التحولات الاجتماعية و القيمية ونظام الحكامة
مدخل لمقاربة تقرير الخمسينية
محمد مصباح
مدخل عام :
موضوع الحكامة من المفاهيم المتداولة في المغرب في الفترة الراهنة،وتندرج أهميته من الناحية العلمية بقلة الدراسات حوله، كما أن أغلب هذه الدراسات التي اطلعت عليها تركز على الأبعاد السياسية و الإدارية، لذلك فالمقاربة السوسيولوجية للموضوع التي اعتمدتها في هذا العرض ستكون محكومة بهذا المحدد المنهجي الأساسي،و من المعلوم في مجال البحث العلمي أن العوائق هي مداخل للإنتاج و التوليد.
فما هي الحكامة ؟ وما هي القيم التي تحملها؟
- الحكامة بالمغرب: نجد خطابا مهما حول هذا الموضوع،يغلب عليه الطابع السياسي،لكن السؤال المطروح،ما هي الفرص و الإكراهات أمام تحقيق نظام الحكامة بالمغرب؟
المؤشر الذي يعتمده هذا البحث هو تقرير الخمسينية باعتباره أهم المرجعيات التي يمكن الاستناد إليها في دراسة هذا الموضوع،وهذا راجع بالأساس إلى كون ثلة من الباحثين في تخصصات علمية مختلفة شاركوا في هذا البحث(بورقية، الطوزي، رشيق، عبد ربي...) وكان للمقاربة السوسيولوجية حضور هام من خلال الورقة التي قدمت حول التحولات الاجتماعية بالمغرب و كذا البحث الوطني حول القيم.
الإشكالية :
إلى أي حد كانت المقاربة السوسيولوجية حاضرة في الرؤية التي اعتمدها التقرير حول قضية الحكامة؟
الفرضية :
نضع في البداية فرضية بمثابة إجابة أولية و هي أن التقرير كان محكوما بالبعد السياسي و الإداري للموضوع ،و أن الأبعاد السوسيولوجية قد تم دراستها في سياق مستقل ضمن ورقة التحولات الاجتماعية بالمغرب، فإلى أي حد يمكن استثمار هذه الورقة و نتائجها في فهم البعد السوسيولوجي للحكامة؟
ملاحظة :
لا نهتم في هذا العرض برصد ميداني بحضور الحكامة مثلا،في الخطاب الشفوي للمواطنين(التمثلات الاجتماعية للحكامة ...)، و لا أهتم بنتائج البنية المؤسساتية لنظام الحكامة،ذلك أن السياق الوطني كما يبدو من خلال التقرير يتحدث عن الحكامة كأفق و رهان و ليس كمعطى موجود ،بمعنى أننا سنتحدث عن البعد السوسيولوجي كعائق نحو إنجازها.
المنهج :
سنعتمد في هذا العرض على المقاربة المفهومية من خلال تحديد مفهوم الحكامة و القيم الاجتماعية التي يحملها،و عن القيم السائدة في المجتمع، نشير إلى بعضها :
قيم الحكامة / القيم السائدة
المشاركة / الإقصاء
المحاسبة / الإفلات من العقاب
الشفافية / الرشوة
وهذا سيجرنا إلى الحديث عن جدل التحديث (الحكامة) والتقليد،أي إلى أي حد تستجيب البنية الاجتماعية للقيم الجديدة التي يحملها نظام الحكامة؟أم أننا سنعرف صراعا بين القيم الجديدة(الحكامة) والقيم السائدة؟.
التصميم :
I - الحكامة : تحديد مفهومي
مفهوم الحكامة gouvernance يندرج ضمن المفاهيم الأساسية لهذا العقد من الزمن،و هي حسب المفكر يحيى اليحياوي ،صنيعة نيوليبرالية خالصة،صممت شكلها و مضمونها المؤسسات المالية و الاقتصادية العالمية،و لفظ gouvernance يفيد معنى الرقابة و التوصية و التدبير،و هي ترتكز على ثلاث معطيات أساسية:
1) الفاعل يساهم في صناعة القرار المحلي(نخبة محلية): تتكون من جمعيات المجتمع المدني، نقابات، أحزاب سياسية، مثقفين بالإضافة إلى السلطة.
2) وجود قرار محلي مستقل:أي عدم تدخل السلطة المركزية في صياغة القرارات المحلية مع عدم تجاوز كل طرف لاختصاصات الآخر.
3)مبدأ التشاركية :مشاركة جميع الفاعلين في صياغة القرار،و تقوية النقاش العمومي من خلال إرساء تقاليد قوية لتناظر أيديولوجي و علمي بعيدا عن النزعة الفئوية الضيقة.
انطلاقا من المعطيات الثلاثة السابقة ، فالحكامة تسائل الديمقراطية القائمة ببعدها التمثيلي منه و التشاركي،و تجمع بين الرقابة من أعلى-الدولة- و الرقابة من أسفل-المجتمع المدني-،و تتغيى التدبير السليم للشؤون العامة و للموارد و الإمكانات البشرية منها و المادية .
مبادئ الحكامة :
*الرؤية الإستراتيجية :
أي الرؤية المنطلقة من المعطيات الثقافية و الاجتماعية الهادفة إلى تحسين شؤون الناس و تنمية المجتمع و القدرات البشرية.
*المشاركة و المساواة :
أي حق الرجل و المرأة في الترشيح و التصويت و إبداء الرأي ديمقراطيا في البرامج و السياسات و القرارات، والحصول على الفرص المتساوية في الارتقاء الاجتماعي.
*حكم القانون :
أي أن القانون هو المرجعية و سيادته على الجميع بدون استثناء و فصل السلط ، و استقلالية القضاء ،ووضوح القوانين و شفافيتها و انسجامها في التطبيق.
*الشفافية :
تعني توفر المعلومات الدقيقة في وقتها و إفساح المجال أمام الجميع للاطلاع على المعلومات الضرورية مما يساعد في اتخاذ القرارات الصالحة و كذلك من اجل توسيع دائرة المشاركة و الرقابة و المحاسبة و من اجل التخفيف من الهذر و محاصرة الفساد.
*الفعالية :
أي توفر القدرة على تنفيذ المشاريع التي تستجيب لحاجيات المواطنين و تطلعاتهم على أساس إدارة عقلانية و راشدة للموارد.
*المحاسبة :
يقصد بها امتثال جميع الأجهزة و الأفراد و المرجعيات للمساءلة و التقويم و المتابعة في حالة التقصير ، و المتابعة القضائية في حالة التبديد او استغلال النفوذ.
يبدو لنا أن الحكامة تحمل قيما مؤسساتية(المحاسبة..)و قيم اقتصادية(حسن التسيير..) وقيم سياسية (الديمقراطية،المواطنة..)، و هذه كلها قيم اجتماعية تكون المبادئ الأساسية لنظام الحكامة.
II - الحكامة في تقرير الخمسينية :
يعتبر تقرير الخمسينية بحثا مهما حول حالة المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، و نجد في البحث الموضوعاتي فصلا خاصا بالحكامة و التسيير الإداري،يغلب عليه البعد السياسي و الإداري،و سنحاول قراءة التقرير قراءة سوسيولوجية من خلال توظيف الورقة التي قدمت حول التحولات الاجتماعية بالمغرب، و البحث الوطني حول القيم.
ومن خلال قراءة أولية لهذه الوثائق،تبين لي أن التقرير ككل، لم يتحدث عن وجود نظام الحكامة بالمغرب بل بالأحرى "إمكانية" وجوده كرهان و كممكن، ف"هذه المحاولات الرامية إلى تفعيل الحكامة الترابية،لم تحقق النتائج المتوخاة منها، إذ أن الانزلاقات الحاصلة، والطابع العرضي وغير المستقر للتحالفات الحزبية المحلية، والتكوين المتفاوت للمنتخبين، وسوء التدبير، والتقطيع الترابي غير الملائم كلها عوامل، من بين أخرى، أضرت بالتنمية البشرية، في العديد من الجماعات القروية والحضرية،هذا من جهة ،من جهة أخرى، عرفت الحكامة نقائص كبيرة على المستوى الإداري المركزي، و كذا على مستوى الهيئات الوطنية اللامركزية،بالرغم من بعض التصورات الظرفية والمحلي ، ويتجلى ذلك في تفشي وتكريس التلاعب بالمال العام، وتهريب الأموال،والرشوة والمحسوبية، والزبونية، على الرغم من التدابير والنوايا الحسنة، ومن بينها الإعلان عن ميثاق لحسن التدبير،وشفافية إجراء الصفقات العمومية، وإدخال قواعد متكافئة في مجال تدبير الموارد البشرية، وإنشاء المجالس الجهوية للحسابات، والشروع في إصلاح القضاء، وخاصة بإنشاء المحاكم الإدارية والمحاكم التجارية، واللجوء المتواتر إلى الافتحاصات الخارجية.
وإذا كان نجاح اللامركزية وتعميم الحكامة الديمقراطية الترابية يتوقف على التحكم الجيد في المسالك المنبثقة على مستوى المصداقية وتنمية قدرات الهيئات المحلية، فإنه لا يمكن ربح هذا الرهان آليا دون نهج تصور جهوي متجدد، ودون ضمان تكامل و مواكبة ضروريين لأية لامركزية فعلية، أي لا مركزية إدارية حقة، أي إننا حسب التقرير نفسه، أمام "نمط حكامة ما زال يبحث عن نفسه".
البحث الوطني حول القيم (ENV2004) يذهب إلى منظومة القيم عرفت تحولات على عدة مستويات، فالمجتمع المغربي ورث مجموعة من القيم التقليدية تعود الى فترة الاستقلال،و هذه الأخيرة تأثر في علاقات الأفراد و الجماعات مع الدولة و الجماعات،كما يذهب نفس التقرير إلى أن الدين و العرف هما أهم مصادر القيم ، و أن اتجاه منظومة القيم بالمغرب يعرف أزمة"crise de valeurs" ،فهو ليس متماسك و ملتحم،بل يعكس صراعا بين القيم التقليدية و القيم الحديثة، فالإكراهات البنيوية تدفع الناس إلى ترك القيم التقليدية أو تكييفها مع المعطى الجديد.
أما ورقة التحولات للاجتماعية بالمغرب فتذهب إلى أن المجتمع المغربي يعرف تحولات اجتماعية عميقة،"إنه مجتمع يتمدن وأنماط عيشه تتغير؛ مجتمع يشهد تغييرات مهمة على مستوى البنية الأسرية والمساهمة النسائية،كما أنه مجتمع يطور قنوات جديدة للتعبير ويعرف ظهور فاعلين جدد؛ مجتمع تعيش مرجعية قيمه سيرورة تحول، مع كونه ما يزال مترددا إزاء الحداثة. "كما أن التغيير قد طال أيضا أشكال العمل والمشاغل الاجتماعية" بصفة عامة. لقد انتقلت العديد من الحرف والمهن إلى قطاعات الاقتصاد الحديثة.
الحكامة و القيم السوسيولوجية :
هذه الديناميكية الاجتماعية تدفعنا إلى البحث عن إمكانية مواكبتها للرهانات ذات البعد الكوني(الحكامة)، و تبيئة هذا المفهوم و إعطاءه صبغة محلية من خلال موائمته مع القيم السائدة و تجاوز القيم التقليدية التي تحول دون تفعيل الحكامة ،فكما يبدو لنا فالحكامة تتضمن قيم مؤسساتية(المحاسبة،المأسسة..)،وقيم إقتصادية(الشفافية، التخطيط..)،و قيم سياسية(الديمقراطية،المواطنة..) و هذه كلها قيم اجتماعية يحملها نظام الحكامة. و هنا تظهر أهمية البحث السوسيولوجي في الكشف عي الميكانيزمات و الآليات التي تسمح بفهم التحولات العميقة التي يعرفها المجتمع .
خلاصة :
يبقى البعد السوسيولوجي حول الحكامة مهما كأفق للبحث لتجاوز التضخم في الخطاب السياسي حوله، و ذلك من خلال :
- فهم الظاهرة المجتمعية في العمق ببلادنا، من حيث البنية و طبيعة الحركية و التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي.
- الإشتغال على نظام القيم المجتمعية و مدى استقبالها لنظام الحداثة(الحكامة).
و في الأخير هل تمت مثلا،دراسة حول تمثلات الفاعلين(المثقفين،رؤساء الأحزاب،المجتمع المدني...)لهذه المفاهيم؟ ومدى تقييمهم لبعدها السوسيولوجي؟
المراجع :
1- موقع تقرير الخمسينية:www.rdh50.ma
2- المغرب الممكن،50 سنة من التنمية البشرية.
3 - الحكامة و الديمقراطية:يحيى اليحياوي، جريدة العلم،15 غشت 2004
4- الحكامة الرشيدة و المجتمع المدني : عبد الله ابو اياد العلوي.www.tanmia.ma
مسألة الحكامة في قلب مشروع العصرنة
في إطار مناخ عالمي مليء بالأحداث المؤثرة في الواقع وصيرورته، يجد المغرب نفسه أمام تحديات تحتم عليه إيجاد مناخ ديمقراطي يشجع النقاش وحرية التعبير عن الأفكار والآراء.
ولأجل مواجهة هذه التحديات، عرفت المؤسسات السياسية بالمغرب طفرة حقيقية تمثلت بالأساس في:
- تنظيم انتخابات ديموقراطية وتقوية سلطات البرلمان في مجال مراقبة العمل الحكومي.
- إحداث مجلس استشاري لحقوق الإنسان، يضم ممثلي جميع الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية؛
- تعديل قوانين الحريات العامة؛
إضافة إلى تحديات اقتصادية فرضها واقع العولمة الجارف والذي جعل المغرب في درجة 125 من حيث التنمية الاقتصادية والبشرية على المستوى العالمي؛ كما أنه يعاني من 55% من الأمية و%15 من سكانه النشيطين، فقد أصبحت مسألة الحكامة في قلب مشروع العصرنة والمرتبطة بالأساس بالاقتصاد والمجتمع؛ هذه الدينامية تسترعي قسطا هاما من الاهتمام والنقاش بين أوساط الرأي العام، وذلك لعدة أسباب يمكن إجمالها عموما في :
الالتزام القوي لجلالة الملك محمد السادس الرامي إلى تسريع وثيرة التغيير من أجل الحفاظ على مجتمع قوي وموحد و من أجل تكريس ثقافة القرب والمشاركة والتشارك.
غير أن المحيط المتغير الذي نعيش فيه والذي يستهدف إيمانا جماعيا من طرف المجتمع المدني ومختلف الفاعلين الاجتماعيين، وضرورة رفع المغرب لمجموعة من التحديات والمرتبطة بالعولمة؛ يجد نفسه أمام أصوات مرتفعة وطلبات متعددة لملاءمة الواقع مع التحولات المؤسساتية وأدوار الفاعلين في التنمية المحلية.
وفي مواجهة هذه التحديات، وبهذه الإرادة الهادفة إلى السير إلى الأمام، فإن المقاربة الجديــــدة المتمثلة في الحكامة، تصطدم بواقع مرير تملئ جوانبه ظواهر متعددة متمثلة في البيروقراطية الإدارية التي تنخرط في كل ما هو دامس من أجل الحفاظ والاحتفاظ بكل وضعية تذر امتيازا، إضافة إلى النقص على مستوى الحياة السياسية، وأيضا الأحزاب السياسية التي أضحت تكرس واقع الانتهازية لتقوي بشكل كبير سوء تسيير واضح على مستوى تدبير الشأن المحلي.
ففي ظل هذه البيئة يطرح التساؤل كيف يمكن تحقيق تنمية تؤسس لحكامة محلية جيدة وفي مستوى التطلعات؟ كيف يمكن لنظام حكامة محلية جيدة أن تساهم في تعميق الإصلاحات اللامركزية الجارية بالمغرب؟ وكيف يمكن تحسيس المجتمع المدني بالمسؤولية الملقاة على عــاتقه؟
والإجابة على هذه التساؤلات ستساهم لا محالة في تنمية الأبعاد الأساسية للحكامة المحلية بالمغرب، ووضع الدور الجديد للدولة ضمن إطار يسمح بضمان صيرورة مسلسل اللامركزية واللاتمركز.
وقبل الإجابة على هذه التساؤلات نرى من الأفيد توضيح وتحديد مجموعة من المفاهيم المرتبطة بالحكامة...
الحكامة هي أولا وقبل كل شيء تعبير عن ممارسة السلطة السياسية وإدارتها لشؤون المجتمع وموارده، وهذا هو التعريف المعتمد من طرف أغلب المنظمات الدولية.
وهو في واقع الأمر مفهوم قديم يدل بالأساس على آليات ومؤسسات تشترك في صنع القرار.
ومنذ عقدين طرأ تطور على هذا المفهوم وأصبح يعني حكم تقوم به قيادات سياسية منتخبة وأطر إدارية كفأة لتحسين نوعية حياة المواطنين وتحقيق رفاهيتهم، وذلك برضاهم وعبر مشاركتهم ودعمهم.
شروط الحكامة :
من أجل أن تقوم الحكامة لا مناص من تكامل عمل الدولة ومؤسساتها والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، إذ لا يمكن أن نتحدث عن الحكامة دون تكريس المشاركة والمحاسبة والشفافية. ولا وجود للحكامة إلا في ظل الديمقراطية أو السيادة الشعبية. والحكامة تستوجب وجود نظام متكامل من المحاسبة والمساءلة السياسية والإدارية للمسؤولين في وظائفهم العامة ولمؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، والقدرة على محاسبة المسؤولين عن إدارتهم للموارد العامة وخصوصا تطبيق فصل الخاص عن العام وحماية الشأن العام من تعسف واستغلال السياسيين.
* أولا: الحكامة والمجتمع المدني
لعل الإشعاع الذي أضحى يعرفه المغرب في الآونة الأخيرة على مستوى حقوق الإنسان والحريات العامة جعله في قلب الحدث الديمقراطي، وجعل الجميع مقتنعا بأن مجهودات التحديث لن تتأتى إلا بالمشاركة المتزايدة للسكان في تدبير الشأن العام "والديمقراطية التشاركية" وفي إدارة مميزة لتشجيع انخراط المجتمع المدني بصفة عامة بشكل فعلي وجدي كطرف فاعل في التغيير، الشيء الذي يؤكد حقيقة الرغبة في إطلاق العنان للمبادرات الحلية، وفتح المجال أمامها لتحمل المسؤولية في اتجاه تبني مبادئ التفاوض والتشارك لإبراز مؤهلات الإبداع والخلق في سبيل خدمة التنمية التشاركية.
وفي هذا الإطار، الذي يجعل من الحكامة واقعا ليس فقط مرغوبا فيه بل أمرا حتميا وضروريا لمواصلة النهج الديمقراطي الذي سلكته البلاد بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله، فإن المجتمع المدني قد عبر عن انخراطه في المسلسل المذكور من خلال اشتغاله ميدانيا وتحمسه لكل مبادرة عنوانها المصلحة العامة.
وبناءا على ذلك فإن موقع الحكامة مجاليا، يحتم الأخذ بعين الاعتبار كل أشكال المبادرة والمواطنة في تسيير الشأن المحلي من خلال إعطائها كامل حقها بل والزيادة فيها مؤسساتيا على ضوء تنوير المسلسل الديمقراطي الجاري ببلادنا.
ومن هذا المنطلق ينبغي الاعتراف بأن العمل الجمعوي هو حقيقة التكامل مع العمل الحكومي، لأن عدم إشراك المواطنين في المسؤولية يفرغ الديمقراطية من كل معنى حقيقي لها وبالتالي يحيل على بيروقراطية سهلة تكون عواقبها وخيمة وفيروسا مجتمعيا يجر كل الشوائب والظواهر غير الصحية.
والحديث عن المجتمع المدني، لا ينبغي فهمه بالمعنى الضيق وحصره في المنظمات غير الحكومية والتي في الغالب تأخذ أشكال منظمات بيروقراطية، بل في اعتقادنا يجب أن تتكثل حول مشاريع موحدة، إنعاش مبادرات الجمعيات، مجموعات الأشخاص والجمعيات المتخصصة على شروط ووسائل النجاح وبالتالي الحصول على تفاعل بين السلطة العمومية والفاعليين الاقتصاديين والاجتماعيين.
إن سياسات التحرير وتحرر الدولة من التزاماتها قد أصبحت تفهم أكثر فأكثر على أنها وسيلة إعادة تزويد الأفراد والمقاولات بقدرة على المبادرة الجديدة، ويدخل ضمن هذا الإطار السهر على حماية حقوق وحريات المواطنين كإطار ترتبط وثيرته ونتيجته بالتقاليد السياسية والإدارية، فارتقاء المواطن من مرحلة يكون فيها مجرد مسير إلى درجة مواطن يتوفر على حقوق جديدة يشكل قفزة نوعية تستدعي تغييرا في العمق للعقليات، إن من جانب الموظفين أو المواطنين المستعملين ذاتهم حيث يبقى الأوائل مطالبون بالامتناع من اللجوء إلى تصرفات سيادية، والفئة الثانية مطالبة بالتخلي عن موقفها السلبي لتصبح شريكة بحصة كاملة؛ ومثل هذا التغيير هو وحده الكفيل بجعل المواطن قادرا على تشجيع القيم الأخلاقية والعدل واحترام المساواة في حياتهم اليومية وخلال الحياة اليومية المعاشة.
*ثانيا: الحكامة واللامركزية
إن خيار اللامركزية و الفضاء المحلي كمشروع مجتمعي مستقل قائم على المشاركة الشعبية يتطلب جملة من السياسات والمقومات السياسية والتمويلية والإدارية.
فلا غرو والحالة هذه، إذا ما استحوذت مفاهيم اللامركزية والحكم المحلي والإدارة المحلية والمقاربة التشاركية على الخطاب السياسي للدول والمؤسسات الدولية طوال العقد الأخير من القرن الماضي بحكم عمق وعيها بتعقد وجسامة المسار المفضي، بصرف النظر عن العوارض الوطنية إلى ازدهار مجموعاتنا وجماعاتنا الترابية وذلك في سياق يتسم بالاعتماد المتبادل.
فمن منظور التنمية البشرية، فإن الفضاء المحلي يؤدي افتراضا إلى زيادة فرص الارتفاع بالمستوى المعيشي، وذلك من خلال توسيع خيارات وأفضليات الفرد والجماعة في المجتمع المحلي. فمن المفترض أن الإدارة اللامركزية تكون قادرة أكثر من نظيرتها الإدارة المركزية على التحكم لتوفير البيئة والآليات اللازمة لاستخدام أمثل للموارد المتاحة والابتعاد عن التبذير، حيث أن التخطيط المحلي يمكن من القيام بإجراء تقديرات حقيقية لحجم ونوعية الطلب بصورة أدق مما يقوم به لتخطيط المركزي، وبالتالي فالنتيجة الحتمية أن التسيير المحلي لا شك أن يوفر خدمات مطابقة لخيارات السكان وأوضاعهم.
فإذا كان عامل القرب إلى المواطنين عاملا أساسيا ومحددا للتوجه الصحيح لأي بادرة، فإن توفر نخب مؤهلة ومكونة يجعلها تتوفر على قدرات تحليلية ومعلومات أكثر التصاقا لتشخيص الإمكانيات المحلية للتنمية وفهم طبيعة ونوعية خيارات وأفضليات السكان المحليين، ومن تم تكون قادرة على صياغة خطط محلية وبرامج و مشروعات تستجيب لطموحات وتطلعات المواطنين، بل وتكون قادرة على وضع استراتيجيات متوسطة وبعيدة المدى لتطوير الإمكانيات التنموية المحلية و ضمان نمو اقتصادي مستديم.
ولعل البعد الأكثر أهمية لارتباط اللامركزية بالنهوض بالتنمية البشرية يأتي من خلال زيادة الكفاءة الإنتاجية بمعناها الواسع ومن التمكن من وضع آليات المساءلة والمحاسبة والحد من الروتين وتطبيق مبدأ الشفافية في المعاملات والحد من مظاهر الفساد الإداري والمالي.
ومثل هذا المنظور الرامي إلى تحقيق كفاءة إنتاجية عالية من اعتماد اللامركزية في مفهومها الواسع لن يمكن ترجمته على أرض الواقع ما لم يكن مؤ طرا بمشاركة المواطنين، بحيث يصبحون على المستوى المحلي واعين كل الوعي بكيفية توظيف الموارد واستخدام المال العام، وعلى دراية بما يتم التخطيط له من برامج ومشروعات محلية وبالتالي تكون قادرة على مراقبة ومتابعة وتقييم عملية الإنجاز بصورة أكثر التصاقا وأمانة مقارنة مع ما يجري في الخطط المركزية المعروضة من أعلى.
ولعل الأهم إذن، هو ارتباط اللامركزية بالعدالة الاجتماعية عن طريق التنمية المحلية القائمة على المشاركة السياسية، فالمجالس الجماعية كوحدات ترابية ستكون مهتمة بتوفير الخدمات العامة بصورة عادلة. وقد لا تكفي أنماط الديموقراطية الشكلية في تحقيق ذلك ما لم تكن هناك مشاركة سياسية حقيقية ومباشرة لجميع الفئات الاجتماعية.
ومن هذا المنطلق، فإن الحكامة تقتضي مجموعة من الرقابات لإنجاح خيار اللامركزية، بدءا من ضرورة التحكم الفعلي للمواطنين المحليين، سياسيا وفنيا بما يتم التخطيط له وكذا التأكد من تأسيس وتطبيق نظم إدارية تتسم بالمرونة والشفافية وبالشكل الذي تضمن معه الرفع من مستوى الكفاءة الإنتاجية للعاملين.
وخلاصة القول إن واجب المواطنين في عملية البناء وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وذو فوائد تتمثل بالأساس في منح أصحاب المصالح مساحة أكبر للتعبير عن آرائهم، ووضع آراء السكان الفقراء والمهمشين في الاعتبار عند وضع القرارات المتعلقة بالسياسة أو البرامج.
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى