مختصر حول أسباب الأزمة الاقتصادية
قد يتخيل البعض أن الأزمة الاقتصادية الحالية هي نتيجة للازمة المالية السابقة التي نشأت في الولايات المتحدة سنة 2007 و التي تعرف بأزمة الرهون العقارية (subprimes). في الحقيقة هذا ما تصوره الدعايات الرخيصة في خدمة الرأسمال. وهي نفس الدعاية التي تصور اليوم أزمة اليونان على أنها أزمة اليونانيين السيئين الذين استهلكوا أكثر مما أنتجوا و اقترضوا فوق مقدرتهم على التسديد.
فلا الأزمة الاقتصادية هي نتيجة للازمة المالية (و لكن العكس هو الصواب) و لا الأزمة اليونانية هي أزمة اليونانيين (بل هي أزمة أوروبا و لها أبعادها السياسية أيضا) لكن الأكيد أن كلاهما أزمة الرأسمالية.
سأترك موضوع اليونان جانبا الآن و سأكتفي، بشيء من الاقتضاب، بشرح مختصر لأسباب الأزمة الحالية. لكن بعد شرح مبسط لبعض المفاهيم المهمة:
ـ أزمة اقتصادية: يمر النشاط الاقتصادي عبر أربعة أطوار متتالية و متكررة تسمى بالدوران الاقتصادي (cycle économique) وهي طور النمو (نمو الإنتاج)، طور الأزمة (توقف نمو الإنتاج)، طور الهبوط أو الركود (تراجع النمو) طور الانحسار أو الكساد (نمو سلبي). تتعلق الأزمة الاقتصادية بالاقتصاد الحقيقي : الإنتاج، الاستثمار، الوظائف،الخ. يبقى أن الأزمة الحالية ليست بأزمة ظرفية و لكنها هيكلية و طويلة المدى أي أننا في مرحلة الأزمة ليس بمعنى توقف النمو ولكن بمعنى تراجع النمو أي مرحلة بين الركود والكساد.
ـ أزمة مالية: تتعلق المالية بعمليات التمويل كالإقراض و التداين أساسا و تشمل كل الفاعلين الماليين كالمؤسسات المالية البنكية و الغير البنكية كما تشمل الأسواق المالية كالأسواق المالية الابتدائية و البورصة. والأزمة المالية يمكن أن تتشكل كنتاج لعدم القدرة على السداد أو لغياب الثقة بين الفاعلين الماليين، الخ. وقد تأخذ مثلا شكل هبوط سريع في مؤشرات البورصة أو أسواق العملات.
1 اثر الحرب العالمية الثانية دخلت الرأسمالية مرحلة جديدة عرفت هذه المرحلة بالثلاثينات المجيدة (les trente glorieuses) وهي الفترة الممتدة بين 1945ـ 1973 تقريبا. و قد اتسمت هذه الفترة، من جهة، بنسق متسارع للنمو الاقتصادي (نمو سريع للإنتاج) و الذي يفسر في أحد جوانبه بسرعة نمو الإنتاجية (إنتاجية العمل بالذات أي ما ينتجه العامل في زمن محدد) يقابله من جهة أخرى، نمو الأجور و تحسن المقدرة الشرائية و مستوى عيش العامل و الموظف. حيث قام هذا النموذج الاقتصادي على نمط إنتاج مكثف و نمط استهلاك مكثف.
2 تغير هذا المشهد تدريجيا ابتدءا من السبعينات خاصة بعد أزمة البترول 1973 وبعد تفكيك النظام النقدي العالمي وهي كذلك نفس الفترة التي اتسمت بصعود التيارات اليمينية المحافظة في أوروبا و أمريكا (مارغريت تاتشر في بريطانيا و رونالد ريغان في الولايات المتحدة كممثلين لهذه التيارات في بلديهما) وبداية تشكل الأيديولوجية الليبرالية الجديدة وهيمنتها على العالم مقابل تراجع لمكتسبات و حقوق الطبقات الوسطى والعاملة منها (التي ناضل من أجلها الآباء و الأجداد). و في حين تواصلت الإنتاجية في التطور تدهورت الأجور أو استقرت في أفضل الحالات. و بذلك تدهورت المقدرة الشرائية للأجراء و العمال. وهو ما كان يهدد الرأسمالي المنتج أيضا الذي لن ينجح في ترويج بضاعته أو خدماته و بيعها في الأسواق في حالة غياب من يشتريها أي غياب الطلب أمام تدهور المقدرة الشرائية "للمستهلكين" كما يصفهم الرأسمال.
3 لقد كان المخرج "الوحيد" بالنسبة للرأسمال من حالة عدم التوازن بين العرض و الطلب بدفع الأجراء إلى الاقتراض و مزيد الاقتراض (طبعا إعادة توزيع المداخيل لم تكن مطروحة). و كانت هذه العملية فرصة بالنسبة للمضاربين حيث نشأت أسواق مالية للمضاربة على القروض (شراء و بيع سندات القروض و مشتقاتها). مكن هذا البنوك مثلا من أن تقدم قروضا سريعة و من دون ضمانات: ما دامت ستبيع القرض و لن تتحمل تبعات عدم السداد ( هنا يقوم مثلا كل بنك ببيع القرض لبنك آخر الذي سيقوم بدوره ببيع هذا القرض لبنك ثالث و ربما بهامش أكبر من الربح، وهكذا). و صارت تلك الممارسة ممارسة عامة و طريقا للربح السريع على حساب الاستثمار و الإنتاج و التشغيل كنتيجة. تعقدت العمليات المالية و نشأت شركات مالية عملاقة وتغير سلوك البنوك (هيمنت عمليات المضاربة المالية على حساب تمويل الإنتاج و العمليات التجارية). في الأثناء أخذت تتشكل الفقاعة المالية : تطورت أسعار غير حقيقية للسندات و الأسهم سيدرك الجميع في الأخير أنها معفنة و يقوم الجميع بالبيع. كل فرد أو فاعل اقتصادي يحاول التخلص من السندات و الأسهم التي لا تساوي شيئا في الحقيقة وهو ما سيؤدي إلى حالة من الذعر العام في الأسواق المالية تنتهي بانفجار الفقاعة المالية :هبوط سريع في أثمان السندات والأسهم.
4 و مع انفتاح الأسواق المالية و غياب الإطار القانوني لضبطها لم يعد من الممكن معرفة أين توجد تلك الفيروسات (الأصول أو السندات المتعفنة) حيث كانت العدوى سريعة و صارت الأزمة شاملة.
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى