Friday, September 28, 2012

مبدأ حكم القانون في إطار الحقل الدستوري


بوشعيب أوعبي*
يعتبر مبدأ (حكم القانون) من المبادئ الدستورية الأكثر تداولاً في أدبيات رجال الفقه القانوني ورجال العلوم السياسية؛ لكونه أحد الركائز الأساسية لما يعرف بدولة الحق والقانون؛ وركيزة كل نظام سياسي يصنف نفسه بأنه إحدى البلدان الديمقراطية.
وإن البريق السياسي الذي جلبه مبدأ حكم القانون كعلامة قانونية مسجلة على مستوى القانون الداخلي جلبه أيضاً حتى على مستوى القانون الدولي؛ إذ بدأت العديد من المنابر الدولية على صعيد منظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية الإقليمية تؤكد على ضرورة احترام مبدأ حكم القانون والعمل به إبرازاً للطابع الديموقراطي للنظام السياسي السائد.
1- المفهوم العام لمبدأ (حكم القانون)
يعد مبدأ حكم القانون من بين المبادئ القانونية والسياسية التي سادت في أنظمة سياسية قديمة؛ سواء كان ذلك في عهد الثورة الفرنسية أو قبلها أو في العهد الإسلامي وغيرها من العهود التي برزت فيها الشرائع السماوية السمحة.
وإن الانتشار النسبي لمبدأ حكم القانون لدى بعض المجتمعات أعلاه وبعض الحضارات المدنية في القرون الوسطى يسمح بعدم الغلو اليوم في الجهر بالقول: بأن المبدأ هو إحدى ابتكارات الحضارة الغربية أو من صنع النظريات الفقهية الليبرالية؛وذلك لكون مواصفاته تسمح ببروزه في كل مجتمع يؤمن بالعدل والعدالة الاجتماعية ويقر بحقوق الإنسان والحريات العامة ويؤمن بتوزيع السلطات العامة وتعاون هذه الأخيرة فيما بينها على إحقاق الصالح العام.
ومن الناحية الاصطلاحية يصطلح في الحقل القانوني على المبدأ: بمبدأ (حكم القانون(في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي؛ ويقابله في الفقه الإنجليزي (Law Principle of Rule of)؛ ويطلق عليه في الولايات المتحدة الأمريكية (The principle of limited government) أي مبدأ الحكومة المقيدة؛ وأحيانا يطلق عليه تعبير: (حكومة قانون لا حكومة أشخاص) (A government of law not of men)؛ علماً أن المصطلح الشائع في بلدان شمال إفريقيا ومصر وفرنسا ومن يسير في فلك الفقه اللاتيني الفرنسي هو مصطلح: (مبدأ سيادة القانون) أو باللغة الفرنسية: (Preeminence du droit).
إن مبدأ)حكم القانون(أو)مبدأ سيادة القانون(كما سلفت الإشارة تتداوله العديد من المنابر الفقهية والعلمية؛ حيث بعد جمع مختلف المفاهيم نستنبط نتيجة بالغة الأهمية؛ وهي أن مبدأ)حكم القانون(هو مبدأ أساسي مرن؛ نظراً لكونه ذا بعد ديمقراطي إيجابي سليم يخدم المصلحة العامة وفقاً لما يوصي به القانون الذي هو ذاته في الأخير نتاج اجتماعي جمعي نفعي.
وهكذا من خلال ما سلف إن الفقه القانوني كلما نادى بمبدأ)حكم القانون (فهو يفهمه على أنه ذاك المبدأ الذي يعني أن القانون السائد داخل الدولة هو قانون فوق الجميع دون استثناء أو تمييز فيما بين المواطنين حكاماً كانوا أو محكومين؛ وأن الترسانة القانونية للتشريعات السائدة في الدولة تخضع في الأول والأخير للقانون الوضعي الأسمى أي للدستور؛ الذي هو من وضع الشعب أو الأمة عن طريق الاستفتاء.
وفي الجانب الآخر كلما تداول فقهاء العلوم السياسية ورجال السياسة (مبدأ حكم القانون) أو (سيادة القانون)؛ كان لذلك معنى آخر وأهداف أخرى مغايرة لما سلف ومكملة لها؛ حيث يفيد المبدأ انتهاء عهد حكم الرأي الوحيد والعمل بمبدأ حكم الشعب أي بالنظام الديموقراطي الذي هو من وضع الشعب وبالتالي الإذعان لاختيارات هذا الشعب وخاصة على مستوى الدستور الذي سهر على إصداره؛ المنظم للحريات العامة وحقوق الإنسان ولمبدأ فصل السلطات ولاستقلالية القضاء؛وبالتالي يعني مبدأ حكم القانون: الخضوع لما أصدرته المؤسسات الدستورية المنتخبة انتخاباً نزيهاً من طرف الشعب والعمل به دون زيف أو تحريف.
وقد يستغرب علماء القانون والسياسة لكون مبدأ)حكم القانون(هو مبدأ سائد ومنتشر حتى خارج هذين الحقلين العلميين؛ إذ تتداوله أدبيات رجال القانون الدولي العام أيضا؛ ومفاده ضرورة احترام ما يصدره مجلس الأمن الدولي والمنظمات الدولية من معاهدات دولية تنطوي على قواعد قانونية ذات طبيعة إلزامية؛ كما نصادف أيضاً مبدأ حكم القانون لدى رجال الاقتصاد؛ ويفيد ضرورة التزام الجميع وخاصة الفئة الحاكمة بالبلاد بموجبات القانون في مختلف المعاملات والتصرفات، حيث يتبين أن المبدأ يتم غض الطرف عنه من طرف الفئة الحاكمة ويتم تجاوزه خدمة لمصالح خاصة ضيقة ومحدودة؛ وهو ما يصطلح عليه بالفساد السياسي وهي ظاهرة تكلف الدولة والمجتمع ثمناً باهظاً يعد بالملايين؛ ومآله في الأخير افتقاد الثقة وانعدام الاستقرار والسلم والأمن والهدوء والسكينة؛ وبالتالي يكون من الأجدر التزام الجميع بمبدأ حكم القانون.
2- أهمية مبدأ (حكم القانون)
هو أحد المبادئ التي تنص عليها كافة الدساتير الحديثة في البلدان الديمقراطية؛ وتعمل بموجبها الأنظمة السياسية الديمقراطية بفرض مبدأ الشرعية القانونية على الجميع؛ وبالتالي الدفع بتبويئ مؤسسة الدولة مصاف دولة القانون ودولة المؤسسات.
ويبدو من هذا المنطلق أن مبدأ (حكم القانون) له أهمية بالغة في ترسيخ آليات الديمقراطية الحديثة؛ وتعد هذه الأدوات التنظيمية اليوم أدوات معيارية تقاس بها مدى مستويات الديمقراطية التي تنهجها الدول الحديثة؛ ومن بين أهم هذه الآليات القياسية نذكر على سبيل المثال: الحث على احترام مبدأ سمو القانون من طرف الجميع؛ وبالتالي مراعاة مبدأ الشرعية والمشروعية واحترام كل من مبادئ: فصل السلطات واستقلال القضاء والإقرار الفعلي لحقوق الإنسان والحريات العامة بمختلف أجيال هذه الحقوق واحترام الإرادة العامة من خلال إشراك الشعب في تدبير الشأن العام بمختلف أشكاله بما فيه الشأن الانتخابي والسياسي.
ونظراً لما يتمتع به مبدأ (حكم القانون) من أهمية بالغة في المجال الدستوري على المستوى الداخلي؛فقد أصبحت له قيمة سياسية عالمية أيضاً تجاوزت حدود الدولة الواحدة بشكل آمن بها المجتمع الدولي في العديد من منظماته الدولية؛ وعمل على المناداة بها في العديد من المنتديات والمحطات إلى حد تقديس هذه المبادئ والآليات الدستورية واعتبارها إحدى الشروط الأساسية في التعامل الدولي مع العديد من الدول النامية الساعية إلى تسريع وتيرة التنمية من خلال جلب معونات دولية من منظمات الأمم المتحدة أو من الدول المتقدمة.
ومن هذا المنطلق يبدو لنا كدستوريين بأن من الأفضل التأكيد على الطابع العالمي لمبدأ (حكم القانون) حتى تذعن له العديد من الدول التي لا تزال تفرض نظام الحكم الوحيد وترفض الامتثال لهذه القيم المعيارية العالمية بشأن الديمقراطية؛ وهكذا نجد العديد من المؤسسات والمحافل الدولية تتمسك بهذا التصور القيمي للمبدأ ومن بينها تعريف الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة ذاته لمبدأ (حكم القانون) بأنه:
(مبدأ من مبادئ إدارة الحكم يخضع بموجبه كل الأشخاص والمؤسسات والكيانات، سواء العامة والخاصة، بما في ذلك الدولة نفسها، للمساءلة أمام قوانين منشورة على الملأ، وتطبق بشكل متساو، ويُقضى بشأنها بشكل مستقل، وتتماشى مع الأعراف والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. ويتطلب حكم القانون أيضًا اتخاذ تدابير لضمان الالتزام بمبادئ سيادة القانون والمساواة والمساءلة أمامه وتحقيق النزاهة في تطبيقه والفصل بين السلطات والمشاركة في عملية صنع القرار وترسيخ اليقين إزاء ما ينص عليه القانون وإبطال القرارات التعسفية وتحقيق الشفافية في الإجراءات والقوانين).
ومن بين المحطات الدولية البارزة المؤكدة على مبدأ حكم القانون يمكن الإشارة أيضا إلى الإعلان العالمي للديمقراطية الذي أقره مجلس الاتحاد البرلماني الدولي في القاهرة في 16 سبتمبر 1997م معلناً فيه: أن الديمقراطية تقوم على سيادة القانون ومباشرة حقوق الإنسان؛ وأنه في الدولة الديمقراطية لا يعلو أحد على القانون وأن الجميع متساوون أمام القانون.
وبشأن العنصر الأساسي لمبدأ حكم القانون أكد إعلان دلهي الصادر عن المؤتمر الدولي لرجال القانون في نيودلهي سنة 1959م أن الدولة القانونية هي دولة تؤكد المساواة بين المواطنين في التزامهم بقانون ينظم العلاقات الاجتماعية ويحمي القيم والمبادئ الأساسية ويعهد إلى محكمة عليا أو محكمة دستورية متخصصة بالرقابة على تحقيق هذا الهدف.
3- نشأة مبدأ (حكم القانون) في العهد القديم
سبقت الإشارة إلى أن حكم القانون يفيد إذعان الجميع للقانون وليس لشيء آخر؛ والغاية من إعمال هذا المبدأ هو التسوية فيما بين الناس دون تمييز؛ إحقاقا للمصلحة العامة وتحقيق الخير للجميع؛ وإن (حكم القانون) من هذا المنطلق ليس من الضروري أن تكون له نفس الإفادة ونفس الحمولة التي هي لديه الآن؛ إذ حسب الفهم أعلاه من الصعب الإقرار والتعصب إلى أن المبدأ هو من صنع الغرب أو فكر الثورة الفرنسية فقط؛ ولنا أمثلة عن ذلك في مجتمعات سابقة من خلال قانون الألواح لدى حمورابي أو من خلال المجهودات المبذولة في العهد اليوناني من طرف بعض الحكام من عند ابتكارهم الأولي لمفهوم الديمقراطية ـ Demos Cratosـ وكذا تصور المدينة الفاضلة لدى أفلاطون؛ علماً أن الفضل يرجع إلى أرسطو في كونه أول من تلمّس أهمية القانون بالنسبة لفكرة الدولة معبداً بذلك الطريق للمبدأ الذي سيسمح بموجبه للدولة بأن تصبح ذات تصور قانوني؛ كما أن الفقه الروماني بدوره عمل على إضفاء العنصر القانوني اللازم على مؤسسة الدولة تمييزاً لها كمؤسسة مجتمعية عليا ودائمة؛ خاصة أن في العهد الروماني نظراً لما كانوا يولونه من أهمية بالغة للشأن القانوني استنتجوا أحد أهم المبادئ القانونية منذ القديم والذي مفاده أن: (لا مجتمع بدون قانون) (Ubi ـ societas ibi ju).
إن تحقيب مبدأ حكم القانون عهد في فترة الثورة الفرنسية فقط وما بعدها فيه إجحاف كبير في حق الحضارات الإنسانية القديمة التي تمكنت من العمل به بقرون عديدة قبل بروزه بالشكل الذي هو عليه اليوم؛ ويمكن بهذا الشأن استحضار المجتمعات ذات الرسالات السماوية قبل الإسلام وبعده؛ من منطلق أن الشرائع السماوية عملت كلها وبدون استثناء على تأسيس وتشييد مجتمعات إنسانية تسودها قيم العدل والإخاء والتضامن وقيم المساواة فيما بين الناس والحرص على ما لهم من حريات فردية وجماعية.
وعملت الشريعة الإسلامية بصفتها آخر الشرائع السماوية على تشييد نموذج لأهم الأنظمة السياسية في أواخر القرون الوسطى إلى حد انهيار النظام العباسي؛ حيث ساد فيها نظام حكم القانون الشرعي؛ وذلك من خلال انضباط المسلمين كافة للحكم الإسلامي؛ الذي يجد مصدريته في الكتاب والسنة وباقي مصادر الحكم الشرعي المنبثقة عن الاجتهاد استحساناً كان ذلك أو قياساً أو استصحاباً أو عمل أهل المدينة أو سد الذرائع أو غيرها من المصادر التي تعتبر بمثابة مصدر للشرعية في دار الإسلام لكل حكم شرعي يريد أن يصدره الحاكم؛ حيث كان الحكام وولاة الأمور أنفسهم يلتزمون بمبدأ حكم القانون ويحظر عليه خرق هذا المبدأ أبدا.
ومن الضمانات التي جاء بها التشريع الإسلامي تأكيداً لمبدأ حكم القانون: تنصيص القرآن الكريم والسنة على التحديد الدقيق والواضح للمسؤوليات والحقوق التي هي على كاهل كل من الحكام والمحكومين من جهة؛ ومن جهة ثانية إرساء ما يلزم من المؤسسات الشرعية التي من شأنها إقرار حكم القانون وفرضه على الجميع في إطار المساواة والعدل بين الناس دون تمييز لاعتبار الجنس أو اللغة أو اللون أو العقيدة أو غيرها؛ ومن هذه المؤسسات التي حرصت على تأكيد مبدأ حكم القانون وإقراره بين الجميع مؤسسة القضاء بشكل عام ومؤسسة ولاية المظالم بشكل خاص التي عملت على فرض المبدأ بين الجميع وبخاصة بين الحكام والمحكومين كلما تجاوز الحكام ما لهم من صلاحيات؛ ولنا في امتثال بعض الحكام والولاة وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطاب أمام هذه المؤسسة الأخيرة خير مثال على ما تعرضوا له من إنذار أو توبيخ أو معاقبة في العديد من النوازل التاريخية إنصافاً للمتضررين من عامة الناس.
ومن بين مميزات مبدأ (حكم القانون) في التشريع الإسلامي أنه مبدأ ذو طابع دنيوي وديني في آن واحد أي ذو نفحة إيمانية؛ حيث يثاب كل من حرص على احترام المبدأ في الدنيا والآخرة لما يروم إليه المبدأ من إحقاق الخير وإحقاق المصلحة العامة للأمة الإسلامية؛ ونستخلص من السنة الشريفة أهمية العمل بالتشريع الإسلامي واحترامه من خلال ما جاء عن الرسول e بأن: «...فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم...من تركه من جبار قسمه الله...ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله..وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم..وهو الذي لا تزيغ به الأهواء؛ ولا تلبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء.... من علن به سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم» (جزء من حديث رواه الترمذي وأشار إليه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، 1/5).
وثمة تشريعات عربية وإسلامية تنص في دساتيرها على أن الشريعة الإسلامية هي إحدى مصادر القانون الأساسية في البلاد يصبح من الضروري الإلتزام بما يوجبه الحكم الشرعي الإسلامي كما هو في القرآن والسنة والاجتهاد أولاً قبل النظر إلى الدستور الوضعي الذي هو من صنع الإرادة العامة للأمة أو للشعب، وهذا ما نستنتج معه أن مبدأ سيادة الشريعة هو أَوْلى وأسمى من حكم القانون أو سيادة القانون الوضعي، وهي معادلة سليمة تبقى مخلصة لمبدأ حكم القانون، ومفهوم القانون في بلداننا الإسلامية يفيد القانون بنوعيه الشرعي أولاً ثم الوضعي ثانياً.
4- مبدأ (حكم القانون) في عهد الثورة الفرنسية
يرى البعض أن أصل مفهوم مبدأ (حكم القانون) ـ Rule of Law ـ يرجع إلى العهد السياسي الإنكليزي الأول في القرن الثالث عشر، حين ظهرت بوادره الأولى في ظرفية صدور ما يعرف بـ(الميثاق الأعظم) ـ Magna Carta ـ سنة 1215م على عهد الملك (Jean sans Terre) وهو ذاك الميثاق الذي يمنح الأشراف بعض الحقوق المدنية والسياسية؛ وذلك قبل أن تتوالى فيما بعد الوثائق السياسية الأخرى المواكبة للتطورات الديمقراطية التي ساهمت في الانتقال بالنظام البريطاني من نظام ملكية مطلقة إلى نظام ملكية مقيَّدَة ثم إلى نظام ملكية برلمانية ديمقراطية في القرن التاسع عشر.
إذا كانت الأفكار السياسية في عهد الإقطاع وما بعده إلى ما قبيل الثورة الفرنسية يغلب عليها الطابع الغيبي والديني والتقليدي؛ فإن أجواء الثورة الفرنسية وتبعاتها على المناطق المجاورة ـ بما فيها انتفاضة القارة الأمريكية الجديدة المتأثرة بهذا الفكر الثوري الذي برز إلى الوجود منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر ـ كل ذلك كان تباشير خير واعدة بانبثاق عهد جديد ساده فكر سياسي علمي متميز وسادته أيضاً قيم ومبادئ إنسانية ثورية عكس على ما عرفته البشرية في العصور الوسطى وفي كل من عهود الإقطاع المظلمة وعهود الأنظمة الملكية الإطلاقية الجائرة؛ وبالتالي إن مبدأ حكم القانون كان الغرض منه في البداية نزع الصفة الوراثية التي حملتها السلطة السياسية طيلة عهود الإقطاع بشكل يفيد معه في عهد تشييد الدولة الليبرالية أن السلطة أصبحت فعلا ملكاً للجميع ولم يعد يتسنى لجهة ما أن تتداول عليها إلا وفق قواعد إجرائية محددة ولمدة محددة.
وهكذا بعدما برزت فكرة السيادة لدى الغرب في العصور الوسطى بطابع ديني وسادها مبدأ الحق الإلهي؛ عمل فكر الثورة الفرنسية على صقل ذلك بإبراز مفهوم السيادة بعيداً عن هاجس الدين، أسماها البعض من الفقه المحافظ بالسيادة الوطنية (مونتسكيو ولوك) ونص عليه دستور فرنسا لسنة 1791م، وأسماها البعض الآخر من الفقه الراديكالي مثل (جون جاك روسو(بالسيادة الشعبية، واقتنع المشرع بإدراج ذلك في دستور سنة 1793م مباشرة بعد ذلك.
لقد عمل فكر الثورة الفرنسية على ترسيخ مبادئ سياسية مصيرية هامة آنذاك؛ قبل التأكيد على مبدأ حكم القانون نظراً لما لها من أولوية في تلك الظرفية الدقيقة والحرجة؛ وذلك كمبدأ سيادة الدولة بدل سيادة الحاكم وتشخيص الحاكم للدولة وليس تشخيص طائفته أو عشيرته، ومبدأ تمثيل القانون (الدستور) للإرادة العامة وهي إرادة الشعب، وأن السيادة هي للشعب وليس للحاكم؛ ومبدأ فصل السلطات وإقرار الحريات العامة وحقوق الإنسان وممارسة الحكم عن طريق مبدأ التمثيل الانتخابي وما شابه ذلك، إنها الأدوات الأولى في بناء ما بدأ يعرف بدولة القانون القائم على احترام إرادة الأمة أي بإقرار ما بدأ يصطلح عليه بالنظام الديمقراطي وفق منظومة النظام الرأسمالي الليبرالي.
وهكذا يبدو أن الفكر الفرنسي نادى بمبدأ سمو القانون وبأن ليس من حق الحكام خرق أو تجاوز الدستور كقانون يوضع بشكل ديموقراطي من طرف الشعب، وهذا الشعب هو الجهة الوحيدة الذي له صلاحية مراجعة الدستور، وهو ما تم التنصيص عليه في الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789م بفرنسا؛ وهو أيضا نفس ما تم التنصيص عليه دستورياً في وثائق الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1787م بعد وثائق إعلان 1776م.
وتلزم الإشارة أيضاً إلى فكر فلسفي ألماني يقوده كل من (كانط(و (فيخته(متشبع بأفكار الثورة الفرنسية عمل بدوره على لعب دور ريادي في تأصيل مفهوم: (حكم القانون) في الفلسفة السياسية الأوروبية الحديثة؛ حيث سيكون له الفضل في نقل المبدأ (أي حكم القانون) من الإقليمية والقارية (بأوروبا) إلى فضاء العالمية، وسيشهد انتشارا أوسع من حيث تداوله وتوظيفه في الوثائق الرسمية للأنظمة الوطنية والدولية فيما بعد.
ويبدو من زاوية مقابلة أن تياراً آخر من المدرسة الألمانية مثل (كانط) و (هيجل) و (إهرنج) كان متأثراً بفكرة أن الدولة هي المصدر الوحيد للقانون وليس إرادة الأمة أو الشعب، وأنها هي الوحيدة التي تعطي لهذا القانون خاصية الإلزام حسب الفقيه (جيللنيك)، الأمر الذي يتوصلون معه إلى أن القانون لا يقوى أن يعلو على الدولة، وهذا ما استخلصته كل من الفاشية والنازية لإصلاح مبادئها الإطلاقية.
وبصدد الحديث عن الفكر الألماني لا بأس من الحديث عن الفكر الاشتراكي أيضاً الذي أرسى دعائمه كل من (هيجل) و (ماركس)؛ واللذان توصلا إلى أن القانون هو إحدى بنيات الفكر العلوي فقط، والتي تبقى محكومة بالواقع ويكون مآله الزوال في الأخير، وأن القانون الوضعي السائد في مختلف الدول الغربية آنذاك هو من صنع الطبقة الحاكمة، وأنه يحمي في الغرب مصالح الطبقة البورجوازية، هذه الطبقة التي هي ذاتها آيلة إلى الزوال.
5- تطور مبدأ (حكم القانون) في الدساتير الحديثة
يشمل مفهوم مبدأ حكم القانون اليوم الجانب الشكلي والجانب الجوهري، حيث ينحصر الجانب الأول منه في أن حكم القانون يعني الالتزام باحترام أحكام القانون فقط، وهو ما اعتبر أمراً متجاوزاً إذ تم الاقتناع أنه بالإضافة إلى ذلك لابد أيضاً من أن يكفل القانون المقومات الجوهرية الديمقراطية والتي تتجلى في كفالة الحقوق والحريات وإجبار المؤسسات الدستورية بالالتزام بمبدأ حكم القانون وسموه.
إن هذا الجانب الجوهري المحدد لماهية مبدأ حكم القانون يمكن اعتباره القيمة المضافة النوعية التي جاءت به القواعد الدستورية الحديثة الضابطة لمفهوم مبدأ (حكم القانون)، إذ أن هذا الجانب الجوهري في حقيقة الأمر هو الذي يضفي مصداقية إيجابية لمفهوم حكم القانون ويبرر وجاهة وشرعية هذا المبدأ وذلك من جراء انعكاساته الإيجابية على المواطنين بصفة خاصة وإحقاقه للمصلحة العامة أيضا بشكل عام، ولقد عمل الاتحاد الأوربي من خلال الميثاق الوحدوي المصادق عليه في باريس سنة 1991م على التأكيد على ذلك حينما نص على أن الديمقراطية تتخذ من احترام شخص الإنسان وحكم القانون أساساً لها وركيزة تستند إليها.
وبشأن هذا الجانب الجوهري لمبدأ حكم القانون أكد أيضاً المؤتمر الدولي لرجال القانون المنعقد في نيودلهي سنة 1959م أن مبدأ الشرعية هو اصطلاح يرمز إلى القيم والخبرة التي يتفق عليها جميع رجال القانون في جزء كبير من العالم.وهذا المبدأ يعتمد على عنصرين:
أولهما: أن كل سلطة في الدولة تعمل بالقانون ووفقاً له.
وثانيهما: أن القانون أصبح نفسه يعتمد على مبدأ أساسي سام هو احترام القواعد والنظم والإجراءات الأساسية لحماية الفرد في مواجهة السلطة تمكينا له من التمتع بكرامته الإنسانية.
وحسب بعض الفقه الدستوري فإن مبدأ (حكم القانون) يتفق من حيث عنصره الجوهري المتعلق بمضمون القانون مع ما يتطلبه مبدأ حكم القانون (rule of law) في المفهوم البريطاني ومع مبدأ اتباع الوسائل القانونية السليمة (Due process of law) في المفهوم الأمريكي وفقا للتعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي سنة 1868م.
بعدما انتزع مبدأ حكم القانون هذه الأهمية البالغة في الحقل الدستوري وأضحى عنصراً أساسيًا وفاعلاً في إبراز مؤسسة الدولة على أنها مؤسسة تعمل بقواعد الديمقراطية؛ سارعت معظم الدساتير الحديثة منذ منتصف القرن العشرين إلى التنصيص عليه بشكل أو بآخر؛ بما فيها الجيل الثاني والثالث من الدساتير العربية ـ كما سوف نرى أدناه ـ وهو ما نتوصل معه كدستوريين على أن العبرة ليست في التنصيص عليه كتابة؛ بل في إرفاقه بآليات دستورية أخرى موازية تساهم بدورها في تفعيل مبدأ حكم القانون على أرض الواقع وجعله محسوسا من طرف الحكام وملموسا من طرف المحكومين؛ كما سنفصله أدناه.
6- مبدأ حكم القانون ومبدأ الشرعية
سلفت الإشارة إلى أن مبدأ حكم القانون يفيد إذعان الجميع للقانون ويفيد أيضاً ذاك الجانب الموضوعي أي كفالة الحقوق والحريات والفصل بين السلطات والتزام هذه الأخيرة بما ينص عليه القانون، بينما يفيد مبدأ (الشرعية) التزام المؤسسات الدستورية ذات الصلاحية في إصدار القوانين أثناء ممارستها للسلطة بالقانون، و نعني بالقانون بصفة خاصة بهذا الصدد القانون الدستوري بمختلف مكوناته المدونة والعرفية.
وهكذا يفيد مبدأ (الشرعية) العمل بالقانون الأسمى بصفته قانوناً يعبّر عن إرادة الشعب أي الإرادة العامة، وبالتالي هو إحدى واجهات مبدأ حكم القانون؛ لكن فقط تلك المحدد مجالها في حث المؤسسات الدستورية الممارسة للسلطة بما فيها سلطة التشريع على الانضباط لموجبات القانون الأسمى أي الدستور، بينما حكم القانون هو من جهة أولى: رسالة موجهة إلى الجميع حكاماً كانوا أو محكومين بالالتزام بالقانون، ومن جهة ثانية هو التزام بمختلف درجات القانون دستوراً كان ذلك أو ما دونه من قوانين؛ ومن جهة ثالثة هو ليس التزاماً شكلياً بالقانون فقط بل هو التزام موضوعي أيضاً بالمبادئ القانونية التي يتضمنها مبدأ حكم القانون.
وبشأن مبدأ (الشرعية) يتعين التمييز بين (الشرعية الدستورية) وهي ما يصدر عن الإرادة العامة للشعب وبين (الشرعية القانونية) أو ما نصطلح عليه (بالمشروعية)، ومفاد ذلك أن ما دون قواعد الكتلة الدستورية ـBloc constitutionnalite deـ يفرض مراعاة تدرج هرمي للعديد من القواعد القانونية ابتداء من القواعد القانونية الدولية المصادق عليها داخلياً والقوانين التنظيمية ـ أي الأساسية ـ وقواعد التشريع العادي وقواعد التشريع الفرعي من مراسيم ـ أي اللوائح ـ وغيرها من القرارات وكذا أحكام القضاء أو السوابق القضائية لدى الأنجلوسكسون واجتهاد الفقه ومبادئ القانون كمصادر استئناسية.
وقد اعتنق النظام القانوني السائد في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وكندا تحت اسم (COMMON LAW) مبدأ سيادة القانون، ويستمد القانون مصدره من السوابق القضائية ومن النصوص التشريعية على حد سواء.
إن أهمية مبدأ حكم القانون تتجلى بصفة خاصة في الكتلة الدستورية أي في قواعد الشرعية التي تتحكم في عنصري القانون: الشكلي والموضوعي، فمن حيث العنصر الشكلي تضمن هذه الشرعية تقيد الدولة بالقانون، ومن حيث العنصر الموضوعي تفرض هذه الشرعية الدستورية وجوب كفالة القانون توفير الضمانات للحقوق والحريات. ونستنتج في الأخير أن الشرعية الدستورية هي الضمان الأعلى لمبدأ حكم القانون على سلطات الدولة؛ إذ بها تتأكد سيادة القانون عليها وبموجبها يتم تنظيم السلطة وممارسة أعمالها في إطار المشروعية.
إن الحرص على الشرعية الدستورية هو إحدى المداخل الواقية والحامية لمبدأ حكم القانون؛ إذ من الصعب إقرار هذا المبدأ ما لم يكن ذاك القانون قانوناً يحظى بشرعية شعبية في إطار عملية بناء كتلة القواعد الدستورية. إن هذه الشرعية هي إحدى شروط صحة مبدأ حكم القانون، وبالتالي يتعين الحرص على أن تكون الشرعية شرعية سليمة وفقا لما يرتضيه الشعب حتى يتأتى فيما بعد الاعتراف بسلامة القانون ونزاهته وصلاحيته ومصداقيته في حماية الحقوق وفصل السلطات وحماية استقلال القضاء.
7- مبدأ (حكم القانون) والديمقراطية
تعني الديمقراطية منظومة قواعد قانونية وسياسية تسودها قيم حقوق الإنسان والحريات العامة ومبدأ فصل السلطات واستقلال القضاء والتداول على السلطة أو الحكم من خلال آليات اقتراع عام سري ونزيه على برامج أحزاب سياسية متنافسة على عملية تدبير الشأن العام. ومن هذا المنطلق ثمة علاقة متينة فيما بين الديمقراطية ومبدأ حكم القانون، ويتجلى ذلك في كون العمل بحكم القانون هو إحدى آليات إقرار الديمقراطية على أرض الواقع؛ وكذا أركان هذه الديمقراطية الحقة التي ما هي إلا حكم الشعب عن طريق الشعب ولصالح هذا الشعب.
إن العمل بمبدأ (حكم القانون) هو التزام بإحدى موجبات الديمقراطية ولن تستقيم هذه الأخيرة ما لم يسبقها التزام المسؤولين بالمبدأ أعلاه، شكلاً باحترام سمو القانون على الجميع وجوهراً أيضاً بأن يكفل ذاك القانون مسألة الحريات العامة وحقوق الإنسان، وهذا في حد ذاته إحدى الواجهات التي تناضل من أجلها الديمقراطية. ولهذا يمكن اعتبار مبدأ حكم القانون أحد أهم أركان إحقاق الديمقراطية.
وإن مفهوم الديمقراطية في تقاطعه مع مفهوم مبدأ حكم القانون هو ما نص عليه الإعلان العالمي بشأن الديمقراطية مؤخراً والذي اعتمده مجلس الاتحاد البرلماني في دورته الحادية والثمانين بعد المائة في جنيف في أكتوبر 2007م في الذكرى العاشرة لاعتماد الإعلان العالمي بشأن الديمقراطية، حيث ينص هذا الإعلان في بنديه السابع والثامن في القسم الأول منه المتعلق بمبادئ الديمقراطي على أن:
7- (تقوم الديمقراطية على سيادة القانون ومباشرة حقوق الإنسان. وفي الدولة الديمقراطية لا يعلو أحد على القانون، والجميع متساوون أمام القانون.
8- يمثل السلام والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية شرطاً للديمقراطية وثمرة من ثمارها؛ ومن ثم، فإن الترابط وثيق بين السلام والتنمية واحترام سيادة القانون وحقوق الإنسان).
8- ضمانات مبدأ (حكم القانون)
تبين أن مبدأ حكم القانون عرف في القرن العشرين تطوراً هاماً ومتميزاً على مستوى الشكل والمضمون والمنهج مقارنة بما كان عليه الأمر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر حيث كان ذا حمولة شكلية فقط، وهكذا يبدو اليوم مبدأ حكم القانون مبدأ مسيّجاً بما يكفي من الضمانات الدستورية تجعله في منأى عن انتهاكه من طرف الحكام وغيرهم من مسيّري الشأن العام على المستوى المركزي أو اللاتمركزي أو اللامركزي أي سواء ممن يسيّرون السلطة الحكومية أو ممن يتداولون على السلطة التمثيلية المنتخبة التشريعية أو المحلية، وهكذا يمكن استخلاص لأهم الضمانات فيما يلي:
أـ مبدأ فصل السلطات
إن من أول الضمانات التي تفرض نفسها اليوم على الأنظمة السياسية وهي تأخذ بمبدأ حكم القانون هو الاستمرار في العمل بمبدأ قديم لا يزال ذا مصداقية أساسية وهو مبدأ فصل السلطات الذي منذ أن عمل به التشريع الإسلامي وبلوره فيما بعد كبار الفقه الإسلامي كابن حزم وابن تيمية بشكل عام والماوردي بشكل خاص.
ولقد نادى الفقه الغربي بمبدأ فصل السلطات فيما بعد بشكل متأخر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر على عكس نظام الملكية المطلقة آنذاك في عهد نابليون بونابرت وفي عهد لويس الرابع عشر ونابليون بفرنسا وغيرها، وهكذا بناء على أعمال لوك ومونتسكيو وجون جاك روسو تمت صياغة هذا المبدأ داخل أوروبا في الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن وفي الإعلان الأمريكي سنة 1776م؛ إذ تم التنصيص في هذه الإعلانات على أولوية هذا المبدأ في كل بناء دولي يتوخى إرساء دولة ديموقراطية علما أن هذا المبدأ ذاته له أكثر من معنى حيث ثمة من ينادي بالفصل النسبي وثمة من ينادي بالفصل مع التعاون فيما بين السلطات، حيث يتم إحقاق المبدأ في إطار نظام من الضبط والموازنات Cheks and balances فيما بين ميزان القوى للسلطات الثلاث.
إن مبدأ فصل السلطات هو ذاك المبدأ الذي يوزع المسؤوليات والصلاحيات فيما بين كل من المؤسستين التشريعية والتنفيذية وفقاً لنظام الضبط والموازنات السائد داخل النظام السياسي القائم، حيث بتقوية صلاحيات المؤسسة الأولى يسمى النظام القائم نظاماً برلمانياً كما هو شأن النظام البريطاني، وبتقوية مؤسسة رئاسة الدولة والحكومة معاً يضحى النظام رئاسياً كما هو شأن النظام الأمريكي بالولايات المتحدة الأمريكية؛ وكلما أخذ من هذا وذاك واحتل مرتبة وسطى كما هو شأن النظام الفرنسي سمي النظام بالنظام شبه الرئاسي علماً أن ثمة نظاماً سياسيا مغايراً كلية وهو ما يصطلح عليه بنظام الجمعية النيابية كما هو الشأن لدى النظام السياسي السويسري. وكيفما كانت طبيعة النظام السياسي القائم فإن كل من المؤسسات الدستورية أعلاه تبقى ملتزمة بعدم تجاوز دائرة الاختصاصات المحددة لها دستورياً في ظل ما يسطره مبدأ حكم القانون على الجميع وذلك وفقا لما سطرته لها الإرادة الشعبية في بنود الدستور.
ب- مبدأ دستورية القوانين Principe de la constitutionnalite:
يفيد مبدأ دستورية القوانين التزام جميع القوانين بموجبات الدستور ومقتضياته، وهو ما سبق أن اصطلحنا عليه بمبدأ (الشرعية الدستورية) أو حسب البعض هو ما يعرف بمبدأ (سمو الدستور) وأولويته على غيره من القوانين الدنيا حيث لا يجوز البتة خرقه من طرف باقي المؤسسات التي لها صلاحية إصدار القوانين أو صلاحية ممارسة السلطة وتدبير الشأن العام.
ومفاد مبدأ دستورية القوانين عدم خرق مختلف القواعد الدستورية سواء كانت مكتوبة أي مدونة في الوثيقة الدستورية أو في مكونات الدستور العرفي أسوة بما هو معمول به في البلدان ذات الدستور العرفي كبريطانيا على سبيل المثال، وقد تكون القواعد الدستورية كامنة حتى خارج الوثيقة الدستورية فيما هو مصطلح عليه بالقوانين التنظيمية أو الأساسية أو في الأعراف والممارسات الدستورية.
ج - مبدأ رقابة دستورية القوانين: Contrôle de la Constitutionnalite Des Lois
إن أهم آلية ابتكرها الفقه الدستوري من أجل إقرار دولة القانون أو الدولة القانونية أو إرساء نظام ديموقراطي على أرض الواقع هي آلية مراقبة دستورية القوانين، حيث أن عملية إصدار دستور ديموقراطي وفقًا لإرادة الشعب- حتى وإن كان متضمناً للحريات العامة ولفصل السلطات ـ هي عملية غير كافية وعديمة الجدوى، لن يحقق من ورائها مبدأ حكم القانون أي جدوى ما لم تكن مصحوبة بمبدأ رقابة دستورية القوانين، وتعني هذه الرقابة ضرورة إرفاق كل ذلك بإحداث مؤسسة دستورية مهمتها تتبع مدى احترام كل من البرلمان والحكومة وغيرهما من المؤسسات لموجبات الدستور نصاً وروحاً.
إن عصر الأنوار إذ يبتكر مبدأ رقابة دستورية القوانين أسوة بما عمل به التشريع الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين وما بعده أثناء إحداثه لمؤسسة (ولاية المظالم)، كان الغرض منه هو تقييد الحكام بصفة خاصة بالمقتضيات الدستورية حتى لا يبقى الدستور حبراً على ورق ابتداء من نابليون بونابرت الذي اقتنع بعد إلحاح الفقيه الفرنسي (سييس ـ Siyes) بإحداث أول مؤسسة رقابية بفرنسا أسماها بالمجلس (حامي الدستور)؛ والذي أنشئ بتعيين من نابليون وما فتئ أن اشتغل قليلاً حتى أقاله من جديد بعدما تجرأ المجلس على مراقبة الإمبراطور ذاته.
وبعد أن ابتكر الفقه الفرنسي نوعاً ضعيفاً من رقابة دستورية القوانين وهو ما نصطلح عليه بالرقابة السياسية، لوحظ أن الرقابة الدستورية ذات الطابع القضائي كما هو لدى الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً أو لدى مصر حالياً هي أفضل بكثير؛ وذلك لأنها من الممكن أن تتسع للمواطنين أحياناً في أن يطعنوا هم أيضاً في القوانين التي لا تحترم الدستور كما هو من حق المؤسسات الدستورية، ويبلغ الأمر أحياناً إلى أن يسند الدستور لهذه الجهة الرقابية حق إلغاء القوانين المخالفة للدستور أيضا دون الاكتفاء بتجاهلها فقط.
وهكذا يبدو أن مبدأ (رقابة دستورية القوانين) هو إحدى أهم المبادئ الدستورية التي تصون وتحمي بشكل تام وفعال مبدأ حكم القانون كما تحمي أيضاً باقي المبادئ القانونية من عسف الحكام كإقرار مبدأ سمو القانون على باقي القوانين وفرض مبدأ الشرعية على السلطات الحاكمة، والالتزام بما يقره بشأن الحقوق والحريات العامة، وتفعيل مبدأ فصل السلطات بالشكل المنصوص عليه دستوريا. وهكذا يمكن استخلاص أن مبدأ الرقابة الدستورية هو أحد أهم الآليات اللوجستيكية العملية لمبدأ حكم القانون.
وقد أكد إعلان دلهي الصادر عن المؤتمر الدولي لرجال القانون والمنعقد في نيودلهي سنة 1959م أهمية مبدأ حكم القانون كما أسلفنا ودوره الرائد معلنا: (أن الدولة القانونية هي دولة تؤكد المساواة بين المواطنين في التزامهم بقانون ينظم العلاقات الاجتماعية ويحمي القيم والمبادئ الأساسية ويعهد إلى محكمة عليا أو محكمة دستورية متخصصة بالرقابة على تحقيق هذا الهدف).
وبشأن أهمية العمل الرقابي الدستوري في حق مبدأ حكم القانون أعلن الإعلان العالمي للديموقراطية المشار إليه أعلاه في البند السابع عشر من الفصل الأول المتعلق بمبادئ الديمقراطية مشيرًا إلى أن: (المؤسسات القضائية وآليات الرقابة المستقلة المحايدة والفعالة هي الأجهزة التي تكفل سيادة القانون، وسيادة القانون هي ركيزة الديمقراطية. ولتمكين هذه المؤسسات والآليات من تأمين الاحترام الكامل للقانون وتحسين سلامة الإجراءات ورفع المظالم، يتعين فتح الطريق أمام الجميع على قدم المساواة التامة لاستخدام الوسائل الإدارية والقضائية التي تكفل لهم حقوقهم، وتضمن احترام أجهزة الدولة وممثلي السلطة العامة وأعضاء اﻟﻤﺠتمع للقرارات الإدارية والقضائية).
د ـ ضمانات ديمقراطية أخرى
إن مبدأ حكم القانون هو أحد المبادئ الأساسية في إرساء دولة القانون أو الدولة ذات النظام الديمقراطي يتعين التنصيص عليه دستورياً بصفة صريحة أو التنصيص على روحه وجوهره، ولاحظنا أن الأنظمة الديمقراطية عملت على تحصين هذا المبدأ من خلال الآليات أعلاه، كما أن ثمة آليات قانونية وسياسية أخرى تساهم بدورها في تعزيز هذا المبدأ الدستوري سواء وردت في الدستور أو لم ترد، وذلك لكونها مبادئ ديمقراطية فرضت ذاتها عبر تاريخ المسيرة الديمقراطية للدول والشعوب.
ومن بين أهم هذه الآليات السياسية التي تسهم في تعزيز مبدأ حكم القانون ما يلي:
 ـ ظاهرة ضمان انتخابات نزيهة وشفافة تسهم في أن يشارك الشعب بمختلف تياراته السياسية الوطنية في تدبير الشأن العام وفقا لموجبات الدستور.
 ـ تعزيز قضاء المشروعية كإحدى الأحقيات الممنوحة للمواطن ولغيره من المؤسسات في الطعن في القرارات الإدارية كلما اتخذت قراراً أو صدر عنها تصرف ما مخالف للقانون بالمفهوم العام للقانون، أي بمختلف درجاته.
 ـ ضمان حق الأقلية على مستوى البرلمان في أن تتقدم بطعون أمام القضاء الدستوري أو غيره ضد الأغلبية الحاكمة والمسيرة للشأن العام بالحكومة أو بالبرلمان.
 ـ ضمان حق المواطنين في الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية بصفتها مؤسسات سياسية واجتماعية وذلك ضمن تعددية سياسية ونقابية سليمة ديموقرطية بحيث يسمح لها جميعاً بأن تسهم في تكوين وتعبئة وتأطير وتوعية المواطنين بقضايا الشأن العام وبالقضايا الوطنية وتحمل المسؤولية في إدارة الشأن العام وخاصة بالنسبة للمنخرطين السياسيين.
 ـ ضمان انخراط المواطنين في جمعيات المجتمع المدني التي تعمل على تأطير المواطنين في باقي القضايا غير السياسية بشكل موضوعي وسليم، وتعمل على إدماج المواطنين في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويكون من حقها حث رجال السلطة على احترام القانون بشأن حقوق الإنسان والحريات العامة.
 ـ الانفتاح على المنظمات الدولية والمجتمع المدني الدولي بالتعامل المشترك من أجل استنهاض مقومات الديمقراطية بالبلدان النامية في إطار من الشفافية والتعاون المشترك للتغلب على النواقص المسجلة في بعض القطاعات التنموية بما فيها المجال السياسي.
 ـ ضمان شفافية الحياة العامة لدى الرأي العام الوطني من أجل وضع الشعوب أمام حقيقة واقع بلادها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي قصد تتبع عملية تدبير الشأن العام من طرف السلطات المسئولة.
خاتمة واستنتاج
إن المتتبع للمسيرة التاريخية لمبدأ حكم القانون يستنتج أن هذا الأخير هو أحد المبادئ التي من شأنها إحداث نظام سياسي ديمقراطي؛ وإعداد مجتمع واع بما له من حقوق ومسؤوليات تجاه بلده في الحاضر والمستقبل بشكل يمكن أن يتم من خلاله استنهاض جميع الكفاءات وجميع الطاقات لمواصلة مسيرة البناء الجماعي الواعي والمشترك.
إن ظرفية المجتمعات الحديثة اليوم تفرض على الأنظمة السياسية القائمة ضرورة تحديث آليات العمل الديمقراطي من أجل إسهام الجميع من منطلق أن الدولة الحديثة أصبحت مطوقة بالعديد من المسؤوليات تجاه المواطنين من جهة وتجاه المجتمع الدولي من جهة ثانية كما أنها أصبحت ذات شفافية أكثر مما كانت عليه فيما مضى بحيث تزايدت فيها القوى المدنية من أحزاب ونقابات وجمعيات المجتمع المدني الوطنية والدولية، كما أصبح المواطن ذاته أكثر وعياً عما كان عليه المواطن بالأمس مما يفرض معه على الدولة أخذ كل هذا بعين الاعتبار من أجل تفادي المطبات المجتمعية التي قد تتسبب لا قدر الله في انعدام الأمن والاستقرار وبالتالي حدوث ما لا تحمد عقباه.
إن مبدأ حكم القانون إذ له حمولة قانونية تفيد التزام الجميع بما تنص عليه القواعد الدستورية فإن له حمولة سياسية تفيد من جهة أن لا سلطة فوق سلطة الشعب؛ إذ انتهى عهد الحكم الفردي أو الحكم الدكتاتوري الذي توضع فيه الدساتير بشكل غير ديمقراطي لا تستفتى فيه الشعوب، وتفيد من جهة ثانية أن حكم القانون مفاده الالتزام بالقواعد الدستورية التي هي من صنع الشعب واختياره، وهي تلك القواعد التي تراعي خصوصية هذا الأخير بما فيها القواعد ذات البعد الروحي والديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وبالتالي إن المقصود بالقانون هو ذاك الذي يعد فعلا قواعد اجتماعية منبثقة عن الجماعة وليس مقتبساً من الآخر.
***********
الحواشي
*) باحث وأكاديمي من المغرب.
 ـ أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق، 2000م، القاهرة، مصر.
 ـ أمين عاطف صليبا، دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون، دراسة مقارنة 2002م، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس ـ لبنان.
 ـ محمد كامل ليلة، القانون الدستوري، 1971م، دار الفكر العربي، مصر.
 ـ أندريه هوريو، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الجزء الأول، الأهلية للنشر والتوزيع، طبعة ثانية، 1977م.
 ـ وثيقة الاتحاد البرلماني الدولي رقم 33 الصادرة عن جمعية الاتحاد في دورتها 117-47 أثناء الدورة 62 للجمعية العامة عملاً بقرار 57 البند 12 من جدول الأعمال.

1 comment :

  1. I just like the helpful information you provide for your articles.
    I'll bookmark your blog and check again right here frequently. I'm rather certain I'll be informed many new stuff right right here! Best of luck for the following!
    My website > bail bonds las vegas

    ReplyDelete

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا