Monday, October 15, 2012

دراسة: واجب تحفظ القضاة على ضوء الدستور الجديد (1/2)


القاضي ملزم بالتصرف بشكل يحافظ على هيبة منصبه

كان من الطبيعي إحاطة وظيفة القضاء بمجموعة من القيم والأعراف الضابطة لسلوك العامل داخلها، ضمانا لرفعة وسمو الهدف المتوخى من هذه الوظيفة، ولعل من بين أهم هذه الضوابط والقيم، نجد «واجب التحفظ» الذي أقره الدستور المغربي الجديد من خلال المادة 111 التي نصت على أنه : ( للقضاة الحق في التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية) وأنه : (يمكن للقضاة الانخراط في جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية، مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون) وأنه : (يمنع على القضاة الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية)

فما المقصود بواجب التحفظ الملقى على عاتق القضاة؟ وهل يتعارض هذا الواجب مع حق القضاة في الانفتاح على المجتمع، وحقهم في الاحتجاج؟
أولا : واجب التحفظ من الناحية اللغوية
 لفظ التحفظ من الناحية اللغوية يأتي بمعان متعددة، فيقال تحفظ بمعنى احترز، وتحفظ من الأخبار التي سمعها، بمعنى احتاط وتوقى واحترز منها، ويقال أنجز عمله دون تحفظ، أي دون تردد، وسجل تحفظه على أمر ما، إذا اتخذ موقف الحيطة والحذر منه، وتحفظ على الشيء بمعنى حبسه وصانه، وتحفظ في القول أو الرأي إذا قيده ولم يطلقه، - بمعنى تكلم بحذر.
وإذا اقترن لفظ التحفظ مع الواجب، كان المعنى دالا على الالتزام بالاحتراز والاحتياط، وعدم إطلاق القول، والفعل.
ثانيا : واجب التحفظ والفراغ التشريعي:
إن أول ما يثير انتباه الباحث وهو يخوض في مفهوم واجب تحفظ القضاة، هو غياب التعريف القانوني لهذا الواجب، إذ لا يوجد أي نص قانوني يعرف مفهوم «واجب تحفظ القضاة»، الأمر الذي ساعد على ظهور تعريفات متعددة لهذا الواجب، والتي للأسف كانت في غالبيتها تعريفات تفتقد التجرد في الدراسة، مستغلة في ذلك الطابع المطاطي لهذا المفهوم، دون استحضار للمرجعية التي حكمت التنصيص على هذا الواجب في بنود الدستور، والتي لا تخرج في عمومها عن المرجعية العامة للدستور المغربي، والتي يمكن تسميتها: المرجعية الحقوقية الكونية للدستور المغربي.
ثالثا: واجب التحفظ والمرجعية الحقوقية الكونية للدستور
لفهم أي نص قانوني فهما صحيحا لابد من الرجوع إلى الإرادة التي حركته والخلفية التي حكمته، والمرجعية التي استند عليها تشريعه، وبالنسبة إلى الدستور المغربي الجديد فالأكيد أن من بين أهم المرجعيات التي استند عليها تشريعه نجد : «المرجعية الحقوقية الكونية» والتي يمكن استخلاصها انطلاقا من إقرار المشرع الدستوري بانخراط المملكة المغربية بشكل كامل في المنظومة الحقوقية الكونية، هذا الانخراط الذي أكده الدستور الجديد من خلال الإقرار بثلاث قواعد أساسية وهي :
القاعدة الأولى: الإقرار بالتزام المغرب الكامل بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا:
إذ جاء في تصدير أسمى قانون في البلاد ما يلي : (...إن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا).
القاعدة الثانية: الإقرار بطابع الشمولية لحقوق الإنسان
وذلك في تأكيد صريح على أن هذه القواعد الحقوقية الكونية قواعد موحدة تنطبق على جميع بني البشر في جميع البلدان دون استثناء، أو تجزيء، لذلك نجد أن تصدير الدستور الجديد قد نص على التزام المغرب ب : (... حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء... ).
القاعدة الثالثة: الإقرار بسمو المواثيق الحقوقية الدولية
جاء في تصدير أسمى قانون في البلاد ما يلي: (... جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة...).
وإذا كان المغرب اختار المرجعية الحقوقية الكونية كأحد أسس تشريع النص الدستوري، وذلك من خلال إقراره بالقواعد الثلاث أعلاه، فإن فهم أي نص داخل الدستور الجديد لا يتأتى سوى باستحضار هذه المرجعية، بمعنى أن باقي نصوص الدستور يجب ألا تخرج في تأويلها عن هذا البعد الحقوقي الكوني الذي اختاره المشرع الدستوري كفلسفة تحكم جميع بنود الدستور، بما في ذلك تأويل مضمون واجب التحفظ المنصوص عليه في المادة 111 من الدستور.
وعليه يتعين البحث عن مفهوم واجب التحفظ انطلاقا من المواثيق الحقوقية الدولية التي أقر الدستور الجديد بالتزام المغرب بها كما هو متعارف عليها دوليا دون تجزيء مع سموها على التشريع المحلي.
رابعا : في بعض المواثيق الحقوقية الكونية المحددة لواجب تحفظ القضاة.
من بين أهم هذه المواثيق نجد:
1- المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن استقلالية السلطة القضائية : والتي تم إقرارها في مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين، المنعقد خلال شهر دجنبر من سنة 1985 بميلانو، والمصادق عليها من قبل الجمعية العمومية للأمم المتحدة بمقتضى القرار عدد 40/32، والتي جاء في البند الثامن منها ما يلي: (وفقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين، التمتع بحرية التعبير والاعتقاد وتكوين الجمعيات والتجمع، ومع ذلك يشترط أن يسلك القضاة لدى ممارسة حقوقهم مسلكا يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة واستقلال القضاء).
والمبدأ نفسه نصت عليه الفقرة الرابعة من المبادئ الأساسية والتوجيهية بشأن المحاكمة العادلة والمساعدة القانونية في إفريقيا، التي تم اعتمادها في اجتماع قمة رؤساء دول الاتحاد الإفريقي في مابوتو خلال شهر يوليوز 2003.
2 - مبادئ بانغالور للسلوك القضائي  والتي تم إقرارها من قبل مجموعة النزاهة القضائية في بانغالور بالهند في الفترة ما بين 24 و26 من فبراير 2001، قبل مراجعتها خلال المائدة المستديرة لرؤساء المحاكم العليا المنعقدة بقصر السلام في لاهاي بهولندا خلال الفترة الممتدة مابين 25 و26 نونبر 2002، والتي تم إقرارها كذلك من قبل لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بمقتضى القرار عدد 43/2003.
وجاء في البند 4/6 من هذه المبادئ ما يلي: يحق للقاضي كأي مواطن آخر حرية التعبير والعقيدة والارتباط والتجمع ولكن يتعين عليه دائما عند ممارسته تلك الحقوق أن يتصرف بشكل يحافظ فيه على هيبة المنصب القضائي وحياد السلطة القضائية واستقلالها).
3 - مبادئ مجلس بيرغ  بشأن استقلال السلطة القضائية   والتي جاء في بندها 7/1 ما يلي : (يتمتع القضاة بحرية التعبير وتكوين الرابطات أثناء توليهم منصب القضاء بطريقة لا تتعارض مع مهامهم الوظيفية والقضائية أو قد تنال من حياد ونزاهة القضاء)، كما جاء في البند 7/2 من المبادئ نفسها ما يلي: (يحظر على القضاة إفشاء أسرار المداولات وإبداء أي تعليقات حول الدعاوى قيد النظر)، ونص البند 7/3 من المبادئ نفسها على أنه: ( يتعين على القضاة أن يكونوا متحفظين في التعليق على الأحكام أو على مسودة الحكم، أو أي مشاريع أو مقترحات أو موضوع متنازع عليه من المحتمل أن ينظر أمام محكمتهم خارج النطاق القضائي أو المحاكم الأخرى)...

بقلم:  ياسين العمراني, عضو المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا