Thursday, January 31, 2013

دراسة في القانون: أي استقلال للنيابة العامة يكرس لاستقلال السلطة القضائية في الدستور ؟ (الحلقة الرابعة)


استقلال السلطة القضائية مطلب، كان ولا يزال يرفع من طرف كل أطياف المجتمع لما في ذلك الاستقلال من ضمان لسيادة القانون وهيبة الدولة و مؤسساتها،
واحترام حقوق وحريات الأفراد والجماعات. ويعتبر استقلال السلطة القضائية بحق مقياسا لمدى جدارة أي نظام سياسي بحمل لقب «الديمقراطي»،  ذلك أن خضوع الجميع لأحكام القانون، كآلية تكشف عن مدى الوعي المتحضر، يتطلب بالضرورة أن تسند مهمة تطبيق ذلك القانون
 لجهة معترف لها بهذا الدور ليس فقط على المستوى الوطني و لكن ذلك الاعتراف
يجب أن ينسجم مع ما تذهب إليه الإرادة الدولية في هذا الصدد .

إذا ما نظرنا إلى طبيعة الخلاصات التي وقفت عليها توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، نجد أنها تجسد أزمة عدم انضباط المنظومة القانونية المغربية لما تفرضه وتقره الاتفاقيات الدولية في ميدان الحقوق والحريات. إذ أن هذه الأخيرة وانطلاقا من الفكر الإنساني الراسخ بضرورة قيام الدول الحديثة على سلطات ثلاث تشريعية وتنفيذية وقضائية، ترى أن هذه الأخيرة يتعين أن تضمن لها الدول الاستقلال التام والحقيقي عن السلطتين السابقتين، كما يجب أن تلعب دورا أساسيا في حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات، بما يضمن جعل المؤسسات والأفراد سواسية أمام القانون، ولن يتأتى ذلك، إلا باعتماد مقاربة حقوقية منسجمة مع ما تفرضه الإرادة الدولية من أجل التأكيد على الاندماج الفعلي والصريح للمغرب في المنظومة العالمية، سواء من خلال النص القانوني أو من خلال البعد المؤسساتي .
لذلك، فإن النظرة التي كانت تحكم المغرب، في تعامله على القضاء عموما والنيابة العامة على وجه الخصوص، يجب أن تتغير بما يثبت أن المغرب قد قام بالخطوات اللازمة لإظهار حسن نواياه أمام المنتظم الدولي، خاصة عندما يقر بالطبيعة القضائية لجهاز النيابة العامة كجزء لا يتجزأ من السلطة القضائية، في مناخ أصبح يتسم أكثر فأكثر بضرورة احترام الحقوق والحريات من خلال الممارسة اليومية مع الانضباط المطلق لحكم القانون. ونجد أنفسنا في هذه المداخلة غير مضطرين للتذكير بما توصي به الاتفاقيات الدولية من ضرورة ضمان أن يمثل الأفراد أمام جهات قضائية مختصة ، متسمة بالحياد والاستقلال وأن تصدر قراراتها باستقلال تام عن أي تأثير يمكن أن تخضع له وبخاصة من جهة السلطة التنفيذية. لذلك فإن المغرب وهو يعي هذه المتغيرات التي أصبحت أكثر إلحاحا، سيجد نفسه مضطرا إلى إعادة النظر في المركز القانوني للنيابة العامة، وفي هذا الصدد، نجد أن مختلف الفاعلين الحقوقيين نادوا ولا يزالون بضرورة فصل السلطة القضائية عن نظيرتها التنفيذية فصلا ينسجم والمعايير الدولية المؤسسة لسلطة قضائية مستقلة، ما تظهر معه الإرادة المجتمعية التي توافقت على ضرورة الاحتكام إلى سلطة قضائية غير خاضعة إلا لحكم القانون، واعتبرت ذلك المدخل الحقيقي للدولة الحداثية والديمقراطية التي تضمن فيها الحقوق والحريات سواء للأفراد أو الجماعات.
وخلاصة القول، إن المغرب آمن بما لا يدع مجالا للشك بأن الظرف مواتيا لتبني المقاربة الحقوقية والقانونية للطبيعة القانونية للنيابة العامة، بعيدا عن كل تأثير لخلفيات تاريخية أو لمعايير مصلحية ضيقة غير المصلحة العليا للوطن، ويعضد كل ذلك الإجماع على ما تضمنه الدستور من إقرار باستقلال السلطة القضائية كسلطة واحدة غير قابلة للتجزئة بين شقيها المتمثلين في قضاء الحكم وقضاء النيابة العامة.
لذلك وجب علينا التساؤل حول الكيفية التي تعامل معها المغرب من خلال دستور 2011 في ما يتعلق بتبني المقاربة القانونية الصرفة للنيابة العامة، التي من خلالها يتضح الانتصار للطبيعة القضائية للنيابة العامة.
المركز القانوني للنيابة العامة في الدستور الجديد
إن الحديث عن المركز القانوني للنيابة العامة على ضوء أحكام الدستور الجديد لسنة 2011، يعني تحديد طبيعتها القانونية على ضوء مقتضيات الدستور الجديد، ومن أهداف ذلك الوقوف على مدى اعتبار النيابة العامة جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية أم أنها منفصلة عنها. ولن يتأتى الوقوف على ذلك، إلا من خلال تبيان المحددات الدستورية العامة التي تؤسس للطبيعة القانونية للنيابة العامة وكذا لعلاقتها بوزارة العدل والحريات، حتى نتمكن من الوقوف على مدى اعتبار استقلال النيابة العامة شرطا أساسيا لاستقلال السلطة القضائية.
المحددات الدستورية  للطبيعة القانونية للنيابة العامة
يعتبر الدستور المغربي لسنة 2011 فرصة تاريخية مكنت مختلف الفاعلين في حقل العدالة من تناول مختلف الجوانب المتعلقة بمنظومة العدالة، وما يستقطب الاهتمام كل ما يتعلق بالقضاء باعتباره جوهر وقلب تلك المنظومة. وإذا كان الكل مجمع على ضرورة استقلال السلطة القضائية، وحاسم في كون الدستور الجديد قد عمل على ضمان ذلك الاستقلال ونص عليه، فإن الجدل بقي محتدما حول مدى اعتبار النيابة العامة جزء من السلطة القضائية بالمفهوم الدستوري أم العكس. ومن هذا المنطلق يجب التعامل مع موضوع النيابة العامة على أساس مقاربة دستورية تستند إلى مفهوم التأويل الديمقراطي القائم على اعتبار الغايات والأهداف الحقيقية التي قصدها المشرع الدستوري مع استغلال القاموس المفاهيمي الذي لجأ إليه المشرع الدستوري عند تفصيله لمقتضيات الباب السابع المتعلق بالسلطة القضائية.
ولعل أهم ما يثير الانتباه في هذا السياق هو أن المشرع الدستوري عمل على تبني وحدة المفهوم المتعلق بـ»القاضي»  في جميع المقتضيات، وإن ظهر فيها نوع من التمييز بين قضاء الحكم وقضاء النيابة العامة مع ترك باب الاجتهاد واسعا في بعض جوانب التنظيم القانوني للسلطة القضائية خاصة ما يتعلق بالنيابة العامة.
وحدة مفهوم القاضي في الدستور الجديد
إن القارئ للمقتضيات الدستورية لن يجد عناء في تلقف الإشارة الواضحة التي مفادها أن المشرع الدستوري استعمل لفظة « القاضي « للدلالة على كل فرد من أفراد السلطة القضائية كيفما كان موقعه، سواء أكان يشتغل في قضاء الحكم بكل أنواعه أو قضاء النيابة العامة.
وبلغة الأرقام، نجد أن المشرع الدستوري استعمل لفظة « القاضي « في ستة مواقع،  منها أربعة منها في الفصل 109 وواحدة بالفصل 117، بينما استعمل لفظة  « قضاة « أربع مرات في الفصول 57 و110 و111 و115، أما لفظ « القضاء» فقد وردت في الفصول 67 و109 و110 و111 و113 و115 و126. وما يلاحظ من استعمال هذه الألفاظ الدالة على القضاء والقضاة والقاضي، أن لها دلالة عامة تجمع بين كل من قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة، ما يعني أن نية المشرع الدستوري انصرفت إلى توحيد مفهوم القاضي في الدلالة الدستورية وهو ما يجب الانتباه إليه عند التداول القانوني والتشريعي في كل ما سيصدر من قوانين سواء أكانت تنظيمية أم قوانين عادية .

بقلم: عبد السلام العيماني, عضو المجلس الأعلى للقضاء  وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا