استقلال السلطة القضائية مطلب، كان ولا يزال يرفع من طرف كل أطياف المجتمع لما في ذلك الاستقلال من ضمان لسيادة القانون وهيبة الدولة و مؤسساتها، واحترام حقوق وحريات الأفراد والجماعات. ويعتبر استقلال السلطة القضائية بحق مقياسا لمدى جدارة أي نظام سياسي بحمل لقب «الديمقراطي»، ذلك أن خضوع الجميع لأحكام القانون، كآلية تكشف عن مدى الوعي المتحضر، يتطلب بالضرورة أن تسند مهمة تطبيق ذلك القانون
لجهة معترف لها بهذا الدور ليس فقط على المستوى الوطني و لكن ذلك الاعتراف
يجب أن ينسجم مع ما تذهب إليه الإرادة الدولية في هذا الصدد
.المغرب باعتباره جزءا لا يتجزأ من المنظومة الدولية، كان وما يزال عضوا فاعلا بالمنظمات الدولية، وملتزما بمقررات الإعلانات والمواثيق الصادرة عن تلك المنظمات والهيآت، ومن أجل ذلك فقد كان الهم المتواصل للدولة المغربية يتمثل في كيفية جعل المنظومة القانونية متناغمة ومتساوقة مع ما التزم به المغرب بإرادته السيادية أمام المنتظم الدولي، وعلى رأس كل ذلك تأهيل القضاء وتحديث المنظومة التشريعية بما ينسج والدور الذي يتعين أن تعلبه تلك المنظومة ويقوم به القضاء.
وإذا كانت موجة الحقوق والحريات التي تجتاح العالم الثالث في الآونة الأخيرة قد تأثرت بمجموعة من العوامل والمتغيرات الاجتماعية التي شهدتها بعض الدول، فإن المغرب جسد استثناء ممتدا في الزمان، ومتصلا بعمق الالتزامات الواقعة على عاتقه؛ ذلك أن نظرة المغرب للسلطة القضائية كانت محط نقاش مجتمعي مستفيض أدلت فيه كل المكونات الاجتماعية بدلوها، حتى لئن المذكرات و الأوراق و التوصيات التي صدرت عن تلك الجمعيات و الهيآت لا تعد ولا تحصى، الشيء الذي كان حاسما في تأسيس نظرة متقدمة وحداثية لفكرة استقلال السلطة القضائية استقلالا حقيقيا .
ولقد كانت التجربة الرائدة التي شهدها المغرب في مطلع الألفية الثالثة، مثالا يحتدى به في مجال العدالة الانتقالية ؛ إذ شكلت هيئة الإنصاف والمصالحة قوة الإرادة السياسية الحقيقية للدولة المغربية من حيث إعادة النظر في مجال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان .
ولقد كان المغرب صريحا إلى أقصى الحدود، مع نفسه، عندما اعترف بالتجاوزات الخطيرة التي شهدها المغرب خلال فترة ما قبل إنشاء الهيئة المذكورة، إذ شكلت الشهادات التي تم الإدلاء بها والتي نشرت بمختلف وسائل الإعلام صدمة حقيقية للضمير المجتمعي، وقد كان من المؤلم جدا أن يكون للقضاء دور أساسي في كل المآسي و الانتهاكات التي شهدتها تلك الحقبة من التاريخ الحديث للمغرب . ولعل التوصيات التي خرجت بها هيأة الإنصاف والمصالحة لدليل على قوة الدور الذي لعبه القضاء إبان تلك المرحلة وهو ما دفع بالهيأة المذكورة إلى ضرورة التوصية بحتمية استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية استقلال تاما، وذلك من أجل النأي بالقضاء عن لعب أدوار سياسية يستعمل من خلالها في تصفية الحسابات السياسية بين مختلف الفرقاء السياسيين.
ولأهمية تلك الخلاصات والتوصيات، فقد اعتبرت المدخل الحقيقي لتأسيس دولة الحق و القانون الذي يلعب فيها القضاء الدور الأساسي والحاسم في إرساء التوازنات الاجتماعية القضائية على أساس التطبيق السليم للقانون؛ ومن تم فقد ظهرت مجموعة من المؤشرات التي دلت على استجابة الدولة المغربية لتلك التوصيات وتفاعلها معها . و قد كان خطاب 09 مارس 2011 التاريخي الذي نصبت فيه لجنة مراجعة الدستور معبرا عن أوج ذلك التجاوب، إذ أنه من المعلوم أن جلالة الملك محمد السادس نصره الله كان واضحا وصريحا في الدعوة إلى التقيد بتلك التوصيات والعمل على دسترتها، وهو الأمر الذي شكل بلا منازع قوة الرغبة في بناء صرح الدولة الحداثية والأصيلة، دولة يسود فيها القانون وتحترم الحقوق والحريات سواء أكانت فردية أو جماعية، و قد كان ذلك كله مبني على سبعة مرتكزات كما جاء بالخطاب المولوي السامي، منها « ... ثانيا : ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، بكل أبعادها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، والثقافية والبيئية، سيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب ؛ ثالثا : الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري، توطيدا لسمو الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه … «
فالنطق الملكي جسد بحق قوة النظرة و رصانتها عندما أكد على أن الهدف من دسترة توصيات هيأة الإنصاف و المصالحة و كذا الالتزامات الدولية للمغرب، مع العمل على الارتقاء بالقضاء إلى مرتبة سلطة قضائية مستقلة، كل ذلك من أجل توطيد سمو الدستور وسيادة القانون والمساواة أمامه .
فتلك الأهداف السامية لا يمكن الوصول إليها إلا بوجود سلطة قضائية قوية قائمة على الاستقلال المطلق عن جميع ما يمكن أن يؤثر فيها وفي قراراتها . ومن هنا فإن التساؤل موضوع هذه المداخلة يجد سنده في هذه النظرة المتقدمة لشكل بناء الدولة المغربية الحديثة، إذ أن أول ما نصطدم به في خضم الحديث عن مفهوم السلطة القضائية هو هل تعتبر النيابة العامة جزء لا يتجزأ من تلك السلطة أم أنها لا تعتبر كذلك ؟ وتبعا لذلك هل يعتبر استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل تحقيقا للاستقلال الكامل والتام والمنشود للسلطة القضائية أم لا ؟
إن الحديث عن هذا الإشكال يعتبر صلب وجوهر الإشكالات التي يتعين أن تكون موضوع تداول ديمقراطي تغلب فيه المصلحة العليا للوطن بدل التجاذبات المصلحية الضيقة، ذلك أن تحديد الطبيعة القانونية لمركز النيابة العامة في الجهاز القضائي سيحدد لا محالة الوجهة التي سيتجه لها الجواب عن التساؤل المطروح؛ أخذا بعين الاعتبار أن النقاش يجب أن يتسم بنوع من الاجتهاد والابتكارية التي يتعين أن تطبع الفكر الحقوقي والقانوني المغربي استجابة للنداء الملكي الذي تم التعبير عنه بمناسبة تنصيب اللجنة العليا للحوار الوطني حول الإصلاح العميق و الشامل لمنظومة العدالة ؛ و الذي جاء فيه : « وإننا ننتظر منكم، لما هو معهود فيكم من روح المسؤولية الوطنية العالية انتهاج الاجتهاد الخلاق والإصغاء والانفتاح للتفعيل الأكمل لمشروع إصلاح العدالة».
وفي هذا السياق فإننا نرى أن توضيح الرأي بشأن مدى توقف تحقيق استقلال حقيقي للسلطة القضائية على استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية استقلالا تاما يجب أن يمر عبر مجموعة من الخطوات المنهجية، ابتداء من بسط الآراء التي تعرضت لتحديد الطبيعة القانونية للنيابة العامة و ما واجهته تلك الآراء من انتقادات، مرورا بالتزامات المغرب اتجاه المنتظم الدولي وما يرتبه ذلك من إعادة النظر في الرؤية التقليدية للنيابة العامة في المغرب، وصولا إلى النظرة الدستورية المتقدمة للطبيعة القانونية للنيابة العامة.
بقلم: عبد السلام العيماني,عضو المجلس الأعلى للقضاء وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى