Sunday, November 04, 2012

بين عالمية حقوق الإنسان والعولمة


بين عالمية حقوق الإنسان والعولمة

مسألة: هل تختلف العالمية في مجال حقوق الإنسان عن العولمة؟

أجاب بعض الأخصائيين قائلين: إن العالمية في هذا المجال شيء مختلف عن العولمة تماماً، وذلك للفوارق التالية:

أولاً: إن العالمية في مجال حقوق الإنسان لا تعمل على إنهاء دور الدولة، ولا تسعى للتقليل من شأنها، بل العالمية هذه تضع على الدولة التزامات معينة، وهي تحتاج إلى وجود دولة لتنفيذ هذه الالتزامات.

وهذا يعني على العكس من العولمة التي تحد من دور الدولة وسلطاتها، كي يضعف تأثير الحدود السياسية والسيادة الوطنية.

ثانياً: إن العالمية في مجال حقوق الإنسان تدعو للانفتاح على الآخرين وتأمر بالأخذ والعطاء معهم، فإنه كلما يتم التعاهد أو التوافق بين المجتمع الدولي على أهداف محددة، أو مفاهيم معيّنة، مقابل التزامات يقبلها الجميع، تأمر بالمشاركة وتعاون الدول فيما بينها لتطبيقه.

وهذا أيضاً على العكس من العولمة التي تحاول تسييد أوضاع معينة على العالم أجمع، أي: إنها تعتمد على التحول من الخارج.

مثلاً: إن الاقتصاديات مما لا يمكن العمل من داخل الدولة على تغييرها، لذلك ترى العولمة أنه لابد من العمل من خلال المؤسسات الدولية والضغوط الخارجية من أجل تحويل هذه الاقتصاديات وإدماجها في النظام العالمي، وليس اعتماداً على التحول التدريجي الذاتي، وهذا هو اختراق صريح للآخر، وسلب فاضح لخصوصيته.

ثالثاً: إن العالمية في مجال حقوق الإنسان معناه: الالتزام بالمفاهيم التي أقرّها المجتمع الدولي إقراراً من خلال أكثر من مائة اتفاقية ومعاهدة، وإعلان رسمي، وبيان دولي، وعدّ ما جاء فيها من حقوق الإنسان بأنه كل لا يتجزأ ومجموعة لا تتبعّض.

وهذا أيضاً على العكس من العولمة التي تسعى في مجال حقوق الإنسان إلى تعميم مفهوم حقوق الإنسان في ثقافة الدولة الأقوى، والتي هي حالياً ثقافة أمريكا التي تزعم أنها رائدة الثقافة الفضلى المؤهلة للهيمنة على العالم كلّه، وعلى جميع الثقافات وبرغم من أصحابها.

ولكن العولمة والعالمية في الإسلام فتشتمل على النمو والازدهار في مختلف مجالات الحياة من دون تضرر أحد حيث تبتني على أسس إنسانية منها: قاعدة لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة الضمان، وقاعدة السلطنة[1].

بلاء التلوث والتضخم

مسألة: إن عمليات تلويث البيئة التي أقلقت الأوساط العلمية المسؤولة، ليست على الظاهر من نتائج العولمة في نفسها، وإنما هي نتيجة عارضة من سوء الاحتراز القانوني والصناعي الذي يشجع على انتهاكه مادية العولمة الغربية، وذلك لأننا نجد أن كل المصانع سواء كانت في العراق أو الهند أم في بريطانيا أو أمريكا، فإنها جميعاً تساعد إلى قدر مّا في التلوث البيئي.

وكذلك يكون حكم تصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة، فإنّها أيضاً ليست على الظاهر من نتائج العولمة في حدّ ذاتها، وإنما هي نتيجة حاصلة من جشع التجار، وطمع الشركات التي تشدّده مادية العولمة الغربية، ومن ضعف قانون الرقابة الصناعية والتجارية المفروضة على الصناعة والتجارة من جهة العولمة الغربية، وأما في الإسلام فقد شدد الرقابة عليهما بواسطة معنويات عولمته العادلة.

أما التضخم الاقتصادي والنقدي فإن نسبة مئوية منه يكون على الظاهر من نتائج نمو متطلبات الإنسان وتوسعها بصورة عامة، وهذا النمو والتوسع ليس في نفسه من مختصات عولمة دون أخرى، كما إنه ليس في حد ذاته من خصائص مجتمع دون آخر، وذلك لأن زيادة متطلبات الفرد أينما كان مسكنه وموطنه ومهما كان صنفه وجنسه، هي إحدى أسباب التضخم من غير أن يقتصر على عولمة دون أخرى، ولكن المادية الصرفة للعولمة الغربية تساعد على تشديده، بينما المعنويات الموجودة في العولمة الإسلامية تحدّ منه وتقلصه إلى أدنى درجاتها الممكنة.

وأما البطالة في المجتمع الإسلامي، أو البطالة عموماً في كل المجتمعات، فجزء منها قد ترتبط بالتطور السريع للآلة ولكن معظم البطالة نتيجة القوانين الكابتة للأنظمة الغربية والشرقية التي أخذت المجتمعات تطبقها، وهي غير الموجودة في الإسلام، فإن حرية العمل في الإسلام أكثر بكثير مما هو في غير الإسلام.

هذا ولا يخفى أن تعريف البطالة يختلف في المجتمع الإسلامي عنه في المجتمع الغربي، فربة البيت ـ مثلاً ـ قد يعتبرها النظام الغربي عاطلة عن العمل، بينما في النظام الإسلامي لا يعتبر ربة البيت عاطلة عن العمل، بل إن عملها هو: إدارة البيت، وتربية الأبناء وإسعاد الزوج، وهذا من أفضل الأعمال وأجمل المشاغل اللائق بحالها الذي يمكن للمرأة أن تعمله أو تشتغل به، مع إمكان أن تعمل خارج البيت أيضاً مراعية للموازين الشرعية.

هذا وقد أخذ بعض الكتّاب بنقد العولمة الحديثة، ونسبوا مشاكل الإنتاج والتصنيع وظهور الآلة الحديثة، والتلوث البيئي المدمّر والبطالة الهادمة، إلى أنه جزء من إفرازات العولمة الحديثة وذلك من دون الالتفات إلى أن هذه المشاكل في حدّ ذاتها كانت موجودة قبل العولمة بزمن طويل، وإن أسبابها الاقتصادية أو القانونية أو الحكومية معروفة سلفاً كما أوضحنا، فإن نسبة مئوية مرتفعة منها، ناشئة من القوانين الوضعية الكابتة التي قننها الغرب، وسارت عليها كافة حكومات العالم، والتي هي على خلاف قوانين الإسلام التي تفسح المجال لحرية العمل والتجارة بالشكل المفيد للمنتج والمستهلك، فإن نظام اقتصاده قائم على الأخلاق والعقل، والقسط والعدل.

العولمة وحقوق الإنسان الاقتصادية

مسألة: لقد قال الكثير من خبراء الاقتصاد مبشرين: بأن في ظل العولمة الجديدة، وتحرير قوى التنافس والتسابق، سيتم توجيه الموارد البشرية والمادية إلى المواقع الإنتاجية، أي: إلى ما هو معروف بالاتجاه الكفؤ للاقتصاد، ثم يترتب على ذلك تزايد مستمر في حركة الإنتاج وعلى الصعيد الدولي والعالمي بما يلبي حاجيات البشر بشكل أفضل وصورة أجمل.

هذا هو ما قاله خبراء الاقتصاد والعولمة الاقتصادية، لكن الذي حدث في ظل العولمة الغربية خارجاً هو عكس ذلك، فقد اتجه العالم نحو استقطاب شديد في الفقر المدقع، الذي اتسعت دائرته بصورة رهيبة، وراحت تلتهم بلهواتها الكثير من سكان المعمورة، فقد أصبح اليوم يعاني من الجوع ويحنّ للقمة الخبز ما يقرب من بليون إنسان، وأصبح بليونان آخران من الناس يعانون من سوء التغذية ويئنون من آلامها وآثارها.

هذا وقد اتجه القسم الآخر من العالم اليوم إلى تركيز شديد في الثروة وتكديس أعمى للأموال، وذلك على مستوى الدول ومستوى الأفراد معاً، وداخل الدولة الواحدة أيضاً، فإن ما يقرب من خُمس سكان العالم الذين يعيشون في أعلى البلدان دخلاً، وأكثرهم مورداً، يحصلون على ما يلي:

68% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

82% من صادرات العالم.

86% من الناتج الإجمالي.

74% من خطوط الهاتف في العالم.

بينما ما يقرب من خُمس السكان الذين يعيشون في أشد البلدان فقراً وأخفضهم دخلاً يحصلون على 1% فقط من الناتج الإجمالي العالمي.

هذا الفرق الطبقي الكبير يرجع لعدة عوامل أهمها هو ما يلي:

العامل الأول:

اندراج العولمة الغربية تحت هيمنة الأسواق وسيطرة السوق على عملية العولمة، واستغلالها لزيادة الربح مهما كان مصدره، من غير احتراز لما يعكسه ذلك من آثار جانبية على حقوق الإنسان وكرامته.

و في هذا المجال صدر تقرير التنمية البشرية المنتشر قبل عامين يقول: (إن الآثار الجائرة المترتبة على العولمة، التي توجهها الأسواق ويوجهها تحقيق الربح، أوسع وأعمق من البيانات المذكورة أعلاه والإحصاءات المزبورة آنفاً حيث إنها تمس جميع جوانب حياة الإنسان وتخدش كرامته).

هذا ويضيف التقرير قائلاً: (إن الرعاية التي تمثل قلب التنمية البشرية غير المرئي، مهددة بالإحباط والانهيار، وذلك لأن السوق العالمية التنافسية الموجودة الآن تفرض ضغوطاً على ما يلزم عمال الرعاية من وقت وموارد وحوافز، وهي أعمال بدونها لاينتعش الأفراد، ومن الممكن بل المحتّم أن ينهار التماسك الاجتماعي بانهيار الرعاية المطلوبة).

ثم إنّه مما لا شك فيه أن سوف تؤثر هذه الأوضاع المزرية، على تراكم القدرات الإنسانية للمجتمع وتكدسها التي تعتبر الآن أهم للتنمية من تراكم رأس المال وتكدّسه.

العامل الثاني:

سيطرة التطور التقني والفني على مجالات العمل والعمالة، وظهور الآلات المتطورة على الساحة، الموفّرة للوقت والجهد الإنساني، الأمر الذي دعا المشاريع العملاقة التي تطبق أساليب العمل الفني والتقنيات إلى إلغاء الوظائف أكثر من إيجادها، والى إجراء عمليات تصفية عمالية ـ إن صح التعبير‎ ـ وذلك باستمرار على نطاق واسع وفي مختلف الشركات العملاقة، ومعلوم أن هكذا تصفيات تؤدي إلى إلغاء كثير من الوظائف، وإلى خفض مدهش في عنصر العمل وتقليص الأيادي العاملة. مثلاً في أمريكا وقبل خمسة أعوام صدر عن منظمة العمل الدولية تقرير سنوي عن العمالة لعام واحد يقول: تم القضاء بالفعل على ما يقرب من مليوني وظيفة في قطاع الصناعات التحويلية، بينما كان قبل عشرين عاماً تقريباً يعمل بها مائة وعشرون ألف عامل، ولكن انخفض عددهم بعد عشر سنوات إلى عشرين ألف عامل فقط، مع إنهم كانوا ينتجون نفس القدر من المنتجات بلا زيادة ولا نقيصة.

ومن المعلوم: إن هذا التخفيض إذا لم يوفر أعمالا بديلة سوف يؤدي إلى نتائج غير محمودة، مثل حصول جيش من العاطلين، ومثل تخفيض أجور ومرتبات العمال والموظفين، ومثل تقلص الكثير من المزايا والحقوق التي كانوا يحصلون عليها من قبل، وغير ذلك.

العامل الثالث:

تضخم الأرباح لصالح أفراد معدودين، فإن الأرباح الحاصلة عن التقدم التقني الفني، كان في السابق يتقاسمها جميع العاملين في الاقتصاد القومي، مع اختلاف النسبة فيما بينهم، بينما الأرباح الحاصلة عن الثورة العلمية والقفزة الصناعية اليوم يتقاسمها عدد قليل جداً من الأفراد، وهم رجال الإدارة العليا، وحملة الأسهم، وعمّال المعرفة والتقنيات فقط.

ومن الطبيعي حينئذ أن ينتج ذلك زيادة مستمرة في طبقات ما تحت خط الفقر، وتهميش هذه الطبقات، وتركيز الثروة في أيدي طبقة قليلة من الناس.

ومن هنا اتضح أنه إذا كانت حقوق الإنسان السياسية والمدنية قد استفادت نسبياً من عصر العولمة الغربية ـ كما سبقت الإشارة إليه‎ ـ فإن حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية لم تأخذ نفس القدر من الاهتمام، بل أصبحت مهضومة بين عجلات الثروة والاقتصاد. نعم إن من حق الإنسان أن يتخلص من الفقر، ويتنعم بما أنعم الله تعالى عليه في الحياة، ويعيش وسط مجتمع متوازن، لا مجتمع طبقي متضارب، وفي أجواء سليمة يسودها العدل والقسط، لا أجواء سقيمة يتراقص فيها شبح الظلم والجور، ولذلك سوف تظل العدالة الاجتماعية وتوازن المجتمع قيمة من القيم، التي ينبغي للمجتمعات الدولية الاعتصام بها، فتوازن المجتمع والعدالة الاجتماعية أمر ضروري لإيجاد الاستقرار الحقيقي وإرساء الأمن، وهو أيضاً شرط أساسي لإقامة مجتمع متوازن ومتعادل.

وهذا كله متوفر في العولمة الإسلامية.

لا لملكية الدولة

مسألة: إن هناك شبهة اقتصادية تقول: إن كل تغيير في شكل ملكية وسائل الإنتاج لصالح الملكية الخاصة، تسبب زيادة البطالة، وهذا ليس أكثر من شبهة، إذ هو أمر غير ثابت، بل هو أمر غير صحيح، وذلك لأنه لو كان كذلك لما فشل النظام الاشتراكي والاقتصاد الشيوعي وأدّى إلى سقوط الاتحاد السوفيتي العملاق، الذي كان قد تربّع على ملكية الدولة والقطاع العام، وألغى الملكية الشخصية والقطاع الخاص، فإن الخبراء السياسيين والاقتصاديين يؤكدون على أن من أهم عوامل سقوط الاتحاد السوفيتي وفشله في كل المجالات هو تغيير الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى صالح الملكية العامة، وكان فشل الاقتصاد الشيوعي والنظام الاشتراكي، وسقوط الاتحاد السوفيتي، تجربة ميدانية حيّة اتضح من خلالها حكمة الإسلام في تقريره الملكية الشخصية، واحترامه لها أيما احترام.

إذن: فلو كان نظام الملكية الشخصية والقطاع الخاص مما يزيد في البطالة وضعف الإنتاج وقلة الإبداع، لأنكره الإسلام ولم يقرّه، ولتوجّه الاقتصاد الإسلامي إلى تشجيع القطاع العام وملكية الدولة ـ كما يسمى في العرف الحديث‎ ـ بدلاً من التأكيد على الحرية الاقتصادية واتجارية، واحترام الملكية الفردية والقطاع الخاص.

ومن جانب آخر نجد أن أي تغيير في ملكية وسائل الإنتاج من القطاع الخاص والملكية الشخصية، إلى القطاع العام وملكية الدولة، سيغير من قوى العمل ويؤثر في أساليب الإنتاج تأثيرا سلبيا لا محالة، علماً بأن قانون التغيير هذا لا يختص بالعولمة بقدر ما يختص بالظروف المحلية، والتغيرات الثقافية والإدارية، والسياسية والاجتماعية المرافقة له، بل إنا نجد أن ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالسوق العالمية، أو بأي نوع من أنواع الاقتصادات الأخرى، سيوجب النمو والازدهار وعدم البطالة.

كما إن الدعم الحركي للسوق، مع قطع النظر عن الدعم المالي والنقدي، أو السلعي والفني، الذي يفرضه السوق المتحرك للعناصر الاقتصادية المرتبطة به، فإن الدعم هذا يعيد للسوق حيويته من جديد، وهو الذي رأيناه قد حدث بالفعل عندما انهار اقتصاد كل من الدول الثلاث: كوريا وماليزيا وإندونيسيا، فإن اليابان وكذلك أوروبا دعمتها بسرعة، فاستعادت تلك الأسواق حركتها ونشاطها ووقف اقتصادها للمرة الثانية منتصباً على قدميه.

التخلف الاقتصادي لماذا؟

مسألة: إن التخلف الاقتصادي هو بالدرجة الأولى نتيجة الإعراض عن منهج السماء في الاقتصاد، ومنه يعرف أن ما يقال عن العولمة: بأنها تسبب التخلف الاقتصادي في المجتمع والأمة، فليس هو بصحيح، وان كانت العولمة لاتخلو من تأثير لها فيه، وذلك لأن حلقات الترابط بين صناعة الحديد مثلاً وصناعة النفط لو وجدا معاً في بلد من البلدان فإنها ترتبط بالسوق العالمية، ولا تقتصر على الدول الإسلامية وغيرها من الدول الأخرى.

بل يمكن القول: بأن التخلف الاقتصادي المشهود ليس هو بعد الإعراض عن منهج السماء إلاّ نتيجة صراع الدول الصناعية الكبرى لاحتواء الأسواق العالمية، وذلك قبل أن توجد العولمة، فإنها حصيلة المؤتمرات الثنائية والعامة، والمؤسسات التجارية المتولدة من تلك المؤتمرات، مثل المنظمة العالمية للتجارة، وغيرها من المنظمات الاقتصادية الأخرى وذلك مع قطع النظر عن الأبعاد الإنسانية والأخلاقية فيها.

كما انه يمكن أن ينسب أي تخلف اقتصادي ملموس في الأوساط العالمية مضافا إلى ما ذكر من: الإعراض عن منهج السماء، وصراع الدول لاحتواء الأسواق، إلى سوء الإدارة الاقتصادية وتردّيها، أو فقدان المواد الأولية وقلتها، إذ هي من مقومات حيوية الاقتصاد، ونموّه وازدهاره كما هو واضح.

أسباب و مسبّبات

مسألة: هناك شبهة اقتصادية أخرى تقول: إن العولمة تكون سبباً في تصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة إلى البلدان النامية، فهو ـ كما سبقت الإشارة إليه ـ أمر يرتبط بفقدان الرقابة الصناعية الصحيحة، وضعف القانون الصناعي الدولي وعدم اشتماله إلى مبادئ إسلامية إنسانية مثل (مبدأ لا ضرر ولا ضرار)، ولا ربط له بالعولمة في الجملة، فإن تلك الدول الداعية للعولمة أيضاً لا تخلو من تلوث بنفسها.

مثلاً: جنون البقر في أوروبا الذي أدى إلى الخلل الاقتصادي حيث تم إتلاف الملايين من البقر المحتمل إصابته بهذا المرض.

ومثل: تلوث الدجاج في هونغ كونغ الذي أدى أيضاً إلى إتلاف الملايين من الدجاج المصاب وقد تم إتلافها بأمر من الرقابة الصناعية والإنتاجية في كل من البلدين.

وعليه: فإن التلوث ذاته هو أحد إفرازات التطور الصناعي في كل بلد من البلدان، ولايتوقف على العولمة الحديثة، أو العولمة الاقتصادية، وان كان لا يبعد تأثير سقم العولمة كالعولمة الغربية، وصحتها كالعولمة الإسلامية، في ازدياد حجم التلوث وقلته.

تراجع أهمية النفط

ومن الشبهات الأخرى: تراجع أهمية النفط وهبوط أسعاره، فهل هذا نتيجة العولمة الاقتصادية؟

إن تراجع أهمية النفط الإسلامي وهبوط أسعاره هو أمر غير خاضع 100% للعولمة، وإنما هو خاضع بعض الشيء لقانون العرض والطلب ولمؤامرات عالمية ضد البلاد الإسلامية، ومن الواضح لدى الجميع: إن العرض كان ولا يزال أكثر بكثير من الطلب الموجود على الساحة العالمية، وتبعاً لكثرة العرض المؤدية إلى تراجع أهمية النفط الإسلامي، تراجع سعر النفط وتدني قيمته أيضاً، كما أشارت إلى ذلك منظمة الأوبك، التي هي أكبر مؤسسة نفطية تضم الدول الإسلامية وغيرها بما فيها الدول الداعية للعولمة، حيث قد اعترضت على تدني سعر النفط إلى مستويات بسيطة، واعترفت بأنه لم يعد للنفط أي سلطة نافذة كالسابق، وذلك منذ سنين حرب الخليج الأولى، يعني: قبل مجيء العولمة إلى الساحة، واطرداها على الألسن.

كما ينسب هذا التراجع في الأهمية والقيمة من جانب آخر إلى توفر وسائل الطاقة البديلة للنفط في العالم، كالطاقة المستفادة من الشمس أو الماء، أو ما أشبه ذلك.

ارتفاع فواتير الغذاء وما أشبه

ومن الشبهات المطروحة أيضاً ما يشاهد من ارتفاع فواتير الغذاء والمواد الأولية والصناعات الثقيلة، لكنه أيضاً لا يرجع كلّه إلى العولمة، وذلك لأن هذا الارتفاع إنما هو بإزاء ارتفاع الدخل الفردي، وما ذلك إلاّ ضريبة من ضرائب التطور، وحاجة من حاجيات الدولة للنمو الصناعي والتقني، والتي تمثل بدورها حاجة الإنسان في تلك الدولة التي يعيش فيها.

هذا ولا يخفى: إن فواتير الغذاء مرتفعة أساساً في دول العولمة نفسها أيضاً وذلك من قبل مجيء العولمة.

وعليه: فإن الدعوة لأي وحدة اقتصادية، لا يمكن أن تقوم إلاّ إذا توازن الدخل القومي مع مستويات المعيشة والمصروف اليومي، فعدم التوازن المخل بالحياة اليومية، والمشاكل الناجمة عنه، إنما ظهرت من الإعراض عن ذكر الله تعالى، ومن عدم تطبيق قوانين السماء في الاقتصاد، قال سبحانه: ((ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً)) [2].

ولا بأس بالإشارة هنا إلى أن الشركات العملاقة متعددة الجنسيات ودول العولمة نفسها، تنسب ارتفاع الفواتير هذه إلى ارتفاع سعر النفط، المتعمد من قبل منظمة الأوبك، وقد حدث هذا الارتفاع لأول مرّة قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً، وذلك عندما تمّ رفع سعر البرميل الواحد إلى ضعفين مرة واحدة، ولكن هذه النسبة غير صحيحة، فإن النفط الخام لا يباع اليوم بقيمته الواقعية بل هو دون ذلك بكثير مقابل التضخم الموجود، والارتفاع الملحوظ.

العولمة الاقتصادية والخوف منها

مسألة: ليست العولمة الاقتصادية الغربية وتبعاتها السيئة أصبحت مخيفة للمسلمين فقط، بل حيث إنّ الطبيعة الماديّة البحتة، المنطوية عليها تيار العولمة الاقتصادية كثيرة المخاوف، أخذ الخوف منها يتسرب في أوساط المثقفين والمفكرين المستقبليين حتى من نفس أمريكا أيضاً.

ومن الواضح إن الظالم يصبح ضحيّة لطيشه على طول المدة، إذ لا شك في أن هذه القوّة بهذا الشكل تدمّر القيم الإنسانية، والمثل الأخلاقية، وتحيي الأنانيات والعداوات، وتؤدي إلى التنكر وهزيمة الذات أمام القوة التي يطلقها هذا التيّار.

وقد ظهر للعيان كيف أنّ هذا التيار المعارض أخذ ينمو حتى في داخل أمريكا وأوروبا واليابان، وهو يتربص بالعولمة الاقتصادية الغربية الفرصة المناسبة للقضاء عليها.

نعم في الحديث الشريف: «يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم»[3]، كما قرأنا ذلك في التاريخ البعيد، ورأيناه في العهد القريب.

ومما رأيناه في عصرنا القريب: تحطم الاتحاد السوفيتي وسقوطه مع أنها كانت دولة كبرى، وقوّة عظمى، وهذا هو نتيجة الظلم ومخالفة الفطرة الإنسانية.

ومما قرأناه في التاريخ البعيد: أنه كيف خسف الله بقارون وأمواله، وأغرق فرعون ورجاله؟ وكيف أن بني اُميّة اُبيدوا وقُتلوا؟ وكيف نُبشت قبورهم وأحرقت عظامهم وذري رمادها في الهواء؟ وكذلك يكون مصير الظالمين.

من تبعات العولمة الاقتصادية الغربية

مسألة: لقد أنتجت العولمة الغربية محيطاً خانقاً وبيئة ضاغطة، على إثر السياسات المتخذة والبرامج المفروضة من قِبل ما يسمونه بمؤسسات العولمة الدولية، مثل المنظمة العالمية للتجارة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومؤسسات مالية دولية أخرى، كهيئة المعونة الأمريكية وغيرها مما أصبحت مسؤولية الدولة في البلدان الإسلامية مجرد التطبيق الحرفي لما تفرضه تلك المؤسسات، وتتطلبه الشركات متعددة الجنسيات حتى تستثمر في البلدان الإسلامية.

إن الدولة في بلدان العالم الثالث أصبحت تعمل اليوم مجرد إدارة للأزمة الاقتصادية، لأن إدارة الأزمة الاقتصادية في منطق الرأسمالية، يعني: تجنب تصاعد تراكم الفائض المتنامي للرأسمال غير المستثمر، أو ما يمكن استثماره لتوسعة النظام الإنتاجي، مما يكشف عن أن سياسات العولمة الاقتصادية: من تحرير التبادل التجاري، والتدفقات العالمية لرأس المال، والنسب العالية للفوائد، وتنامي الديون الخارجية، ليست إلا أموراً ابتكرها النظام الرأسمالي العالمي، لصيانة هذا النظام من الفشل حتى وإن كان ذلك على حساب البلدان النامية وحرمان شعوبها الفقيرة.

ولا بأس هنا بذكر أهم التبعات التي تحصل عليها البلدان الاسلامية من وراء العولمة كما ذكرها بعض الخبراء وهى كما يلي:

التبعة الأولى:

إن العولمة الغربية تغير ثقافة الاستهلاك وتبدل نمطها في البلدان الإسلامية إلى نمط الاستهلاك في البلدان الغربية، وإلى كثرة البذخ غير اللازم، وهو يؤدي إلى استنزاف الموارد المالية في البلدان الإسلامية، مضافاً إلى تزييف وجهة الطلب وخاصة عند الطبقات الغنية، التي تتميز عن غيرها من طبقات المجتمع بهوايتها لاقتناء كل ما هو مستورد، ورغبتها في جلب كل ما هو غالي الثمن، وهذه الصفة عند هذه الفئة الاجتماعية، شائعة بين الرجال والنساء، ورائجة بين الصغار والكبار، بلا فرق بين شراء آخر الأزياء من الملابس المصنوعة في الغرب، وبين اقتناء أحدث أنواع السيارات، وأجهزة الاتصال، وأجهزة الحاسوب، وأدوات التسلية، مضافاً إلى تزيين أركان المنزل وأرجاء البيت بالتحفيات الكمالية الغالية الثمن، واقتناء كل فرد من أفراد الأسرة سيارة وجهاز حاسوب وجهاز تلفزيون وهاتف وأجهزة تسلية أخرى من دون حاجة إليها وبلا أي مبرر.

التبعة الثانية:

إن العولمة الغربية تسبب تضاؤل أهمية النفط الإسلامي، كما نراه اليوم متضائلاً ويباع دون ثمنه الواقعي، ثم يسترجعون هذا القليل ثمناً للأسلحة التي تباع على المسلمين ليقتل بعضهم بعضاً، مضافاً إلى محاولتهم اكتشاف بدائل للنفط بسبب التقدم العلمي والتطور الصناعي، وقد أشرنا إلى جوانب من البحث في كتاب (ماذا بعد النفط؟).

التبعة الثالثة:

إن العولمة الغربية تؤدي إلى ركود الصناعات التحويلية والتبديلية في البلدان الإسلامية، وذلك لاعتمادها على السياسات الحمائية لفترة طويلة من الزمن، فتفتقد بسببه القدرة على المنافسة.

التبعة الرابعة:

إن العولمة الغربية تنتج ارتفاع فاتورة الغذاء المستورد للبلدان الاسلامية، وذلك لتحرير تجارة المواد الغذائية من سياسات الدعم للصادرات في دول المركز.

التبعة الخامسة:

إن العولمة الغربية تسبّب تلوث البيئة في البلدان الإسلامية، وذلك بتصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة من المركز إلى بلدان العالم الثالث، وبتصدير الصناعات الطالبة كثافة عالية في اليد العاملة مكان الكثافة العالية لرأس المال.

التبعة السادسة:

إن العولمة تسبب فقدان الترابط بين قطاعات الاقتصاد الوطني، وهو يؤدي إلى التخلف الاقتصادي في البلدان الإسلامية.

مثلاً: يصبح ارتباط قطاع الفحم الحجري في بلد ما بالمركز، أقوى من ارتباطه بقطاع النفط في نفس البلد، وهو نفسه يكون ارتباطه بالسوق العالمية للنفط بالمراكز أكثر من ارتباطه بقطاع الزراعة المحلي في البلد ذاته، وهكذا في غيرها.

التبعة السابعة:

إن العولمة تسبب في بعض البلدان الإسلامية كثرة البطالة وتزايدها، لأن تغيير ملكية وسائل الإنتاج إلى الملكية الخاصة على الطريقة الغربية، ينتج عدم توازن العرض والطلب، بازدياد الأول وقلة الثاني.

التبعة الثامنة:

إن العولمة تقلب قسما كبيراً من المنتجين المباشرين في البلدان الإسلامية إلى العامل المأجور وبعبارة واضحة تجعل دخلهم يعتمد على السوق فقط، من دون اتخاذ الإجراءات التأمينية العرفية، والاجتماعية القانونية، التي تضمن للفرد حقّاً مالياً في دخل ما، وذلك بغض النظر عن اعتبارات السوق وتقلباتها.

التبعة التاسعة:

من الواضح إن تزايد عدد السكان سريع في البلدان الإسلامية وذلك لتحريض نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) على كثرة التناسل والتوالد، وهو من أهم أسباب قوة الأمة الإسلامية، وقد أكد الإسلام أيضاً على الاهتمام بتربية الناشئة وتثقيفهم بالثقافة القرآنية الغنية، ولكنها مفقودة اليوم بين المسلمين فيلزم إرجاعها، وفي نظام العولمة الغربية يظل هذا الحجم الكبير من الكتل البشرية يعمل ويكدح، وينتج ويستهلك، لكن في ظل شروط رأسمالية كلاسيكية أو شبه كلاسيكية محروماً من المزايا الإسلامية التي أمر الإسلام بها لتضمين سعادته وترفيه عيشه.

التبعة العاشرة:

من المؤسف أن أنماط الإنتاج في البلدان الإسلامية المعاصرة لم تكن وفق الاقتصاد الإسلامي، وليس لها نمط موحد يعبّر عن الاقتصاد الذي جاء به القرآن الكريم والروايات الشريفة الذي هو أفضل اقتصاد عرفه العالم، حيث إنه يجمع بين النمو والازدهار وبين العدل والقسط، بل لها أنماط متعددة، مثل نمط الإنتاج الرأسمالي، ونمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي ونمط الإنتاج غير الرأسمالي، وفي بعضها نمط الإنتاج شبه الاشتراكي، أو شبه الشيوعي، فإن العولمة الاقتصادية الغربية تهدف إلى تصفية كل أنماط الإنتاج غير الرأسمالية، وتصفية جميع شروطها، حتى يسود نمط الإنتاج الرأسمالي الغربي وحده، وتسود شروطه وحدها وإن كان على حساب الآخرين.

التسلل من نقاط الضعف

مسألة: يلزم معرفة نقاط ضعف المستعمرين، فمثلاً إن سيطرة أمريكا على العالم في نظامها الجديد، وموقعها القوي في الاقتصاد العالمي ليس مطلقاً، بل هناك نقاط ضعف يمكن التسلل منه ومواجهتها بحكمة، وذلك لأن الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب.

مثلاً: إن مجمل اقتصاد أوروبا الموحدة ـ ‎على ما مر ـ أضخم من الاقتصاد الأمريكي، وشبه ذلك يكون اقتصاد منطقة شرق وجنوب شرق آسيا بصورة عامة، مضافاً الى أن مستقبل الاقتصاد الأمريكي غير مضمون، وذلك لأنه مازال يواجه مشاكل قاسية وصعبة قد تهدد نموه وازدهاره في المتقبل، ويمكن أن نعد من جملة تلك المشاكل: العجز في الميزان التجاري، وخصوصاً بالنسبة الى بلدان شرق آسيا الفائق على مائة وستين مليار دولار في السنة.

وكذلك المعاناة من ديون دولية متراكمة تزيد الألف مليار دولار.

وهناك مشاكل أخرى عديدة تنذر سلامة الاقتصاد الامريكي بالخطر، ومن أهمها: تصادم النظام الرأسمالي الموجود في الغرب مع الفطرة السليمة، والعقلانية الانسانية، لأنها تسخّر الإنسان في خدمتها، بينما النظام الاقتصادي الإسلامي يسخّر كل شيء لخدمة الإنسان مع الحفاظ على الملكية الفردية.

إن العجز في الميزان التجاري الأمريكي، كان من أسباب نمو الاقتصاد الصيني وازدهاره، كما وأدى إلى توسع الاستثمارات الأجنبية في أمريكا من قبيل الصين واليابان، وقد غزت بضائعهما الأسواق الأمريكية، وكذلك أدى الى شراء اليابان كثيراً من المؤسسات الصناعية والاقتصادية والخدماتية، والعقارات وغيرها من قطاعات الاقتصاد الأمريكي، مضافاً إلى ما كان لليابان من مبالغ كبيرة تتألف من ملايين الدولارات على أمريكا، وديون خارجية أخرى يتجاوز مجموعها عن ألف مليار دولار، كانت أمريكا مدينة بها لدول أخرى إضافة إلى اليابان، وكل هذه المشاكل الاقتصادية الصعبة تشكل خطراً مستقبلياً على سلامة الاقتصاد الأمريكي، فإنه وإن كان لأمريكا إمكان تحمل هذه الديون الباهضة نظراً إلى إجمالي الناتج القومي الأمريكي، الذي يقرب من أربعة آلاف مليون دولار، إلا أن هذه الديون وتلك المشاكل الخانقة سوف تبقى عائقاً للنمو السريع والازدهار القريب.

ومن هذا وأمثاله يظهر أن السيطرة الأمريكية على النظام الجديد، وموقعها البارز في الاقتصاد العالمي ليست حتمية غير قابلة للنفوذ، فيمكن مقابلته بالأساليب الصحيحة.

أمريكا ومقاليد العولمة الجديدة

مسألة: يلزم أن تعي الأمة الإسلامية ما يدور حولها حتى لا تهجم عليها اللوابس، ففي الحديث الشريف: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»[4].

وفي هذا الزمان أضحت مقاليد أبواب العولمة وأدواتها الرئيسية بيد الغرب وأمريكا بالذات، وهذه الأدوات والمقاليد تتخذ وسيلة لبلوغ الأهداف، وحيث إن منطق الاستعمار: الهدف يبرر الوسيلة، فلا تورع عن أن تكون الوسيلة غير إنسانية ولا أخلاقية، ومن هذا المنطلق فإن الأدوات قد تكون عسكرية وسياسية تارة، واقتصادية وتقنية تارةً أخرى، وفكرية وثقافية ثالثة، بل وقد تكون عبارة عن مراكز البحث والتحقيق أحياناً، وربما مراكز الخدمات الاجتماعية، فإن معظم مراكز البحث تكون مركزة وموجهة إلى بحث الأفضل، واختيار الأمثل، في هذا الاتجاه، ولا يخفى ما لهذا من الآثار الكبيرة، والنتائج المهمة.

لكني مع ذلك أشكك في بقاء هذا النظام لمدة طويلة ولو نسبيا، وقد ذكرت هذا المعنى في كتاب أسميته: (الغرب يتغير) وذكرت فيه: بأن كل شيء يكون خلاف الفطرة والعقلانية لا ينتهي إلى نتيجة محمودة، وأن الخزي والزوال في انتظاره، رغم ما يكون له من جولة، كما في الحديث الشريف: «للحق دولة وللباطل جولة».

وقد ذكرت في كتاب سابق[5] كتبته حول مصير الاتحاد السوفيتي ونظامه الشيوعي الاشتراكي الذي هو خلاف الفطرة والعقلانية وقلت فيه آنذاك: بأنه في طريقه إلى الخزي العاجل والسقوط القريب.

وكان كذلك، لأن الولادة كانت ولادة على خلاف الفطرة والعقلانية، وكلما كان الشيء كذلك فإن الموت المحتوم بانتظاره، وإن مصيره إلى الزوال، ولا يبقى منه إلا الذكر السيئ طوال التاريخ، كما بقي الذكر السيئ للحجاج والسفاح، ومعاوية ويزيد، وابن مرجانة وبني مروان، على طول التاريخ، وذلك منذ ألف وأربعمائة سنة وحتى هذا اليوم، وإلى ملايين الأعوام والسنين، وسينتهي مصيرهم في يوم القيامة إلى ((نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة)) [6] نعوذ بالله منها.

العولمة الغربية ليست قدراً محتوماً

مسألة: إن العولمة الغربية رغم طابعها الكوني وما توظّفه من طاقات وتوسعها المستمر، ليست قدراً محتوماً تُحدّد مصير العالم الثالث، أو مصير المسلمين فيما يجري سلفاً، بل إن هذا المصير مرتبط إلى حدّ كبير بما سنعمل نحن المسلمين، وكيف سنواجه التحديّات، ولا يفيدنا تجاهل ما يجري حولنا، أو الاكتفاء برفضه فقط، بل علينا أن نتمسك بالعولمة الإسلامية ومقوماتها ابتداءً من الإعلام وانتهاءً بالعمل الخارجي فنحافظ على قيمنا ومبادئنا ويمكننا هداية الآخرين إلى ذلك أيضاً.

مضافاً إلى أنه ليس الأمر في مستقبل العولمة رجماً بالغيب، ولا قدراً حتمياً لا نتمكن من تغييره أو زيادته أو نقيصته، فلابد من محاولة فهم واقع العولمة الراهن، ورصد اتجاهات تطورها المعاصر، لنستطيع بعد ذلك تتبع الاتجاهات الأكبر احتمالاً للتحكم في مستقبلها، وذلك بقدر جدّنا وجهدنا، وبقدر سعينا ومتابعتنا، لكنّ ذلك يحتاج إلى الوعي والإعلام في كيفية التعامل مع العولمة.

مثلاً المرأة المسلمة عليها أن تثقف نفسها وتتطور علمياً وعملياً وتصدياً مع المحافظة على كرامتها وعزها وشرفها فلا تتبع الأسلوب الغربي الذي نال من كرامتها. كما عليها أن تسعى في هداية المرأة الغربية إلى خيرها وصلاحها.

نعم السفر بوسائل النقل الحديثة، والاستضاءة بالمصباح الكهربائي، والاستفادة من الأجهزة الكهربائية وما أشبه ذلك، فلا بأس به ـ إلا إذا اقتضى الأمر في الإنقاذ إلى نبذها كما فعل غاندي بالبضائع الأجنبية، على ما ذكرناه في (الفقه: طريق النجاة) ـ لكن ذلك ليس هو معنى العولمة المطلقة، بل معنى ذلك هو: الأخذ بقدر الاحتياج منها والاستفادة من صالحها ونبذ طالحها وفاسدها.

وأما بالنسبة إلى تناول ما هو محظور في ديننا مما يصاحب العولمة، فيجب علينا الامتناع منه، والإمساك عنه، ومناهضته بشكل يؤدي إلى هداية متناوليها إلى الصواب، وترك ما اعتادوا على تناوله من المضرّات.

وهكذا بالنسبة إلى المحرمات الأخلاقية والمفاسد الاجتماعية كالزنا واللواط والمساحقة والاستمناء ونوادي العراة وما أشبه مما تترتب على العولمة الغربية، فاللازم اجتنابها والسعي لإنقاذ الآخرين من مساوئها.

والخلاصة: إنه يجب علينا الأخذ بمحاسن العولمة المعاصرة إن كانت فيها محاسن، وترك بل ومناهضة ما هو سيئ فيها، ومن المعلوم: أن اكثر مكوّنات العولمة ارتباطاً بالبنية التكوينية لعالمنا المعاصر، هو: ذاك التقدّم المتسارع في تقوية المعلومات، التي شكلت برمّتها حجم التدفق الاستثماري للسوق المحلية، ومن الواضح: أن الإنسان إذا لم يشتر من السوق لا يكون للسوق محل في تلك البلاد، ومعه فلا يكون العالم رهينة في قبضة جماعة من كبار المضاربين والسياسيين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية، وبالسياسة الخاصة، حتى توجب اندراجنا تحت المظلة الغربية مثلاً.

ويلزم لتصدي مثل هذه الأمور: أن تتمتع بلادنا بالحرية السياسية والتعددية الحزبية والمؤسسات الدستورية وشورى الفقهاء المراجع واتخاذ سياسة السلم واللاعنف وما أشبه من مقومات التقدم والبناء.

[1] أي الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم.

[2] سورة طه: 124.

[3] نهج البلاغة: قصار الحكم: 241.

[4] الكافي: ج1 ص26 كتاب العقل والجهل ح29.

[5] هو كتاب: (ماركس ينهزم) .

[6] سورة الهمزة: 6-7.

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا