Sunday, September 30, 2012

عولمة القضاء


                                    عولمة القضاء
الشيخ أحمد العريبي  
في الوقت الذي نرى الإنسان اليوم أكثر وعيا لبلورة وإقرار القيم الإنسانية العالمية المشتركة نلحظ إمعانا وترصدا وتجاوزات وجرائم ضد هذه القيم الإنسانية العالمية، جماعات راقية لا يهمهم إلا زرع القيم وجمع الإنسانية حولها، وجماعات وأفراد أخرى تهدم ما يُبنى، تستغل تفاوت القوانين بين الدول والولايات وتفر بجنايتها إليها، أو تستغل عدم وجود اتفاقية دولية تُدين وتُحاكم الجاني على الجريمة التي اقترفها في بلد آخر. والعالم أمام هذه الإشكالية لا يتأتى له المضي في إقرار وتعزيز كل القيم الإنسانية والحفاظ عليها وصيانتها عن الاختراق، والتضييق على المجرمين وعدم ترك المجال لهم ليستغلوا التقدم الحضاري والتقني كعامل فرار إلا بصياغة وإقرار قانون عولمة القضاء وتحصينه وتوحيد مواصفات هذا القضاء، وتكوين قابلية الانتداب عالميا للقضاة المتّصفين بهذه القابلية.

إلا أن تحقيق هذا الأمل أمامه معوقات حقيقية وأهمها:

اختلاف الثقافات بين الشعوب والأمم والحضارات، مما يسبب الخلل في الاتفاق على منظومة القيم، أو حتى في ترتيب الأولوية لقيم قبل أخرى.

سيادة الدول (السيادة الوطنية) الباعثة على تعصبها وعدم موافقتها لأن يُحاكم مواطنوها في غير أوطانهم لو اقترفوا فيها الجرائم، أو فرّوا من بلد إلى بلد، وخاصة الدول المتقدمة التي ترى أنّ مواطنيها أجلّ من أن يُحاكموا في بلدان العالم الثالث.

تخلف القضاء في العديد من بلدان العالم عن الشروط التامة لتحقق القضاء العادل.

وقبل الشروع في تذليل المعوقات الحقيقية وتفصيل الحلول المناسبة لكل معوق منها لابدّ من حلّ إشكالية العنوان نفسه (العولمة) فهو بذاته يمثل عرقلة تتباين الأفكار والمواقف تجاهه، خصوصا أمام ما اختزنه العقل العربي من ردّة فعل جرّاء ما وصل إلينا من تبعات سيئة حين تسويق المفهوم ذاته، لأن العولمة عندنا لا تعني إلا أحد أشكال الهيمنة الغربية والجديدة التي تعبر عن مركزية دفينة في الوعي الأوروبي وتقوم على عنصرية عرقية، وعلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة بهدف تحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة ومتصارعة على مستوى الثقافات؛ لإخفاء الصراع حول المصالح في الثروات، والهاء الشعوب بثقافات تقليدية، وهي بالتالي تمثل مخاطر حقيقية على الهوية الثقافية التي هي مقدمة لمخاطر أعظم على الدولة والاستقلال والثقافة الوطنية، وهي لا تعني إلا مزيدا من تبعية الأطراف للمركز، فالمركز هو الذي يحدد قيم الاستهلاك والمتعة بالحياة، وبالتالي تصبح ثقافته هي نموذج الثقافات، الأمر الذي يؤدي إلى انحسار الهويات الثقافية الخاصة كما أوضح طبيعتها الدكتور حسن حنفي. هذا هو المفهوم المرتكز عن العولمة ووجهها القاتم، فهل يحق لنا أن نُعولم مفاهيم من حقها العولمة؟ بل هي ما وُجدت لتبقى محصورة في المحلية وضمن الحدود والأسوار .

إذا نظرنا إلى ما ينبغي أن يكون لا إلى ما هو كائن بالفعل، أو ما يُتصور أنه كائن، فإن كل مبدأ أو عقيدة أو مجموعة قِيَم تتصف ذاتا بالعالمية؛ فإن عالميتها لا تتضح ولا تؤدي دورها ما لم تدخل ميدان العولمة، وبتعبير آخر: ما لم تُسوق عالميا وبأرقى مهارات التسويق، فمصطلح “العولمة” على وزن “فوعلة” مثل: قولبة، حوسبة، عوشرة، كوثرة، بوتقة، تعني العمل على جعل الشئ عالميا، وعولمة القضاء ينبغي أن تنتشر وتعطي أثرا ودورا في وجودها، وهي التي تفتقر إليها تلك البقاع العريضة، بحيث لا يعترض الإنسان الواعي لا على مبدأ وجودها ولا على استمرارها، فهي ليست دخيلا أجنبيا بغيضا محتلا، بل هي جزء من حياته وكيانه. ومنها ما هو أقصر وأدْوَن وأقل من جعلها عالمية إلا أن الدعاية والإعلان، والقسر والإكراه، وألاعيب السياسة والتوظيف المغرض تجعل ما ليس عالميا معولما بلا وجه حق، والعالم بأسره لا يتبع نظاما سياسيا واحدا ولا نظاما اجتماعيا كذلك، والإثنيات والأعراق متعددة حتى في القطر الواحد، فكيف يتم تقبل العولمة دون أن تكون مسبوقة بتهديد الجيوش أو من خلال قوة المال واستقطاب الدول؟ العالم وإن لم يكن قد سعى نحو مجموعة الأهداف الإنسانية يوما ما إلا أنه يؤمل له أن يسعى نحو كمال إنسانيته، وأن يبنى حلم الفلاسفة في تحقق صورة من المدينة الفاضلة أو بالأحرى نحو وراثة الحضارة الفاضلة.

والأيام تشهد والأحداث حُبلى باتساع مساحة الحريات في العقيدة وغيرها وما يتبعها من اختلاف في التشريعات والأنظمة إلا أنها لابدّ لها من رباط يجمعها بالإنسانية وإلا انحدرت إلى الهاوية وختمت على ذاتها بالهلاك والفناء . وهذا الرباط الجامع للإنسانية هو وحده الخيط العالمي الذي مكانه الطبيعي هو (العولمة)، لأن القيم الإنسانية هي قيم عالمية مشتركة عمل على غرسها الأنبياء والمصلحون، وهي عالمية وينبغي أن تكون (معولمة) وكوجه من الحفاظ على قيمتها العالمية وآثارها فإن مخالفتها وتحديها والتنكر لها تؤدي بالمجتمعات إلى حيوانات سبُعية ضارية لا تعرف شيئا من قيم الإنسان ومبادئه، وهي ذاتها لا تخص دينا ولا مذهبا ولا نظاما سياسيا، فالتعدي عليها أو استبدالها أو اختراقها تكون محكومة ضمن ملف (عولمة القضاء) ومن صميم اختصاصه. فمنظومة القيم الإنسانية التي ابتدأت مع وجود الإنسان وتتكامل بكمال الإنسان وتتجذر وعيا وعمقا في ضميره بدءا من تشرف الأرض بوجوده لإعمارها، وإبرازا لقيمة الحياة والسير إلى الله سبحانه وتعالى، كل هذه القيم هي العالمية وهي التي من حقها العولمة، وهذه المهمة ذاتها هدف الأنبياء جميعا والنبي محمد (ص) الذي بُعث للناس كافة لم يكتف بأن ينشر القيم الإنسانية في شبه الجزيرة العربية من دون عولمتها خارج الأسوار والحدود، وما قام بفعله من إرساله (ص) الوفود والرسائل إلى الملوك والعظماء إلا تأسيسا وتشريعا “لعولمة القيم” بعد الفراغ من كونها عالمية غير محلية، وإلا فهي قاصرة عن النشر والإشهار وعاجزة عن قناعة الآخر بها وتبنيها كجزء من نظامه وحياته.

وطالما ردّدنا ونردّد: “أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان” ومع عمق المقولة والإيمان بصوابيتها إلا أنني أحسب أن جهلا معشعشا بتبعاتها وتطبيقها في ميدان الواقع عند أهلها فضلا عن الآخر، بصورة لا تقل عن حجم المقولة وامتدادها. فحينما نتغافل عن المبادئ العامة للعقيدة ومجموعة القيم وعناصر الأخلاق ونركز في دراساتنا ومجال دعوتنا على إلزام المسلمين بتكاليف الشريعة ونختزل الإسلام في هذه التكاليف ففي هذه الحالة لا يمكن أن نقنع أحدا بالمقولة السابقة فضلا عن عدم إمكانية اقتناعنا نحن بها، أو بالأحرى ضبابية وعينا لمفهوم الإسلام وانطباق المقولة عليه.

أما حينما يمتد أفقنا إلى مفهوم أوسع للإسلام باعتباره دين الله سبحانه وتعالى الذي اشترك جميع الأنبياء عليهم السلام في تأسيسه وتوضيح معالمه وبلورة رؤاه وإحياء ما اندرس من آثاره فإن مصب اهتمامنا ولغة خطابنا ووضع المعايير في عدّ هذا داخلا في الإسلام وهذا خارجا عنه حتما يختلف وينطلق من مفهومنا للإسلام نفسه، وهذه النظرة الجديدة المغايرة هي الأساس الذي يبتني عليه ملف عولمة القضاء وملاحقة من يحاول المساس بهذه القيم الإنسانية العالمية المشتركة لغرض محوها أو استبدالها أو اختراقها أفرادا كانوا أم هيئة وجماعة أم حزبا أم دولة.

وبهذا الوعي نرقى إلى مرتبة المبادرة والإصرار بمطالبة أجهزة القضاء في العالم والمنظمات الحقوقية الإنسانية الدولية لتوحيد القضاء والعمل على حصانته؟ فنحن مطالبون كأمة أن نبادر بكفاءاتنا لترسيخ القيم الإنسانية ليس في مجتمعاتنا فحسب، بل لكل المجتمعات الإنسانية لكن بروح جديدة لا ما اعتاده العالم أن ينظر إلينا من خلاله، ونحن مطالبون الآن أن نبين الحلول التي نقترحها للمعوقات التي ذكرناها آنفا وهي كالتالي:

1 - اختلاف الثقافات بين الشعوب والأمم والحضارات، مما يسبب الخلل في الاتفاق على منظومة القيم، أو حتى في ترتيب الأولوية لقيم قبل أخرى، وحلّ هذا المعوق يتم بالاتفاق على بلورة وبحث ومعالجة خصوص القضايا المتفق عليها عالميا، والتي لا تختلف في فسادها الحضارات والثقافات مهما تعددت من مثل التعدي على حرية العقيدة، وتهديد الأمن والسلام، والقتل الفردي والجماعي وجرائم الإبادة، والإرهاب ضد المدنيين الذين لا دخل لهم في الاختلاف، والسرقة للثروات والأموال العامة والفردية، ومثل التجارة في القاصرين عن طريق تسخيرهم في الدعارة، أو بيع الأعضاء ونهب وتهريب الأطفال لأي غرض كان، ومثل الاتجار بالمواد المحرمة كالمخدرات والسموم، وتهريب السلاح للعصابات، ونشر الرذيلة والفساد مثل الزنا واللواط وما يتبعه من تشريع عمليات الإجهاض لغرض إباحة الجنس غير المشروع وإخفاء العار ـ خصوصا في المجتمعات المحافظة ـ، أو تشريع الزواج المثلي، أو تشريع اللواط، وكل ما يوجب القضاء على كيان الأسرة.

والثقافات مهما اختلفت وتعددت إلا أن بحث خصوص القضايا العالمية المشتركة هو الحل الضامن، مع التأكيد على أهمية حاجة القضاء العالمي إلى لجان متخصصة في المتابعة والتشخيص، ووظيفتها أنها توصي وتستعين بمراكز البحوث والإرشاد عبر فعاليات متعددة من الندوات والحوارات والبرامج التثقيفية في الأجهزة الإعلامية المتعددة؛ بغية غرس القيم وإبراز أهميتها لتطوير الإنسانية وحمايتها من عبث العابثين، وجهل الجهلاء بقيمتها وأدوارها في أي مكان في العالم ما دامت في حاجة إليه. حتى تمهّد الأرضية للمتابعة القضائية الواعية والعادلة وتجريم كل المتلاعبين بالقيم ومدنسي شرف الإنسانية.

2 - سيادة الدول (السيادة الوطنية) الباعثة على تعصبها وعدم موافقتها لأن يُحاكم مواطنوها في غير أوطانهم لو اقترفوا فيها الجرائم، أو فرّوا من بلد إلى بلد، وخاصة الدول المتقدمة التي ترى أنّ مواطنيها أجلّ وأعلى من أن يُحاكموا في بلدان العالم الثالث، ولعلاج السيادة الدولية فإنه لابدّ من توظيف منظمات الدفاع عن الحريات ومنظمات حقوق الإنسان والتي أصبحت تشكل عامل ضغط على الحكومات ـ خصوصا في العالم الغربي ـ فضلا عن أعمالها الإدارية المنظمة في تشكيل الوعي الحقوقي والحق الإنساني، فإذا ما استثمرت جهود كلّ هذه المنظمات واحترمت شخصياتها الاعتبارية سهل على المقترح تنفيذه دون إعاقات من غطرسة الحكومات التي ترى لنفسها السيادة الدولية، ومع الاتفاق التفصيلي للقضاء المقبول دوليا بحيث لا ينطلق ولا يتحيز إلى شريعة دون شريعة ولا يجبر القضاء ولا المتقاضي على شريعة دون أخرى وإنما هو حكم يستمد من مجموعة الشرائع بما تؤكده إنسانية الإنسان وتقبله للقانون وقدرته على ردع الجناة لا الانتقام منهم وتجفيف منابع الجريمة بتيسر سريان عولمة القضاء دون عراقيل في أي بلد في العالم، وتوافق كل الدول على تبنيه والتوقيع على المعاهدة فيه، وتباركه جميع الهيئات الإنسانية دون تردد أو خوف.

3 - تخلف القضاء في العديد من بلدان العالم عن الشروط التامة لتحقق القضاء العادل، ولعلاج عجز القضاء يتم الاتفاق أولا على المواصفات اللازمة للقاضي والمحاكم تحت إشراف لجنة دولية ويتم اختيار القضاة حسب المواصفات التي تم الاتفاق عليها بعيدا عن التسييس وضغوط الممول الأكبر أو الأقوى سياسيا وإعلاميا وحضورا في المجتمع الدولي، أملا في تكوين قابلية الانتداب عالميا من أي بلد في العالم ما دامت الكفاءات هي المعيار في الترشح لهذه المهمة.

وأخيرا كيف سيوفق (الإسلاميون) بين أحكامهم والأحكام الدولية فيما لو اختلفا في الإجراء اللازم فإنه لابدّ من النظر إلى ما حصل من إعاقات أمام القضاء الشرعي في الإسلام من مثل قطع يد السارق وما سعت إليه بعض الدول في تنفيذه وما واجه الاستمرار فيه من تحديات ومطالبات حثيثة لإلغائه واستبداله بقانون مدني إنساني؛ فإن هذا المثال الصارخ قد فتح ويفتح المجال للتأكيد على حاجة الإنسانية بحالتها العالمية اليوم إلى عولمة القضاء بمنطلقات لا تسمح بتعطيل أحكام قوانين القضاء، وقد أكدّ غير واحد ممن تناولوا مسألة الحدود في الفقه الإسلامي إلى أنّ مثل قطع يد السارق يمثل أعلى حدّ يختاره القاضي للحكم على السارق لا أنه هو الحكم المتعين، ومصطلح الحدود تعني المسافة التي تبدأ من حدّ أدنى إلى الحدّ الأعلى مثل الدرجات التي تبدأ من 1 إلى 10 وللقضاء أن يختار العقوبة الدنيا أي الدرجة الأولى الأخف أو الدرجة الثانية أو الثالثة أو الخامسة أو العاشرة الأعلى الأصعب مثل قطع اليد بحسب السياقات والظروف؛ وقس على هذا المثال باقي مواضيع الحدود؛ لأن الغرض من تطبيق مبدأ العقوبات أو بالأحرى القصاص ليس الانتقام وإنما لتظل الإنسانية آمنة وصاعدة في الرقي وفي ضوء هذا الغرض لا يتعقل أحد أن نساوي في الحكم بين من سولت له نفسه يوما ما سرقة مائة دينار وبين من يتفنن بعدة خطط ويجند فريقا يُعينه على مآربه الشيطانية وينهب ثروات ومقدرات الدولة ونقطع أصابع كليهما دون تشديد العقوبة للثاني أو تخفيفها عن الأول. ففي مثل هذه القراءة الأخرى لموضوع الحدود بالفهم الحدودي لا الحدي المتعين، وبهذه القراءة يكون شرع الإسلام في موضوع الحدود بدرجاته من الأخف إلى الأصعب هو الشرع الضامن لكل مساحات كل جريمة بحسب سياقاتها ومناسبتها لكل بلد في العالم وفي أي زمن من الأزمان ما دام لمؤسسات القضاء مساحاتها الاجتهادية، وهي الأوفق للاتفاق العالمي والمرجعية التي يمكن أن تحتكم إليها جميع أصحاب الشرائع.

jama70h@yahoo.com

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا