طيب تيزيني
يعود الحوار حول الحرية والعدالة إلى أزمنة عريقة في تاريخ البشر، وقد كان أحد روائز هذا الجدال الإجابة عن السؤال التالي: أين يبدأ الإنسان، بهذه (الحرية) أم بتلك (العدالة)؟ وكان مثالاً نموذجياً على ذلك ما أعلنه شباب سوريا في بواكير انتفاضتهم قبل عام ونيف، من أن انتفاضتهم هذه جاءت رداً على نظام سياسي استبدادي تقف الحرية في مقدمة الأهداف المناهضة له. وكان طريفاً حتى الحد الأقصى أن أعلن شباب من المتظاهرين منذ البداية. أنهم - في خروجهم على ذلك النظام - لم يطالبوا بالخبز وبالكفاية المادية، على أهميتها الكبيرة. فما خرجوا من أجله إنما هو الحرية والكرامة. ها هنا، بالضبط، كمنت خصوصية انتفاضتهم، ومعها عبقريتها. وقد تمّم ذلك ما أعلنوه، بوضوح دقيق، من أن انتفاضتهم تلك أعلنت سلميتها في البدء كما في اللاحق. وبذلك، أفصح الأمر عن أنهم التزموا الرؤية التاريخية الواقعية، مُبتعدين عن النزوع الشعبوي المغامراتي، مع الإشارة المهمة اللازمة إلى أن "فئة الشباب" المعنية هنا تتحدد، أساساً، بيولوجياً وجيلياً، ولكنها تتصل بالمحددات الاجتماعية والطبقية عن طريق متوسط، ما يعني أنها افتقدت إذ انتفضت، امتلاك التجربة الثقافية والسياسية، إلا قليلاً.
هكذا، وعلى ذلك الطريق الواضح، فرض الشباب استراتيجيتهم على النظام الأمني القائم، مما أحرج هذا الأخير وأوقفه في حالة اضطراب، ذلك لأن التظاهر السلمي حق من الحقوق، التي يضمنها الدستور، فإذا استمر ذلك التظاهر، فلعل أسابيع قليلة كانت كافية لتفكيك النظام وإنهاكه. ولذلك، جاءت المذابح الدموية بإطلاق الرصاصة الأولى. وعلى ذلك النحو، حَرف النظام مسار الانتفاضة، خصوصاً بعد أن صعّد الحرب على ضمير الشعب والأمة (الشباب)، حيث انتقل من الرصاصة إلى الصاروخ، وإلى الدبابة، واستباحة الحرائر وقتلهن مع أطفالهن ورجالهن، واختطاف ما يتحرك على الأرض، إضافة إلى حرق المنازل وغيره مما يتصل بالحياة.
في ذلك السياق المشتعل والمطّرد بالاشتعال، اتضح بقوة لـ" مُقتحمي السماء" أن شعار الحرية والكرامة والسلمية يمتلك الأهمية الحاسمة تجاه شعارات أخرى، خصوصاً شعار العدالة، فهذا الأخير، ومنه خصوصاً ما يتصل بتوزيع الثروة، إلا بامتلاك ذلك الشعار المركّب. وفعلاً، أظهرت الأحداث الدموية البربرية أن تلخيص الانتفاضة (المتجهة إلى التحول لثورة، فيما نرى)، بمطلب الخبز والعمل، هو نفسه أمر غير قابل للتحقق إلا على أيدي نساء ورجال يملكون المعرفة التاريخية المتوهجة بضرورة إسقاط الاستبداد الرباعي القائم على الاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والمرجعية الاجتماعية السياسية، أولاً. وهو - ثانياً - غير محتمل عبر وعود زائفة يُطلقها من يقف على رأس ذلك الاستبداد الرباعي.
بلْ كي نُمعن في التدقيق، ينبغي الإشارة إلى أن علاقة ما تقوم بين مطلبيْ الحرية والعدالة في الحركات الشعبية من نمط هذه التي نحن بصدد البحث فيها، وهي علاقة تُفصح عن نفسها بوصفها ذات طابع جدلي. فالمنتفضون الثائرون يدركون، خصوصاً بالمعنى الواقعي، أن مطلب الحرية إن لم يتلبس بمطلب العدالة، قد يفتقد لحظة من لحظات التأسيس لاستراتيجية الكفاح من أجل الحرية في بُعدها السياسي المُشخص. وهنا، ينتصب أمامنا مُعطى اقتصادي اجتماعي وسياسي يتمثل في أن النظام الأمني السوري عمّم استبداده الرباعي المذكور في قاع المجتمع ووسطه (الطبقة الوسطى) وكذلك على نسبة عالية من الفئات الموسِرة العليا، مؤثراً نخبة منهم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً وطائفياً وغيره، بحيث تحولت الثروة الوطنية إلى أفراد من المختارين، وتحولت مقابل ذلك فئات متصاعدة من الحرائر النساء إلى الموقف التالي: أن "تأكل من أثدائها"، أو أن تفتقد حقها من الحياة الكريمة. أما جشع ذوي الثروة فقد حال دون توزيع الفئات على الفقراء والمفقرين. نعم، لم يبق إلا الكفاح من أجل الحرية والكرامة، في سياق الكفاح من أجل العدالة!
-------------------------
جريدة الاتحاد الإماراتية - 26 مارس/ آذار 2012
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى