقوق الإنسان في العالم كله, فذلك لأن الرئيس الأمريكي قد وسع إجراءاته إلى الباحة الخلفية للولايات المتحدة: إلى أمريكا اللاتينية, بعيدا عن الاكتفاء بمعاقبة البلدان الشيوعية 1 وحدها. فلم تكثف السياسة التقليدية ل "العصا الغليظة" بملاحقة الخطر الشيوعي ( كوبا كاستور وتشيلي ألندي من 1970إلى1973), بل استخدمت كذلك " العصا " التي تمثلها العقوبات الاقتصادية, لتسهيل تحرير الأنظمة في أمريكا اللاتينية. وخاصة " احترام حقوق الإنسان في القارة الأمريكية. وتقوم لائحة الدول المستهدفة بهذه السياسة الدليل على " الانعطاف " الذي أخذته السياسة الأمريكية حيال أمريكا اللاتينية: أوروغواي ( 1979 –1981), البارغواي (1977- 1981), غواتيمالا (1977- 1979), البرازيل (1977- 1984) سلفادور (1977-1981), بوليفيا (1979-1982). وإذا درسنا العقوبات المقررة ضد هذه البلدان، لظهر لنا أنه إلى جانب العقوبات المالية المعلقة لقروض بنك الاستيراد والتصدير, أو الضاغطة لوقت قروض المؤسسات المالية الدولية ( البنك الدولي, صندوق النقد الدولي ) أو الإقليمية ( مصرف التنمية الأمريكية), قد اتخذ إجراءان بشكل شبه منتظم: تعليق أو تخفيض المساعدة الاقتصادية والمساعدة العسكرية. وكانت البلدان المعاقبة بلدانا نامية تجتاز أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة, وتعاني من أزمة ديون خارجية شديدة. وكان استمرارها الاقتصادي يرتبط بالمساعدة الممنوحة من قبل الولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية. وكانت الأنظمة في الدول المستهدفة كلها استبدادية وأحيانا دكتاتورية. وكانت السلطة بين حاكم فردي هو الدكتاتور سوموزا في نيكا راغوا أو قلة عسكرية مثل اللجنة الانقلابية الأرجنتينية. وكان تعليق المساعدة العسكرية رمزيا, يوجه إلى دول تضطهد شعوبا باستخدام معدات مشتراة من الخارج في معظم الأحيان. وكان يمكن لهذا التعليق أن يكون ذا حدين إلى الحد الذي يقلل معه القدرات على مواجهة حروب العصابات ذات الاتجاه الشيوعي أو اليسار الشديد العداء للأميركيين. وفي آخر الأمر, ينكشف خيار العقوبات " رابحا" لأنه يسهل موجة العملية الديمقراطية لأنظمة أمريكا اللاتينية, إذا لم يكن يحث عليها.
وقد استطاعت رئاسة ريغان (1981- 1988)خلق الشعور بأن احترام حقوق الإنسان لم يكن هدفا أساسيا للعقوبات الاقتصادية الأمريكية لأن بلدين وحدهما كانا ضحيتها بعد أن خرقاها: غرانادا في عام 1983, وهاييتي من عام 1987 إلى 1990
وربما كان هذا الانطباع خاطئا لكون الولايات المتحدة قد عرفت فرص انتقال ديمقراطي لأنظمة استبدادية وعسكرية دكتاتورية عديدة بفضل عقوبات اتخذت في ظل رئاسة كارتر واستمرت أحيانا في عهد ريغان.
وأظهرت رئاسة بوش (1989 –1992) أن الولايات المتحدة, قد تخلصت من الخطر الشيوعي, ووسعت إلى العالم بأسره ( بيرمانيا, الصومال, السودان, الصين) هذا المطلب باحترام حقوق الإنسان.
3- استخدام السلاح الاقتصادي لإلغاء التمييز
العنصري في جنوب أفريقيا1
أ) عقوبات دولية محدودة جدا ضد جنوب إفريقيا ( 1962- 1984). – التمييز العنصري سياسة تفرقة "عنصرية" تبحث عن تنمية منفصلة للسكان البيض والخلاسيين والسود بممارسة سياسة تمييزية حيال الفئتين الأخيرتين. وإذا كانت التفرقة العنصرية قائمة منذ زمن طويل في الحياة اليومية لجنوب أفريقيا, فإن هذا التقليد لم يصبح رسميا وسياسة للدولة وجوهرا للنظام إلا منذ وصول الحزب الوطني إلى السلطة في عام 1948. ولم تظهر مطالب العقوبات الاقتصادية ضد جنوب إفريقيا إلا بعد تأسيس دول مستقلة في أفريقيا السوداء في بداية الستينات.
في عام 1962, طلب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1761 من الدول الأعضاء إغلاق مرافئها في وجه سفن جنوب أفريقيا, ومقاطعة التجارة معها, وتعليق حق الهبوط لطائرتها على أراضيها, لكن " قرارات" الجمعية العامة لم تكن لها إلا قيمة التوصية, فكان لابد من انتظار قرار من مجلس الأمن, اتخذ في السنة التالية, ومنع تزويد جنوب أفريقيا بالتجهيزات والمعدات العسكرية. وفي كل حال لم يكن هذا الحظر للسلاح إلا جزئيا, فقد ميزت بعض الدول, مثل فرنسا, في ذلك حسب كون استخدام هذه الأسلحة والمعدات داخليا أم خارجيا. وكان لابد من انتظار القرارات المتخذة من قبل مجلس الأمن في عام 1970, وخاصة في عام 1977, لكي يكون الحظر للسلاح شاملا. وفي الواقع, اتخذ مجلس الأمن القرار 418 في 4 تشرين الثاني / نوفمبر, ردا على اضطرابات سويتو, مما جعل أية تجارة لأسلحة مع جنوب أفريقيا "غير شرعية". ولم يؤد هذا الحظر المتدرج للأسلحة إلى مضايقة حقيقية لجنوب إفريقيا التي عرفت دائما إيجاد شركاء تفاهمت معهم, وفي مقدمتهم إسرائيل, لتنمية صناعة التسلح والبحث النووي.
وفي المجال الحالي, ورغم كون الولايات المتحدة قد خفضت قروض بنك الاستيراد والتصدير, في عام 1964, إلى إفريقيا الجنوبية ومارست ضغطا على صندوق النقد الدولي لوقف شراء الذهب منها, ولم تتخذ عقوبات مالية حقيقية من قبل المجموعة الدولية. وفي ميدان الطاقة, استطاعت جنوب أفريقيا, بفضل إيران الشاه حتى عام 1979, تطويق الحظر النفطي المقرر من قبل البلدان العربية النفطية ضدها بسبب تعاونها مع إسرائيل خلال الحرب العربية – الإسرائيلية في تشرين الأول / أكتوبر 1973. وكان لابد في نظر المغرب من تنظيم وضع جنوب أفريقيا, كقلعة للغرب في إفريقيا حيث كان النفوذ السوفياتي يحقق تقدما, باستقلال إنغولا وموزنبيق في عام 1975.
ب) تعزيز عقوبات دولية ضد جنوب إفريقيا وتنوع تأثيرها – 1990) ( 1980.- خلقت بداية الثمانينات الشعور بضعف العقوبات. وكان وصول رونالد ريغان إلى السلطة قد ترجم بسياسة من " الالتزام البناء"حيال جنوب إفريقيا. وكانت القدرة الأمريكية على كسر سياسة التمييز العنصري قد أظهرت حدودها, بالنسبة للإدارة الجديدة, فكان يجب تشجيع النظام الجنوبي الإفريقي لتطويره وليس لمعاقبته. وسرعان ما انكشف هذا التوجه الجديد للسياسة الأمريكية, الذي استنكره الحائز على جائزة نوبل للسلام الأسقف الجنوبي الإفريقي الأسود ديزمو ند توتو, في عام 1984, غير قابل للصمود أمام تدهور الوضع الداخلي في جنوب إفريقيا.
وأعلنت حكومة جنوب أفريقيا برئاسة بيتر بوتا, التي أخذ بخناقها تزايد أعمال التظاهر والتمرد والإضطراب والمقاطعة من قبل منظمات السود, حالة الطوارئ في البلاد, في 20 تموز / يوليو 1985. وقام الرأي العام الدولي, المتمرد على القمع الحكومي في جنوب أفريقيا , بالضغط على الحكومات لتعزيز العقوبات.
وجرى التصويت على قرار لمجلس الأمن عرضته فرنسا, وإمتنعت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى عن التصويت, في 26 تموز / يوليو 1985. ونادى القرار بالرفع الفوري لحالة الطوارئ, وبتحرير غير مشروط لجميع المعتقلين السياسيين, بمن فيهم أشهرهم, رئيس ( المؤتمر الوطني الإفريقي ) نلسون ماندلا المعتقل منذ عام 1964.
كانت العقوبات الاقتصادية المفروضة على جنوب إفريقيا هي التالية:
- منع الاستثمارات الجديدة.
- مقاطعة واردات القطع الذهبية من جنوب إفريقيا.
- منع العقود الجديدة في المجال النووي.
- الحظر على الحسابات المستخدمة من قبل الشرطة أو الجيش في جنوب إفريقيا.
وظلت هذه العقوبات محدودة, فلم تصل إلى مجال المواد الأولية مثلا( فلزات المعادن, والمعادن الثمينة), المجال الحيوي بالنسبة للاقتصاد الجنوبيالإفريقي وللصناعة الأمريكية ولا إلى المجال النفطي. وكانت المخاطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية, الناجمة عن الأزمة في جنوب إفريقيا, تدفع المستثمرين الأجانب أكثر من العقوبات للهرب السريع من سوق خطرة جدا. وكان هبوط العملة الوطنية لجنوب إفريقيا, والتضخم السريع يزعزعان الاقتصاد الجنوبي الأفريقي.
إذا كان الرئيس ريغان قد رغب في الحد من العقوبات, فإن الكونغرس كان يتمنى تعزيز العقوبات, وتلافيا للالتفاف على نقضه لعقوبات جديدة, بادر في أيلول/ سبتمبر 1985, بفرض عقوبات تتفق في الواقع مع قرار الأمم المتحدة. وخلال شهر أيلول/ سبتمبر ذاته, عارضت بريطانيا لبعض الوقت, داخل المجموعة الأوروبية – وخاصة رئيسة وزرائها مارغريت تاتشر – قبل الموافقة على عقوبات جديدة من ألاثنتي عشرة دولة, في المجالات العسكرية والنووية.
كانت إدارة ريغان وحكومة تاتشر تستمران في خيارهما السياسي على الأقل, بالاعتراض على فرض عقوبات جديدة في حزيران / يونيو 1986, ولم تتمكن بريطانيا من منع المجموعة الأوروبية, في أيلول/ سبتمبر 1986, من التصويت على عقوبات جديدة بمقاطعة الحديد و الفولاذ من جنوب إفريقيا و كانت مقاطعة الفحم قد أوقفت بسبب رفض ألمانيا والبرتغال. وفي الولايات المتحدة, جرى تفادي نقص الرئيس ريغان للعقوبات المقررة. من قبل الكونغرس بتصويت حاز على الثلثين في مجلسي النواب والشيوخ. وأتاح هذا التصويت اتخاذ قرار مضاد للتميز العنصري في 20 تشرين الأول / أكتوبر 1986, وسع العقوبات كثيرا. فمنع القروض والاستثمارات الجديدة, وقاطع الواردات من الفولاذ والحديد والفحم والنسيج والمنتجات الزراعية والمواد المنتجة بإشراف حكومة جنوب إفريقيا ( باستثناء " المواد الاستراتيجية " للجيش الأمريكي ). واستبدل السكر المستورد من جنوب أفريقيا بسكر الفيليبين, ووضعت صادرات السلاح والنفط تحت الحظر الكلي, ومنعت المصارف الأمريكية من قبول الودائع من حكومة جنوب إفريقيا, وعلقت في الأخير علاقات الملاحة الجوية مع جنوب إفريقيا. واستكمل هذا القرار بتعديل رانجل الذي ضاعف الرسوم الضريبية على المؤسسات الأمريكية العاملة في جنوب إفريقيا. ورغم هذه القائمة الكبيرة, لم يكن لهذه الإجراءات إلا قدر ضئيل من الضرر. ولم يكن الحظر النفطي يخيف جنوب إفريقيا التي كانت قد تعلمت منذ زمن بعيد إنشاء المخزون وإدارته وتنمية الطاقة النووية والمحروقات التركيبية, وإيجاد شبكات التموين السرية والمضمونة.
في صيف 1988, ناقش الكونغرس الراغب في توسيع العقوبات ملاحقة دفع العقوبات التجارية إلى الوقف الكامل للاستثمار. وتركز النقاش حول احتمالات الردود الإفريقية الجنوبية التي كانت تعلق تسليمات البلاتين والمعادن النادرة الأخرى للصناعة الأمريكية المدنية والعسكرية, لا سيما صناعة السيارات والملاحة الجوية. وبعد التصويت على العقوبات في مجلس النواب, لم يقم مجلس الشيوخ بدرسها. هكذا, إن تبعية الدولة المعاقبة كانت تمنعها من معاقبة البلد المستهدف في مجال حيوي للاقتصاد والتجارة الخارجية في هذا البلد.
ج) سياسة تقويض النظام العنصري المتبعة من قبل فريدريك دوكليرك ورفع العقوبات (1990- 1992). – بدأ تحرير النظام في جنوب إفريقيا بالظهور في السنتين الأخيرتين من حكم بيتر بوتا. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 1988, أصدر الرئيس عفوا عن ستة سود محكومين بالإعلام, دون أي دليل , لقتل مستشار أسود في شاربفيل . جرت مقاومة هذا الحكم في كانون الأول/ ديسمبر 1985 بحملة هامة أمام الرأي العام الدولي. فكان العفو إجراء رمزيا. وتبعه في كانون الأول / ديسمبر 1988 قرار رمزي جدا دون شك, لكنه كان ذا وزن سياسي هام: نقل مانديلا إلى مقر إقامة مراقب. في الواقع كانت هذه الدلالات تشهد بأن حكومة جنوب إفريقيا بدأت تراقب الوضع سياسيا وبنية طيبة. ومنذ أواسط عام 1989, بدأت الرساميل الخارجية تتوافد إلى جنوب إفريقيا.
وأدى وصول فريدريك دوكليرك إلى رأس الدولة, في 29 أيلول/سبتمبر 1989, إلى دخول جنوب إفريقيا في مسار الإصلاح, مما كان يجب أن يؤدي إلى تغيير في طبيعة النظام ذاته. وأطلق سراح نلسون مانديلا في شباط/ فبراير 1990, دون شروط. وطلب الرئيس التاريخي للمؤتمر الوطني الإفريقي استمرار العقوبات حتى الانحلال التام لنظام التمييز العنصري, وإقامة حكومة انتقالية, موضحا أن رفعا سريعا لها يحث حكومة بريتوريا على الجمود في هذا المجال. ورفعت أوستراليا وبريطانيا العظمى العقوبات, لكن المجموعة الأوروبية اكتفت بوعد بالرفع حين أودع مشروع الإلغاء لدى الجمعية الوطنية لجنوب إفريقيا محولة "العصي" إلى "جزرات" جديدة.
في الواقع, جرى السماح للاستثمارات الأوربية بالعمل في إفريقيا الجنوبية منذ كانون الأول / ديسمبر 1990. وتسارع المسار بعد خطاب ألقاه الرئيس دوكليرك في الأول من شباط / فبراير 1990, وأعلن فيه برنامجا للإلغاء الرسمي للقوانين الأساسية للتمييز العنصري, كما طلب فيه رفع العقوبات الاقتصادية. وتحققت الاستجابة لطلبه في نسيان 1991 من قبل المجموعة الأوروبية – باستثناء الحظر على الأسلحة والنفط – وفي تموز/ يوليو1991 من قبل الولايات المتحدة- باستثناء الحظر على الأسلحة وعلى القروض من صندوق النقد الدولي, وضمانات بنك الإستيراد والتصدير. ولم يترجم رفع العقوبات الأمريكية باندفاع للمشاريع الوطنية في جنوب إفريقيا. لأن هذه المشاريع كانت تعتبر تكاليف الاستثمار والمخاطر السياسية في المرحلة الانتقالية تبقى مرتفعة جدا. وفضلا عن ذلك, كان رفع العقوبات يخص الحكومة الاتحادية فقط, وليس الستة والعشرين ولاية, والسبع والثمانين مدينة, والعشرين عاصمة إقليمية والجامعات التي كانت هي أيضا قد أخذت عقوبات ضد جنوب إفريقيا وفي السابع عشر من آذار/ مارس1992, أعطى السكان البيض في جنوب إفريقيا رأيهم, عبر الاستفتاء, في متابعة سياسة الإصلاح المتبعة من قبل فريدريك دوكليرك, مما خلق رهانا على الاستقرار لدى الدول المعاقبة.
د) ما هو دور العقوبات في إنهاء سياسة التمييز العنصري - أنكرت حكومة جنوب إفريقيا والحزب الوطني تأثير العقوبات على اقتصاد البلد. فلم تصب العقوبات الاقتصادية ضد جنوب إفريقيا البلد بشكل مؤثر. وسجل حجم المبادلات مع الخارج زيادة ملحوظة خلال السنوات- 1985- 1989 (+ 24,1 % للصادرات و26,2 % للواردات) بينما بلغ حجم الاستثمارات التي توقفت عن العمل خلال الفترة ذاتها 10,8 مليارات دولار.
كان يفترض أن تؤدي العقوبات التجارية لعام 1986 إلى هبوط في الإنتاج, بيد أن ذلك ظل محدودا, وغادرت الشركات الأجنبية جنوب إفريقيا لأسباب اقتصادية مرتبطة بالركود الكبير لعامي 1984-1985 وليس لأسباب سياسية. ولتفادي عقوبات المقاطعة والحظر التجاري , وجدت جنوب إفريقيا أسواقا بديلة, هي أسواق الإتحاد السوفياتي . وأظهر محتوى العقوبات عجزها لعدم ارتباطها بالذهب والماس والمعادن الإستراتجية- مثل البلاتين والبالاديوم والحديد المطلي بالكروم و الفاناديوم- أي بأهم الصادرات الجنوبية الإفريقية, ومن جهة أخرى, فقد مثلت جنوب إفريقيا, بسبب الحرب الأهلية في أنغولا والموزنبيق, الممر الوحيد إلى البحر للبلدان الوسطى لإفريقيا الجنوبية, مما يفسر طريق " الترانزيت", لنحاس زامبيا, ونيكل زيمبامبوي عبر جنوب إفريقيا.
- في هذا الشأن يقول فيليب مورو دوفارج:
"لقد نجمت النتائج الأقسى, بالنسبة لجنوب إفريقيا, من وقف الإستثمارالذي قامت به الهيئات المتعددة الجنسيات, الأمريكية والإنجليزية في بادئ الأمر, ببيع فروعها المحلية. ففي البذء, كانت هذه المشاريع تستفيد من نظام تحرري (ليبرالي) يقرب من أنظمة الديمقراطيات الصناعية. وخاصة أن اقتصاد جنوب إفريقيا قد ظل منفتحا. ولما كان هذا الاقتصاد موزعا بين دوائر عالمية, في مرحلة ثقة المستثمرين القلقين على مستقبل منشآتهم, كان لابد أن يتعرض للبطء, كماأصبحت أجهزته قديمة... وكان من المحتم أن تستعيد جنوب إفريقيا ثقة العوامل الاقتصادية والمالية الهامة (المتعددة الجنسية) والمنظمات الدولية, لا سيما صندوق النقد الدولي).
هكذا, إذا كانت العقوبات التجارية ضد جنوب إفريقيا قد ظل أثرها محدودا فقد كانت للعقوبات المالية أهمية أكبر.
ولم يعد النظام العالمي المتراخي والمتفوق واليوم يظهر بتعابير المواجهة بين الشرق والغرب – بعد زوال الشرق- وبقدر أقل في شكل نزاع بين الشمال والجنوب – بعد تفكيك الجنوب, ومع ذلك فإن السياق الجيوسياسي الجديد لا يزيل مخاطر النزاعات,بل حتى يمكن أن يسهلها بعد زوال "الجليد النووي" الذي كان يغلب خلال الحرب الباردة. وفي هذه النزاعات التي ليست هي بين الشرق و الغرب , و لا بين الشمال والجنوب, يجري استخدام السلاح الاقتصادي بانتظام ولهذا سندرسه عبر أحدث نزاعين وأكثرهما أهمية: حرب الخليج والحرب في يوغوسلافيا السابقة.
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى