إذا كان قضاء الحكم مستقلا نسبيا عن السلطة التنفيذية فإن الأمر خلافه بالنسبة إلى قضاء "النيابة العامة"
لقد أثار انتباه الرأي العام المغربي عموما، والقضائي خصوصا، ما جاء على لسان رئيس الحكومة، مع احترامنا وتقديرنا الشديد لشخصه، في برنامج «بلا حدود» على قناة الجزيرة، إذ قال بشأن محاربة الفساد: « باراكا، كفى» مستدلا بمقتطف من الآية 95 من سورة المائدة حيث يقول عز من قائل:»عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ».
ولما كان من صميم الروح الديمقراطية أن نحترم آراء غيرنا، فإنها وبلا شك، كافلة لحقنا أيضا في إبداء بعض ما نرتئيه من ملاحظات على المقولة أعلاه، تعميما للفائدة من جهة، وتوخيا للمصلحة العامة من جهة أخرى، إذ لن نخوض في غمار السياسة، التزاما منا بمبدأي التجرد والحياد، التي لها رجالها وفرسانها، وإنما سنتأمل مضمون تلك المقولة من الناحية القانونية فحسب.
ولعل أجلى ما يتبادر إلى ذهن رجال القانون في هذا السياق، خاصة القضاة منهم، أمران أساسيان، وهما: ممارسة حق العفو الشامل أو العام، واستقلال السلطة القضائية.
ولئن كان الأمر الأول محسوما بنص الدستور لصالح السلطة التشريعية بصفة حصرية (الفصل 70 من الدستور الجديد)، فإن الأمر خلافه بالنسبة إلى السلطة القضائية نظرا لأن المشرع الدستوري لم يفصل في مسألة تبعية «النيابة العامة» للسلطة التنفيذية أم لا، تاركا ذلك للقوانين التنظيمية، مما يعد مدعاة لطرح التساؤل الآتي: من الذي يمثل المجتمع في تحريك أو إثارة الدعاوى الجنائية (سلطة المتابعة)، هل النيابة العامة أم السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الحكومة؟
إنه لَمن نافل القول، إن «سلطة المتابعة» موكولة بصفة مبدئية لقضاء النيابة العامة، ولبعض الموظفين، وكذا المتضررين من الفعل الجرمي بصفة استثنائية، حيث عبرت المادة الثالثة من قانون المسطرة الجنائية على ذلك بقولها:»(..) يقيم الدعوى العمومية ويمارسها قضاة النيابة العامة، كما يمكن أن يقيمها الموظفون المكلفون بذلك قانونا. يمكن أن يقيمها الطرف المتضرر طبقا للشروط المحددة في هذا القانون (..)».
ويتأدى مفهوم «سلطة المتابعة»، أساسا، في تلك السلطة المخولة إلى النيابة العامة قصد ملاحقة المشتبه فيه، إما بمقتضى شكاية أو وشاية أو حتى خبر نشر في وسائل الإعلام سواء المكتوبة أو غيرها، وذلك بإخضاعه للبحث أو التحقيق بهدف التأكد من مسؤوليته الجنائية، ومن إمكانية محاكمته وإدانته بحكم قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به. وهي بهذا المفهوم، تتأسس على عنصرين أساسيين: يتسم أولهما بالصفة القانونية، حيث لا مجال لها في مخالفة القانون. وأما ثانيهما، فيصطبغ بالطابع التقديري ، إذ فضلا عن العنصر الأول، فإنها تمتلك سلطة تقديرية في إثارة الدعوى من عدمها، أو ما يسمى اصطلاحا بـ»سلطة الملاءمة»، وهنا مكمن الخلل كما سنرى في حينه.
وقد قيل قديما:»من يملك السلطة على الشيء يملك الحق عليه»، والحق هنا نوعان: حق ممارسة السلطة على ذات الشيء، وحق التنازل عنه. فهل للسيد رئيس الحكومة سلطة وقوة على الجرائم المحتملة، مادامت السلطة القضائية لم تضف عليه الصبغة الجرمية بعد، التي عفا عن مرتكبيها حتى يكون له حق التنازل عنها؟
ومما هو معلوم من الفكر الجنائي بالضرورة، أن بمجرد ارتكاب فعل من الأفعال المجرمة قانونا، ينشأ ما يسمى اصطلاحا: «حق المجتمع في العقاب»، وأن لا سلطة على هذا الحق من لدن أية فئة أو فرد من الأفراد أيا كان موقعه، باستثناء العفو بنوعيه العام والخاص، وإنما هو ملك للمجتمع قاطبة أوكلَ ممارسته للسلطة القضائية ابتداء وانتهاء، تجنبا لتكريس ثقافة «الإفلات من العقاب» التي ما فتئت وما زالت تهدد استقرار سائر المجتمعات وتماسكها.
غير أن مادام جهاز «النيابة العامة» في نظامنا القضائي، تابعا لسلطة وزير العدل (الفصلان 56 من النظام الأساسي لرجال القضاء، و51 من قانون المسطرة الجنائية)، وهذا الأخير تابع لسلطة رئيس الحكومة (الفصل 89 من الدستور المغربي)، فإن بإمكانهما، أي رئيس الحكومة ووزير العدل، أن يتابعا ويعفوا عمن شاءا، الأمر الذي يعد ضربا من ضروب التجني على مبدأ «استقلال السلطة القضائية» الذي طالما تغنى به البعض وما زال، فضلا عن أنه يعد إخلالا صريحا للفصل 117 من الدستور المغربي الذي أولى للقاضي حصريا دون غيره «حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون».
وغني عن البيان في هذا السياق، أن مفهوم القاضي المذكور في الفصل أعلاه، جاء عاما غير مخصوص بقيد أو مقرون بشرط، وبالتالي، كان شاملا لقضاة الأحكام والنيابة العامة معا، إذ لا فرق بينهما من حيث حماية الحقوق والحريات وتطبيق القانون.
وإذا كان قضاء الحكم مستقلا من الناحية الدستورية، نسبيا، عن السلطة التنفيذية وغير تابع لأي جهة إدارية أخرى، فإن الأمر خلافه بالنسبة إلى قضاء «النيابة العامة»، حيث لم يحسم الأمر بعد، مما يحتمل معه في حالة إبقاء تبعيتها لوزارة العدل، أن تكون مرتعا لتحكم السياسة والأهواء والانتماءات الإيديولوجية في تقدير بعض المتابعات، إذ ربما تتحرك في ملفات وتُجَمد في أخرى، الأمر الذي سيحول لا محالة دون الاضطلاع بدورها في حماية الحقوق والحريات شأنها شأن قضاء الحكم. فهل حان الوقت لإعادة الأمور إلى نصابها الحقوقي والديمقراطي، وبالتالي الاقتناع بحتمية فصل النيابة العامة (سلطة المتابعة) عن السلطة التنفيذية؟
واستجوابا لهذا التساؤل، طالب، وما زال، «نادي قضاة المغرب» بضرورة استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية كجزء لا يتجزأ عن مبدأ «استقلال السلطة القضائية»، إذ بادر حوالي 1800 قاض إلى توقيع وثيقة المطالبة بـ»استقلال النيابة العامة» يوم 5 ماي 2012، وذلك تيمنا وتبركا بالذكرى الخالدة لتقديم وثيقة «المطالبة بالاستقلال» يوم 11 يناير 1944. فهلا تيمنت وتبركت السلطة التنفيذية، وزارة العدل والحريات، بالذكرى الوطنية المذكورة؟ وهل ستتحلى بما تتطلبه المرحلة من جرأة في طرح هذا الموضوع على طاولة النقاش الفكري الجاد؟ وهل ستقوى على تحمل آثار فطام «سلطة المتابعة»، وبالتالي السلطة القضائية بصفة عامة؟ وهل ستتجاوز المنطق الإقصائي، وتشارك كل الفعاليات المدنية والحقوقية غير المحتَضَنة من قبلها في إثراء هذا النقاش للوقوف على سلبيات التبعية وتجاوزها لما فيه خير الوطن والمواطن؟
بقلم:عبد الرزاق الجباري, عضو مؤسس لنادي قضاة المغرب
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى