إعداد: عبد السلام العيماني (*)
تعتبر الوثيقة الدستورية المستفتى بشأنها بتاريخ فاتح يوليوز 2011 بمثابة الولادة التاريخية للسلطة القضائية المغربية ، ذلك أن المغرب بعد أن عمل جاهدا من أجل تطوير القضاء ليضطلع بالمهام المنوطة به وفق الرؤية المعبر عنها سواء من قبل جلالة الملك أو من قبل جميع الجهات الأخرى التي عنيت بالسلطة القضائية و ضرورة تطويرها، من هيئات و منظمات حقوقية وفعاليات المجتمع المدني وكذا من طرف بعض الأفراد الغيورين على استقلال السلطة القضائية ولا ننسى في هذا الصدد المجهودات الجبارة التي تكلفت الودادية الحسنية للقضاة بالقيام بها من أجل تعزيز مكانة القضاء في البناء المجتمعي وبناء دولة الحق والقانون.
وفي هذا الصدد يمكن التذكير بما جاء في بعض الخطب المفصلية لجلالة الملك حول القضاء، إذ كان جلالته سباقا إلى حث الحكومة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب لتاريخ 20 غشت 2009 على «بلورة مخطط متكامل ومضبوط، يجسد العمق الاستراتيجي للإصلاح، في محاور أساسية، وهي تعزيز ضمانات استقلال القضاء، وتحديث المنظومة القانونية، وتأهيل الهياكل والموارد البشرية، والرفع من النجاعة القضائية، وترسيخ التخليق، وحسن التفعيل». وقد تأكدت هذه النظرة للقضاء من خلال الخطاب الذي ألقاه جلالته خلال افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان بتاريخ 08 أكتوبر 2010 والذي أكد فيه: «أن السلطة القضائية بقدر ما هي مستقلة عن الجهازين التشريعي والتنفيذي، فإنها جزء لا يتجزأ من سلطة الدولة، فالقضاء مؤتمن على سمو دستور المملكة وسيادة قوانينها وحماية حقوق والتزامات المواطنة» مؤسسا بذلك لمبدإ القضاء في خدمة المواطن.
إن النظرة الملكية المتقدمة للقضاء جعلت النقاش ينتقل من مجرد الحديث عن تطوير الجهاز القضائي إلى التأسيس الفعلي للسلطة القضائية، مستغلا في ذلك ما التزم به أمام المنظومة الدولية ومرتبطا بما التزم به من مقتضيات تنص عليها الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها. وقد كان لذلك كله أثر في بناء دولة المؤسسات التي تجد سندها في الدستور. هذا الأخير الذي طور من نظرته للقضاء؛ إذ بعد أن اعتبر القضاء مرفقا من مرافق الدولة في الدساتير القديمة ارتفع به إلى مرتبة سلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية و التشريعية ، سلطة أصبحت على قدم المساواة مع نظيرتيها ، و ذلك امتثالا للخطاب الملكي التاريخي ليوم 09 مارس 2011 و الذي أكد على ضرورة الاسترشاد بالتوصيات الصادرة عن هيئة الإنصاف والمصالحة باعتبارها الجهة التي عملت على فتح تاريخ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وبالتالي فتح صفحة من تصالح الدولة المغربية مع ذاتها وتاريخها؛ إذ خلصت هذه الهيئة إلى خلاصات ذات بعد استراتيجي يمكن التذكير بها في هذا الخصوص حيث دعت إلى:
فصل وظيفة وزير العدل عن المجلس الأعلى للقضاء.
جعل المجلس الأعلى للقضاء بمقر المجلس الأعلى بالرباط.
مواصلة وتسريع وثيرة إصلاح القضاء والنهوض بمستواه.
مواصلة تحديث المحاكم.
تحفيز القضاة وأعوان العدالة وتحسين تكوينهم الأساسي والمستمر والتقييم المنتظم لأدائهم.
مواصلة مشاريع تنظيم مختلف المهن القضائية وجعلها قادرة على الضبط الذاتي لشؤونها من حيث الحقوق والواجبات والأخلاقيات.
مراجعة تنظيم واختصاصات وزارة العدل بشكل يحول دون أي تدخل، أو تأثير للجهاز الإداري في مجرى العدالة وسير المحاكمات.
تحريم تدخل السلطة الإدارية في مجرى العدالة.
تشديد العقوبات الجنائية في حق كل إخلال أو مساس بحرمة القضاة واستقلالهم.
إن ظروفا كهذه لابد و أن يكون لها أثر في تصورالدولة ككل لمفهوم السلطة القضائية ، و هذا التصور هوما تم تجسيده قواعد دستورية في دستور 2011 ، الذي نظم أحكام السلطة القضائية من خلال 22 فصلا تمتد من الفصل 107 إلى الفصل 128 . و انطلاقا من تلك الأحكام يمكن الحديث عن أثر التعديلات الدستورية على السلطة القضائية من خلال محورين :
المحور الأول : مظاهر استقلال السلطة القضائية في دستور 2011
المحور الثاني : متطلبات تكريس استقلال السلطة القضائية
المحور الأول :
مظاهر استقلال السلطة القضائية في دستور 2011
إن الانتقال بالقضاء من جهاز إلى سلطة يقتضي الانفصال التام له عن السلطة التنفيذية التي كانت تهيمن على الحياة القضائية، انفصالا يجب أن يجسده قيام مؤسسات قضائية تتكون من القضاة ذاتهم، باعتبارهم أصحاب الشأن، وذلك بغاية القيام برعاية الشأن القضائي وفق المنظور المتجدد للمقتضيات والمتطلبات التي تؤسس لدولة الحق والقانون .
ولعل أول مظهر من مظاهر السلطة القضائية وفق دستور 2011 يتجسد في نشأة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، الذي لم يعد يشكل مؤسسة دستورية فقط كما كان عليه الأمر من قبل بالنسبة للمجلس الأعلى للقضاء و لكن أصبح هو الممثل الوحيد للسلطة القضائية و له اختصاصات محددة و محصورة وفق ما جاء بالفصل 113 من الدستور و الذي حدد نطاق عمل المجلس المذكور في :
الاختصاص بحماية الضمانات الممنوحة للقضاة و تعزيزها و الدود عنها .
الاختصاص باتخاذ القرارات المتعلقة بالمسار المهني للقاضي منذ ولوجه للمعهد العالي للقضاء إلى حين مغادرته للعمل القضائي سواء عن طريق التقاعد أو بطريق آخر .
الاختصاص بإصدار تقارير تهم القضاء على وجه الخصوص باعتباره صاحب الشأن ، و أخرى تهم مرفق العدالة عموما باعتبار جميع المهن المرتبطة بالقضاء و المساعدة له ذات أثر في صياغة القرار القضائي وبالتالي فإن كل ما يتعلق بها إنما يتعلق بالسلطة القضائية بطريقة أو بأخرى .
وله أن يصدر آراء تهم العدالة بمفهومها العام متى طلب منه ذلك جلالة الملك أو الحكومة أو البرلمان في احترام تام لمبدأ فصل السلط .
الاختصاص بالقيام بمهمة التفتيش ، و هي ضمانة مهمة من ضمانات استقلال السلطة القضائية بالنظر لما كانت تقوم به الجهة المكلفة بالتفتيش و التابعة لوزارة العدل من تأثير مباشر على القرارالقضائي و بالتالي استقلاله الذي هو من استقلال السلطة القضائية .
إن تلك المهام التي أنيطت بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، تعتبر بحق مظاهر دستورية تؤكد الفصل التام للسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية ، و بالتالي فإن التعامل و التعاطي مع السلطة القضائية ما بعد استفتاء فاتح يوليوز 2011 يتعين أن يأخذ بعين الاعتبار هذه المستجدات التي أطرت العلاقة الدستورية بين السلطتين و التي جعلت حدا فاصلا بين للتداخل الذي كان معمولا به قبل دستور 2011 .
وإذا كان الدستور قد تطرق إلى الفصل في مسألة استقلال السلطة القضائية ، فإن ذلك يعني في جزء كبيرمنه العلاقة مع السلطة التنفيذية ، لكنه لم يغفل تلك القائمة مع السلطة التشريعية ، و التي حددها بمقتصى الفصل 67 الذي أكد على تقديم كل إجراء قضائي عن كل إجراء تتخذه السلطة التشريعية من أجل البحث و التقصي في بعض الأحداث من خلال لجان تقصي الحقائق، إذ نجد أن المشرع الدستوري عمل على قطع الطريق أمام المؤسسة التشريعية للقيام بأية إجراءات للبحث و التقصي في بعض الأحداث متى اتخذت السلطات القضائية إجراءاتها القانونية من أجل البحث و التقصي في نفس الأحداث .
ويخلص من كل ما ذكر أن المشرع الدستوري بالفعل عمل على الرفع من مكانة السلطة القضائية إلى مرتبة الجهة الوحيدة الموكول لها أمر تطبيق القانون متى تعلق الأمر بخرقه ، و بالتالي أصبحت ذات السلطة هي المالكة لحق حماية حقوق الأشخاص و الجماعات و حرياتهم و أمنهم القضائي وفق ما نص عليه الفصل 117 من الدستور الذي نص على أن : ” يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص و الجماعات وحرياتهم و أمنهم القضائي . وتطبيق القانون ” كما أضحت قراراتها تسمو على كل القرارات الصادرة عن باقي السلط و الجهات الأخرى سواء أكانت تلك القرارات صادرة عن جهات إدارية أو غيرها و كيفما كانت تلك القرارات تنظيمية أم فردية حسبما اقتضته مقتضيات الفصل 118 من الدستور الذي ذهب إلى أن : ” كل قرار اتخذ في المجال الإداري ، سواء كان تنظيميا أو فرديا ، يمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة ”
إن تلك المظاهر التي تم رصدها فيما يتعلق باستقلال السلطة القضائية من خلال ما جاء به دستور 2011 ، ليست كافية لوحدها من أجل البلوغ بالسلطة القضائية للغاية التي أرادها الدستور بل إن لها متطلبات يتعين تحققها من أجل تكريس استقلالية السلطة القضائية .
المحور الثاني :
متطلبات تكريس استقلال السلطة القضائية
إن المشرع الدستوري لما وضع الآليات الأساسية لاستقلال السلطة القضائية ترك الباب مفتوحا من أجل استكمال البنية النموذجية للسلطة القضائية ، تلك البنية التي لن تتضح معالمها إلا من خلال بذل الجهد من أجل إخراج المنظومة التشريعية الملائمة للقواعد الدستورية و المتعلقة بالسلطة القضائية تنظيما وتأسيسا وتحديدا للاختصاصات .
وفي إطار هذا النقاش حول السلطة القضائية يجدر بنا الحديث عن دلالة السلطة القضائية وفق منظور الدستور الجديد إذ يعتبر التحديد المفاهيمي أساسا و مدخلا للتأطير و الفعل التشريعي .
إذ بالرجوع للمقتضيات الدستورية نجد أن المشرع الدستوري اتجه إلى جعل السلطة القضائية تشمل كلا من قضاء الحكم و القضاء الواقف ، و ذلك من خلال مجموعة من المقتضيات و الأحكام ؛ و على رأسها إلزامه لكل من قضاة الحكم و قضاة النيابة العامة بتطبيق القانون كما ورد بالفصل 110 من الدستور الذي نص على أنه : ” لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون ،و لا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون . يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون . كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن الجهة التي يتبعون لها ” إذ يتضح مما ذكر أنالمشرعالدستوري أناط بكل من قاضي الحكم و قاضي النيابة العامة تطبيق القانون و ، مسألة تطبيق القانون تتطلب بالضرورة استقلالا عن كل جهة يمكن أن تؤثر بشكل أو بآخر عن القرار القضائي ،و بعبارة أخرى فإن مسألة إلزام قضاة النيابة بتطبيق القانون جعلت المشرع الدستوري ينتصر للفكرة القائلة بأن قرارات النيابة العامة قرارات قضائية و ليست إدارية وبالتالي فإنه وفق هذا المنظور تبدو الحاجة ملحة إلى ضرورة فصل النيابة العامة عن الجهاز التنفيذي ممثلا في وزير العدل .
ومما يعزز هذا الاتجاه أن الدستور المغربي لم يقم أي تمييز بين القضاة من حيث طبيعة المهام التي يقومون بها من حيث الضمانات المحفوظة لهم و الحقوق التي يتمتعون بها . فبالرجوع مثلا للمقتضيات المنظمة لعمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية نجد أن الفصل 113 من الدستور ينص على أنه : ” يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ، و لا سيما فيما يخص استقلالهم و تعيينهم و ترقيتهم و تقاعدهم و تأديبهم … ” كما أنه متع كل المنتمين لجهاز القضاء بنفس الحقوق كما هو الأمر بالنسبة للفصل 111 الذي قرر الحق في الانتماء للجمعيات و الحق في التعبير و الفصل 114 الذي جاء فيه : ” تكون المقررات المتعلقة بالوضعيات الفردية ، الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة ، أمام أعلى هيئة قضائية إدارية بالمملكة ” .
إن كل دلك يكرس اتجاه المشرع الدستوري إلى إقامة نوع من الفصل التام بين السلطتين التنفيذية و القضائية في كل صوره ، و يمكن رصد هذا الاتجاه زيادة على ما ذكر في مؤشرات نصت عليها المقتضيات الدستورية المتعلقة بالسلطة القضائية ، ويمكن رصد بعضها فيما يلي :
أن قضاة النيابة العامة أصبحوا ملزمين بتطبيق القانون ، وفقا لما نص عليه الفصل 110 من الدستور ،
أن قضاة النيابة العامة ملزمون بالالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية فقط دون غيرها، و بالتالي فإن الدستور الجديد مكن قضاة النيابة العامة من سلطة الرقابة على التعليمات الواردة عليهم من السلطات التي يتبعون لها ؛ و في ذلك تجسيد لاتجاه المشرع الدستوري نحو إقرار فصل تام بين عمل النيابة العامة و ما يمكن أن يتأثر به أعضاؤها من تعليمات تصدر عن السلطة التنفيذية في شخص وزير العدل ، كما أن ذلك يعتبر إشارة إلى كون القرارات الصادرة عن أعضاء النيابة العامة في مجملها تعتبر قرارات قضائية لارتباطها بحقوق و حريات المواطنين و لها تأثير مباشر على تلك الحقوق و الحريات و بالتالي فلا يجوز التدخل فيها بأي وجه كان . و إذا ما ثبت أن جهة ما تدخلت بأي شكل من الأشكال فإن مقتضيات الفصل 109 من الدستور تكون واجبة التطبيق ، تلك المقتضيات التي نصت على أنه : ” يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء و لا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ، و لا يخضع لأي ضغط . يجب على القاضي كلما اعتبر أن استقلاله مهدد ، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية …” فعبارة القاضي في المقتضى المذكور عبارة شاملة ما دام أن المشرع ساوى بين قضاة الأحكام و قضاة النيابة العامة في مسألة التقيد بالتطبيق السليم للقانون وفق مقتضيات الفصل 110 من الدستور ، هذا من جهة و من جهة أخرى فإن المشرع لم يقم أي تمييز بين فئتي القضاة في مسألة اللجوء للمجلس الأعلى للسلطة القضائية باعتباره الضامن لاستقلال القاضي ، و لو كانت إرادة المشرع الدستوري تتجه نحو الفصل بين الفئتين لفعل كما هو الأمر بالنسبة لما جاء بمقتضيات الفصل 108 من الدستور التي خصت قضاة الأحكام بعدم إمكانية عزلهم أو نقلهم إلا بمقتضى القانون .
أن المشرع الدستوري لم يحدد طبيعة السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة، و في ذلك إشارة قوية إلى ضرورة ترك الفرصة للبحث في طبيعة هذه السلطة بعد أن تم استبعاد وزير العدل من تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، إذ لو أراد المشرع أن يبقي على تبعية النيابة العامة لوزير العدل لنص على ذلك دستوريا ، لكن يتضح أن الاتجاه الذي نحا فيه المشرع الدستوري هو ضمان الاستقلالية التامة للنيابة العامة عن الجهاز التنفيذي ، و لعل مكن القوة في هذا الاتجاه هو أن النيابة العامة تتخذ قرارات في معظمها ذات طبيعة قضائية ما دامت تلجأ لقضاء الحكم من أجل الفصل في كل منازعة تثيرها ، و بالتالي فإن مبدأ التكامل المتجانس للقرارات القضائية المتخذة كان حاضرا بقوة أثناء صياغة بنود الدستور فيما يتعلق بعمل النيابة العامة . و ما يزكي هذا التوجه هو أن المشرع الدستوري ذهب بعيدا في تحديد الجهة التي تتولى وضع الخطط و المناهج الكفيلة بضبط الظاهرة الأمنية باعتبارها جوهر السياسة الجنائية ما دامت تروم إلى حصر جميع مظاهر الانحراف والتعدي على الحقوق و الحريات ،و جعل تلك الجهة هي المجلس الأعلى للأمن الذي نص عليه الفصل 54 من الدستور و الذي جاء فيه : ” يحدث مجلس أعلى للأمن ، بصفته هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي و الخارجي للبلاد ، و تدبير حالات الأزمات ،والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة. يرأس الملك هذا المجلس وله أن يفوض لرئيس الحكومة صلاحية رئاسة اجتماع لهذا المجلس على أساس جدول أعمال محدد . يضم المجلس الأعلى للأمن في تركيبته ، علاوة على رئيس الحكومة و رئيس مجلس النواب و رئيس مجلس المستشارين ،والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، الوزراء المكلفين بالداخلية و الشؤون الخارجية ، و العدل ، و إدارة الدفاع الوطني ، و كذا المسؤولين عن الإدارات الأمنية ، و ضباط سامين بالقوات المسلحة الملكية ، و كل شخصية أخرى يعبر حضورا مفيدا لأشغال المجلس .” إذ يظهر من هذا المقتضى أن رسم معالم السياسة الجنائية يمكن أن يتولاه هذا المجلس و الذي يضم من بين أعضائه كلا من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية و وزير العدل ، و بالتالي فإن المشرع الدستوري أقام توجها حقيقيا لانفصال تام بين السلطة التنفيذية و السلطة القضائية و جعلهما على قدم المساواة في رسم معالم السياسة الجنائية من خلال آلية المجلس الأعلى للأمن ، و في هذا الصدد يمكن اعتبار حضور أحد ممثلي النيابة العامة شخصا مفيدا لأشغال المجلس خاصة وأنه يمكن أن ينور المجلس بشأن كل ما يتعلق بوضعية السجون و ما يعتري مسطرة الاعتقال الاحتياطي من عراقيل من أجل أداة وظيفتها ، إذ أن السياسة التي كانت منتهجة من قبل اتضح فشلها خاصة مع ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي و عدم تشجيع المساطر القضائية البديلة ، نتيجة المنهجية التي كانت تتبع في رسم معالم السياسة الجنائية في غياب تام للسلطة القضائية ممثلة في النيابة العامة الموكول لها مهمة تنفيذ بنود تلك السياسة ، و قد يكون مفيدا تصور وجود مجلس موحد للنيابات العامة ؛ شبيها إلى حد كبير بمجمع الوكلاء العامين ببلجيكا ؛ يتولى وضع الخطوط العريضة للسياسة الجنائية في المجال القضائي يتولى عرضه على المجلس الأعلى للأمن .
وعلى ذلك فإن الحديث عن المفهوم الدستوري للسلطة القضائية يبدو مؤثرا في ما يمكن أن يصدر من قوانين و تشريعات تهم هذه السلطة التي حظيت بنوع خاص من المعالجة الدستورية.
وفي هذا الإطار فإنه بالرجوع لمقتضيات الدستور الجديد ، نجد أن هذا الأخير عمل على تأطير المجلس الأعلى للسلطة القضائية تنظيما و اختصاصات بقانون تنظيمي ، مما يعد إشارة إلى أن ذلك المجلس أصبح في مصاف البرلمان و الحكومة باعتبارهما رأسي السلطتين التشريعية و التنفيذية، و نفس الأمر قام به فيما يتعلق بالنظام الأساسي لرجال القضاء و ذلك وفق ما نص عليه على التوالي الفصل 116 الذي جاء فيه : ” يحدد بقانون تنظيمي انتخاب و تنظيم و سير المجلس الأعلى للسلطة القضائية و المعايير المتعلقة بتدبير الوضعية المهنية للقضاة ، و مسطرة التأديب ” و الفصل 112 من الدستور الذي قضى بأنه : ” يحدد النظام الأساسي للقضاة بقانون تنظيمي ”
وبالمقابل فإن فتح المجال أمام السلطة القضائية ممثلة في المجلس الأعلى للسلطة القضائية وما يشرف عليه من أجهزة من أجل المساهمة في خلق تصور جماعي مشترك حول ما يجب أن يكون عليه مرفق العدالة عموما يعتبر بالفعل اعترافا من المشرع الدستوري بالدور الذي يتعين أن تضطلع به السلطة القضائية سواء قضاء حكم أو قضاء نيابة عامة في المستقبل .
وبناء على ذلك فإن ما يتعين أن توجه إليه الأنظار و تكرس له الاهتمامات هو أن يتم تنزيل المقتضيات القانونية و التشريعية المتعلقة بالسلطة القضائية في الأجل القريب المنظور ، و ذلك بإشراك فاعل و أساسي لمجموع مكونات الجسم القضائي ، حتى تضمن المكتسبات الدستورية التي حضيت بها السلطة القضائية .
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن أهم ما يمكن الحرص عليه هو :
ضرورة احترام سيادة السلطة القضائية في مفهومها العام ، بشقيها القضاء الجالس و القضاء الواقف ، ذلك أن العلاقة بين السلطة التنفيذية و جناحي السلطة القضائية يتعين أن تبقى في منآى عن كل المؤثرات السياسية والظرفية الاجتماعية بما يحقق الاستقرار في القرارالقضائي و يجعل من السلطة القضائية بالفعل سلطة ضابطة لإيقاع السير العادي للمجتمع و مؤسساته ، و ضامنة لاستقرار الوطن و استمراريته.
الحرص على تكريس الضمانات الدستورية الممنوحة للقاضي و على رأسها حماية الحقوق الأساسية التي يتمتع بها القاضي و التي يتعين احترامها .
التمكين للقرار للقرارالقضائي من السيادة ، وجعله بالفعل عنوانا للحقيقة التي يتعين على الجميع إدارة و أفرادا و جماعات الخضوع لها ، مع احترام حق الأطراف في سلوك المساطر الشفافة لضمان الحقوق و في نطاق القانون .
وضع آليات واضحة من أجل حماية القرار القضائي من أي تأثير، بما يضمن سلطان ذلك القرار و سيادته انسجاما مع مقتضيات الفصل 109 من الدستور .
العمل على تمكين السلطة القضائية من الأدوات اللوجيستيكية و الآليات المالية و الموارد البشرية من أجل الاضطلاع بالمهام الموكولة لها، تمكينا يجعلها بعيدة عن أي تحكم من قبل السلطة التنفيذية ، و تطبيقا لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 116 من الدستور .
وضع آليات دقيقة تمكن القاضي من الدفاع عن استقلاليته و ما يتمتع به من ضمانات و حقوق ، وجعل المجلس الأعلى للسلطة القضائية الجهة الوحيدة و الحصرية المكلفة بذلك .
تلك إذا بعض الملاحظات التي يتعين الوقوف عليها من أجل رصد التطور الذي حصل في ميدان استقلال السلطة القضائية انطلاقا من سياقه التاريخي و انتهاء بما استقر عليه الدستور من أحكام و مقتضيات و مرورا بما تتطلبه مسيرة استكمال بنيات السلطة القضائية و تشكيلاتها .
(*) وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
عضو المجلس الأعلى للقضاء
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى