Thursday, January 31, 2013

دراسة في القانون: أي استقلال للنيابة العامة يكرس استقلال السلطة القضائية في الدستور ؟ (الحلقة الثانية)


استقلال السلطة القضائية مطلب، كان ولا يزال يرفع من طرف كل أطياف المجتمع لما في ذلك الاستقلال من ضمان لسيادة القانون وهيبة الدولة و مؤسساتها،
واحترام حقوق وحريات الأفراد والجماعات. ويعتبر استقلال السلطة القضائية بحق مقياسا لمدى جدارة أي نظام سياسي بحمل لقب «الديمقراطي»،  ذلك أن خضوع الجميع لأحكام القانون، كآلية تكشف عن مدى الوعي المتحضر، يتطلب بالضرورة أن تسند مهمة تطبيق ذلك القانون
 لجهة معترف لها بهذا الدور ليس فقط على المستوى الوطني و لكن ذلك الاعتراف
يجب أن ينسجم مع ما تذهب إليه الإرادة الدولية في هذا الصدد .

إن الحديث عن النيابة العامة في المنظومة القضائية المغربية، لهو حديث عن تجذر تاريخي موسوم بنوع من النظرة الأمنية التي كانت تتحكم في عمل هذا الجهاز، خاصة أن المغرب، الذي مر من مجموعة من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، قد وجد في بعض التوجهات الفقهية والقانونية ما يشفي غليله من أجل تحديد الطبيعة القانونية للنيابة العامة، إلا أن تحديده لتلك الطبيعة كان موسوما بنوع من المرونة انسجاما منه مع التزاماته الدولية التي ما فتئ يعبر عنها منذ أول دستور للمملكة لسنة 1962، وأخذا بعين الاعتبار لما جاء به المرجع التاريخي الحديث للمنظومة القانونية المغربية والمتمثل في النظام القانوني والقضائي الفرنسي. إلا أن زوال تلك الظروف الاستثنائية ودخول المغرب عهدا من الاستقرار السياسي والمجتمعي، دفعه إلى ضرورة إعادة التفكير في طريقة نظرته للنيابة العامة طبيعة ودورا وسلطات بما ينسجم أكثر مع التوصيات والتقارير الدولية في هذا المضمار.
واستنادا على ذلك، فمن المفيد التطرق إلى موضوع النيابة العامة في هذا الشق الأول من هذه المداخلة من خلال نقطتين أساسيتين، أولاهما تتعلق بمركز النيابة العامة في الأنظمة القضائية على ضوء التوجهات الفقهية  والانتقادات التي لاقتها تلك التوجهات، في حين سنفرد النقطة الثانية للتفصيل في ضرورة إعادة النظر في الطبيعة القانونية للنيابة العامة من أجل استجابة حقيقية لالتزامات المغرب الدولية.
الطبيعة القانونية للنيابة العامة في التوجهات الفقهية
لقد تعددت الآراء الفقهية التي تطرقت للطبيعة القانونية للنيابة العامة، وتأثرت تلك التوجهات بمجموعة من المؤثرات التي طبعت الحقب التاريخية للدول، فكانت تنطلق غالبا من القراءة البعدية لما كانت عليه النيابات العامة في مختلف الأنظمة القضائية. ولذلك فإن الفقهاء القانونيين كانوا دائما ولا يزالون يؤسسون نظرتهم على أسس واقعية و ليست قانونية، إذ أن تطرقهم للطبيعة القانونية للنيابة العامة لم يكن من منطلق تحديد الشكل والطبيعة التي يجب أن تكون عليه تلك المؤسسة وإنما من أجل وصف واقع معيش، وهو الأمر الذي جعل تلك التصنيفات تكون محل انتقاد يأتي من الفقه القانوني ذاته.
التحديد الفقهي للطبيعة القانونية للنيابة العامة
تتوزع النظرة الفقهية للطبيعة القانونية للنيابة العامة على ثلاثة توجهات أساسية، أولها أن النيابة العامة جهة إدارية، وثانيها أنها جهة قضائية، في حين ترى النظرة الثالثة أن النيابة العامة هي جهة مختلطة الطبيعة تجمع بين الإداري و القضائي، وقد كان لكل توجه على حدة مبرراته، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن تلك التوجهات الفقهية لم تكن توجهات مؤسسة كما هو الحال بالنسبة إلى معظم المؤسسات القانونية الفكرية والمؤسساتية، وإنما كانت توجهات قائمة على الملاحظة والاستنتاج لما هو موجود في الأنظمة القضائية المختلفة.
وفي هذا السياق يمكن التطرق لكل توجه على حدة بصورة مقتضبة، على أن يكون ذلك ممهدا للفقرة الموالية التي سنتناول فيها الانتقادات الموجهة لتلك الرؤى .
النيابة العامة ذات طبيعة إدارية
يرى أنصار هذا الاتجاه أن تبعية النيابة العامة للسلطة المباشرة للسلطة التنفيذية يجعلها تمتثل للتوجهات العامة التي تسطرها الحكومات في مجالات الحياة اليومية، ولذلك فإن وجودها في المحاكم يعتبر امتدادا للسلطة التنفيذية في الجهاز القضائي، وأنها تعبر عن وجهة النظر الحكومية في القضايا المعروضة على أنظار القضاء، ويرى أنصار هذا الرأي أن النيابة العامة لا يمكن أن تتحرك إلا بإذن من السلطة الحكومية التي تتبع لها، و بالتالي فإن كل المواقف والاختصاصات التي تمارسها النيابة العامة في هذا الصدد تستند إلى وجود سلطة تسلسلية وتراتبية، قوامها أن وزير العدل باعتباره ممثلا للسلطة التنفيذية هو الرئيس المباشر للنيابة العامة وهو البوابة الرئيسية لتدخل السلطة التنفيذية في شؤون القضاء .
النيابة العامة جزء من السلطة القضائية
ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن النيابة العامة، ما هي في آخر المطاف إلا مجموع الأفراد المنتمين إلى السلطة القضائية، وأن حملهم لصفة القضاء تجعلهم جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية بمفهومها العام، زيادة على أن جل الأنظمة القضائية ترى بعدم التخصص وأن القاضي الواحد يمكن له أن يتدرج خلال مساره المهني بين ممارسة قضاء الحكم وقضاء النيابة العامة، وأن السبب في ذلك راجع إلى وحدة المسار المهني للقضاة عموما انطلاقا من بداية تكوينهم إلى غاية بلوغهم سن التقاعد، وبالتالي فإنه من الإجحاف القول إن جهاز النيابة العامة يعتبر جهازا إداريا، بل هو على النقيض من ذلك فهو جهاز قضائي وهو جزء من السلطة القضائية بمفهومه المتعارف عليه في الأدبيات الدستورية والسياسية الكبرى.
النيابة العامة جهاز مختلط
على عكس الاتجاهين الأولين، اللذين يركزان على الطبيعة الأحادية والمتفردة للنيابة العامة، يذهب الاتجاه الثالث إلى أن للنيابة العامة طبيعة مزدوجة تجمع بين ما هو إداري  وما هو قضائي، ويستند هذا الاتجاه في دراسته للطبيعة القانونية للنيابة العامة على معيارين، المعيار العضوي والمعيار الوظيفي.
فمن حيث المعيار العضوي، يستند هذا الاتجاه إلى أنه لا يمكن تفسير التراتبية الإدارية التي تطبع عمل النيابة العامة إلا بكونها جزءا لا يتجزأ من مفهوم المرفق الإداري الذي يطبع عمل دواليب ومرافق وزارة العدل، وبالتالي، فإنه على غرار ما تخضع له تلك المرافق والدواليب من سلطة رئاسية لوزير العدل، فإن النيابة العامة تخضع للسلطة الرئاسية نفسها.
أما من حيث المعيار الوظيفي، فإن هذا الاتجاه الفقهي يرى أن النيابة العامة وإن كانت تخضع للسلطة الرئاسية لوزير العدل في بعض الأنظمة القضائية، فإنها تخضع من حيث عملها لمجموعة من القواعد القانونية التي تؤطر قواعد اختصاصاتها، وبالتالي فهي عند تطبيقها لتلك القواعد القانونية تتقمص دور الجهاز القضائي، كما أن الأعضاء المكونين لجهاز النيابة العامة قضاة في الأصل، وبالتالي، فإنهم يختلفون من حيث الإطار القانوني المنظم لوضعيتهم عن القانون المنظم للوضعية المهنية لباقي أعضاء إدارة وزارة العدل.
إن هذه الاتجاهات الثلاثة التي تم التطرق لها والتطرق لأسسها، تستند كلها على دراسة العينات القضائية لمجموع الأنظمة السائدة في العالم، وبالتالي فإن الخلاصات التي خلصت لها لا تنفك تتعرض لمجموعة من الانتقادات التي يوجهها الفقهاء أنفسهم لتلك الطبيعة القانونية للنيابة العامة وهو ما سنتطرق له في الفقرة الموالية.

بقلم: عبد السلام العيماني, عضو المجلس الأعلى للقضاء  وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا