Monday, November 05, 2012

المجتمع الأهلي والمجتمع المدني


عماد علو
يعبر الانسان عن اجتماعيته من خلال حاجته الي بني جنسه وحاجتهم اليه للاستمرار في الحياة الانسانية واستكمالها بالتعاون والحماية والتنظيم، اجتماعياً بما يكفل تأمين التفاعلات الاجتماعية بمختلف أشكالها، أو سياسياً بايجاد المؤسسات الكفيلة بانتاج المجتمع السياسي.
ازاء هذه العلاقة الاجتماعية والسياسية، لا يمكن النظر الي مسألة الانتماء، كشعور وممارسة، الا من خلال الاحساس الطبيعي بالانتماء الي الجماعة الأولية، التي يولد فيها الانسان. لذلك فان مؤسسات المجتمع الأهلي تكون ذات طابع قرابي عصبوي(انظر عبد الاله بلقزيز: في الديمقراطية والمجتمع المدني،بيروت، افريقيا الشرق، 2001، ص 20 ــ 21) فانتماء الأفراد اليها لا تحدده ارادتهم الحرة وانما تحسمه مسبقا عوامل معينة، كروابط الدم، أو الولاء القائم علي أساس العرق أو الدين والمذهب أو الطائفة أو الوشائج الاجتماعية الأخري، علاوة علي أن وجودها يسبق وجود الأفراد المنتمين اليها عادة . والبحث في اشكالية المجتمع الأهلي وعلاقته بالمجتمع المدني، والعوامل المؤثرة في تحول المجتمع الأهلي الي مجتمع مدني، هو ما سنحاول القاء الضوء عليه في هذه المقالة ..
تراجع مقومات المجتمع الأهلي
تقوم مؤسسات المجتمع الأهلي، بالعمل، وبأكثر الوسائل تحديثاً، علي ترسيخ روابط المجتمع الأهلي بانتماءاته الأولية القائمة علي العصبية القرابية مهما كانت تفريعاتها والانطلاق منها، كأولوية انتماء، الي بناء علاقاتها مع الخارج، ان كان هذا الخارج علي حدود الولاءات الفردية التي تتحكم بها اعتبارات القرابة والمكان، أو علي حدود الطائفة التي تتحكم بها اعتبارات الولاء الطائفي تجاه بقية الطوائف، أو علي حدود الدين التي تتحكم بها اعتبارات الولاء للدين الواحد تجاه بقية الأديان.
لقد أثرت الحداثة وثورة الاتصالات والعصرنة التي تزامنت مع الاتجاه الي العولمة علي مقوماته وخصائص المجتمع الأهلي والتي كانت تتناسق وتتكامل للمحافظة علي وجوده واستمراريته بشكل منتج يقنع أفراد المجتمع بالانتماء اليه والمحافظة عليه وذلك للأسباب التالية:
ــ المجتمع الأهلي يعمل علي اقصاء ما يعطل توجهه، ويستعمل في عملية الاقصاء هذه شتي أنواع العنف وصولاً الي القتل الرمزي بهدر الدم.
ــ المجتمع الأهلي محكوم بروابط ومحددات أولية تحيل الانسان فيه الي انتماءاته الأولية التي لا ارادة له فيها.
ــ المجتمع الأهلي يعمل علي ترسيخ روابطه وانتماءاته الأولية وتقويتها بما يتعرض له من عمليات تنشئة اجتماعية متولدة من عمل مؤسسات أهلية، أو حكومية، تعيد انتاج عناصر انتماءاته، وترتب أولوياتها بما يخدم توجهات هذه المؤسسات، ان كانت مجسدة لمتحدات اجتماعية تتميز باختلافاتها الدينية، المذهبية، أو الاثنية؛ أو معبّرة عن توجّه أجهزة الحكم في الحفاظ علي ما هو قائم، وترسيخه بتعميق جذور ايديولوجيتها المبنية علي الوفاق والتوافق المنتجين بطبيعتهما للانقسام ومن ثم للتسوية.
ــ المجتمع الأهلي لم يعد قائماً بخصائصه الناصعة، ومقومات وجوده المعزولة عن منطق العصر وموجبات العصرنة. وهو بالتالي تعرض للتأثر بالحداثة المنتجة في الغرب، فوقع في دوامة من المتناقضات أدت به الي التخبط والبلبلة.
اذن يمكننا الاستنتاج ببساطة أن المجتمع الأهلي، لم يعد مجتمعاً أهلياً، لأن مقوماته لم تعد قادرة علي الثبات في وجه رياح التغيير، ولا علي تلبية متطلبات الحياة الحديثة، وبات من الضروري أن يتحول الي مجتمع مدني بخصائصه ومتطلباته وعناصر وجوده. المجتمع المدني في زمن العصرنة
ان المجتمع المدني في زمن الحداثة والعصرنة هو أكثر استجابة لمتطلبات اتجاه العالم اليوم نحو العولمة بجوانبها الايجابية التي تنطلق من التفاعل الحضاري مع مخرجات الثورة الصناعية وثورة الاتصالات والحوار الحضاري بين الشعوب المعبرة عن فضاء واسع من حرية الاختيار في اطار هذا التفاعل وبحسب الدكتور محمد عابد الجابري (أن المجتمع المدني هو أولا وقبل كل شيء مجتمع المدن، وان مؤسساته هي التي ينشئها الناس بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فهي اذن مؤسسات ارادية أو شبه ارادية يقيمها الناس وينخرطون فيها أو يحلوّنها أو ينسجون منها، وذلك علي النقيض تماما من مؤسسات المجتمع البدوي /القروي التي تتميز بكونها مؤسسات طبيعية يولد الفرد منتمياَ اليها ومندمجاَ فيها ولا يستطيع الانسحاب منها مثل القبيلة والطائفة.)(انظر محمد عابد الجابري ومحمد محمود امام :التنمية البشرية في الوطن العربي :الأبعاد الثقافية والمجتمعية،سلسلة دراسات التنمية البشرية (2)،ك1،1995،بدون مكان الطبع، ص72 ). وعليه فإن المجتمع المدني كمفهوم ينهض علي عناصر أساسية هي باختصار:
1 ــ الشعور والوعي بالانتماء الي المجتمع والدولة بوصفهما دائماً في طور التشكل من الوجهة المعيارية. نتيجة الأنشطة التي يقوم بها الانسان نفسه، بالوعي والادراك والتنظيم الاجتماعي باعتبارها، جميعاً، عوامل أساسية في تحول المجتمع من طبيعته الأهلية الي حالته المدنية، المرتكز علي أساس الانتماء المشترك للناس جميعاً علي اختلاف انتماءاتهم الفرعية الي (المواطنة) الذي يتصدر الانتماءات جميعاً دون أن يلغيها.
2 ــ المراقبة والمساءلة بما تتيحه الديمقراطية كنظام حكم ومنهج سلوك لابقاء الممارسة العملية في ما هو متشكل فعلاً وواقعاً علي طريق التوجه المعياري وفي ما يمكن أن يكون، والعمل بموجب هذا التوجه في الممارسة العملية الفردية بما يعني الحقوق والواجبات والعمل بموجبهما حسب ما تقتضيه المواطنة ويفرضه الحس المدني في العلاقة مع الذات ومع الآخر.

صناعة المجتمع المدني
مما لاشك فيه أن تنظيمات المجتمع المدني هي تنظيمات (وضعية) وليست (طبيعية )فهي من صنع الانسان وتقوم بناء علي حاجته اليها، وتختفي أو تستبدل متي ما انتفت حاجة الناس اليها أو وجدوا حاجة في استبدالها. لذلك فهي تنظيمات أنية وحاجوية في نفس الوقت تخضع لقوانين التطور الاجتماعي، وليست أزلية ولا دائمة، وهي تشمل قطاعا واسعا من الأنشطة تبدأ بمجال الخدمات بمختلف أنواعها وأشكالها من صحية وثقافية ( والخ ) وتنتهي بالمجالات السياسية التي تختص بها عادة الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخري(انظر نفيس صادق، حالة السكان في العالم 1999، صندوق الأمم المتحدة للسكان، نيويورك 22/أيلول /1999،ص46) . وعليه فإن التجانس بين أفراد أو بين القائمين علي مؤسسات المجتمع المدني أمر ضروري ومطلوب (انظر شرف الدين، فهيمه،"الواقع العربي وعوائق تكوين المجتمع المدني"، مجلة المستقبل العربي، ع 278، 2002، ص36 ــ 48 )، وذلك لان هذه المؤسسات هي تجمعات تحاول المساهمة في الحفاظ علي مجتمع متحضر ويدعمها تمويل خاص وتشمل المؤسسات التعليمية والخيرية ومنظمات الصحة والخدمة الاجتماعية والمنظمات الدينية والثقافية( انظر اقبال حسون القزويني، المنظمات غير الحكومية ودورها في بناء المجتمع المدني، المجلة العراقية لحقوق الانسان، ع 6، 2002، ص 18ــ 29). وبما أن الدولة العصرية منوط بها تنظيم أحوال المجتمع في شتي المجالات، اذن يمكننا القول إن صناعة المجتمع المدني لابد أيضا أن تتم باشراف وتوجيه الدولة باعتبارها المسؤولة عن تنظيم وقيادة وتوجيه المجتمع. ويكون دور مؤسسات المجتمع المدني هو تنظيم مجال علاقة الدولة بالفرد حصرا وليس بأية جهة أخري غيرها..

الانتقال من مجتمع أهلي الي مجتمع مدني
في دول العالم الثالث أو الدول التي ترغب شعوبها أو أنظمة الحكم فيها بالسير باتجاه مجتمع ديمقراطي متحضر يتناغم مع الحداثة و العصرنة التي تشهدها البشرية لابد من بذل الجهود لنقل المجتمع الأهلي المتنفذ فيها الي مجتمع مدني حيث أن المجتمعات ذات الأنظمة الديمقراطية يتم تداول الأنشطة فيها من قبل مؤسسات رسمية ومدنية وأهلية تعمل علي ابقاء المجتمع في حالته التي تتناسب مع توجه الدولة وايديولوجيتها، والعمل علي نقل الفرد من تبعيته لروابطه الأهلية الي الانخراط، بالارادة والوعي، في روابط مجتمعية مدنية من خلال ما يلي:
ــ قيام المؤسسات المدنية في المجتمع بالعمل علي انشاء الوعي بالذات، ووعي الانخراط في مجموع تتأمن فيه مصلحته، ويحس فيه بحرارة الانتماء المتولدة من الاحساس بالارادة الواحدة والمصير المشترك الواحد المتناسبين بدورهما مع توسيع مساحة المصلحة العامة.
ــ ترسيخ عناصر المجتمع المدني، ان كان علي مستوي الممارسة اليومية بما تتيحه الديمقراطية في النظر الي الذات والي الآخر، وفي قبول حق الاختلاف تحت سلطة القانون وحكم المؤسسات ومنطق المساواة كما تقررها العدالة الاجتماعية، أو كان علي مستوي صوغ ما يمكن أن يحوّل الفرد الي مواطن يدرك تماماً ما تعنيه المواطنة، وما يفرضه الحس المدني في الوعي والممارسة.
ــ دعم وتقوية المؤسسات التي تشكل عناصر المجتمع المدني. مثل النقابات والمنظمات الثقافية والروابط والاتحادات المدنية التي تأخذ من الانسان وحدة اهتمامها مهما كان توجهه، وتنصرف اليه من أجل تعزيز موقعه كصاحب مصلحة في التغيير الي ما هو أفضل لمصلحته ولمستقبله باعتباره مواطناً في النظر الي ذاته، وفي نظر الآخرين اليه، وفي نظرته الي الآخرين دون مفاضلة لأحد علي آخر الا بما يتيحه موقعه ودوره في المجتمع، وبموجب هذه الاعتبارات بالذات (انظر حسين علوان، الديمقراطية واشكالية التعاقب علي السلطة، مجلة المستقبل العربي،ع/236/ت1/1998ص101 ).
ــ الاهتمام الجاد والفعال بالتنمية الاقتصادية وتامين متطلبات التقدم الحضاري والعلمي الذي يؤهل البلد للاستفادة من منجزات العلم والتكنولوجيا وتسخيرها لصالح تحسين ظروف أفراد المجتمع بتنمية وتطوير بناه التحتية، والتغلب علي مشاكله الاجتماعية والاقتصادية خصوصا تلك المتعلقة بالأمية والفقر، والا فإن عيش بعض المجتمعات في ظل أوضاع اقتصادية وظروف اجتماعية سيئة لا يؤهلها لبناء مجتمع مدني متطور بسبب ضعف الوعي الشعبي، وأحيانا فقدانه الاحساس بضرورة الاقدام علي فعل كهذا.

الخاتمة
لقد أثرت الحداثة وثورة الاتصالات والعصرنة التي تزامنت مع الاتجاه الي العولمة علي مقوماته وخصائص المجتمع الأهلي والتي كانت تتناسق وتتكامل للمحافظة علي وجوده واستمراريته بشكل منتج يقنع أفراد المجتمع بالانتماء آليه والمحافظة عليه لأن مقوماته لم تعد قادرة علي الثبات في وجه رياح التغيير، ولا علي تلبية متطلبات الحياة الحديثة، وبات من الضروري أن يتحول الي مجتمع مدني بخصائصه ومتطلباته وعناصر وجوده.
ان المجتمع المدني في زمن الحداثة والعصرنة هو أكثر استجابة لمتطلبات اتجاه العالم اليوم نحو العولمة بجوانبها الايجابية التي تنطلق من التفاعل الحضاري مع مخرجات الثورة الصناعية وثورة الاتصالات والحوار الحضاري بين الشعوب المعبر عن فضاء واسع من حرية الاختيار.
اذن فان خلاصة القول إن دول العالم الثالث أو الدول التي ترغب شعوبها أو أنظمة الحكم فيها بالسير باتجاه مجتمع ديمقراطي متحضر يتناغم مع الحداثة والعصرنة التي تشهدها البشرية لابد من بذل الجهود لنقل المجتمع الأهلي المتنفذ فيها الي مجتمع مدني يواكب متطلبات الحداثة والعصرنة التي يسير علي ايقاعها عالم اليوم...!


-------------

جريدة الزمان العراقية - 21 مارس/ آذار 2012

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا