Saturday, October 13, 2012

دراسة: السياسة الجنائية على ضوء قانون الأعمال المغربي (2/2)

السياسة العقابية الحبسية فشلت في الحد من تصاعد الجريمة وساهمت في اكتظاظ السجون

يبقى موضوع السياسة الجنائية، في ضوء قانون الأعمال المغربي، ذا أهمية وطنية ودولية لارتباط هذه المسؤولية بالاستثمار والحكامة الجيدة،
والخبرة في مجال التمويل والتسيير والمحاسبة والحرية، باعتبارها عنصرا أساسيا في الحياة عموما، والعمليات التجارية بالخصوص. إن تنوير المحكمة بالمعلومات والمعطيات المحاسبية والإلمام بالتنظيمات وقوانين الأبناك والمؤسسات المالية والبورصة والشركات والمجموعات ذات النفع الاقتصادي وقانون المستهلك والتأمينات بمختلف أنواعها وحرية المنافسة والأسعار وقانون الملكية الصناعية وربط الاتصال معلوماتيا أو بطريق مباشرة بكل المصالح المختصة والجهات الخصوصية والعمومية ومتابعة ملفات المواضيع التجارية والاستعجالية والمساطر الجماعية ومراقبة السجل التجاري وممارسة طرق الطعن.
وبالنظر إلى دور النيابة العامة الأساسي المنوط بها اقتصاديا واجتماعيا وماليا وفي تجنب المقاولة الأضرار اللاحقة بها وتمكينها من الوسائل القانونية الكفيلة على تسديد ديونها وقوتها كلها أعمال تتطلب من النيابة العامة العناية والاهتمام البالغين.
وعليه، فمن خلال هذا العرض يتبين أن دور النيابة العامة هو بالأساس حل المشاكل المستعصية في المادة الاقتصادية المرتبطة بالنظام الإنتاجي والشغيلة والأطر والفاعلين الاقتصاديين وكل رجال الأعمال. وهي بهذا المجهودات الجبارة تساهم في إغناء مخطط الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة لمغرب المستقبل.
أما بشأن السياسة الجنائية في القضايا العادية وهو المقصود من اليوم الدراسي في إطار الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة فتحديثها وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة في إطارها، فإنه يستوجب البحث بجدية ومهارة متناهية عن بدائل للعقوبات السالبة للحرية والاعتقال الاحتياطي والدعوى العمومية.
فالسياسة العقابية الحبسية قد فشلت في الحد من تصاعد الجريمة وساهمت في اكتظاظ السجون ولم تفلح في تحقيق نفعية العقوبة واستفادة الدولة ماديا ومعنويا والمجتمع والسجين معا من هذه المؤسسة. لذلك إذا أردنا إرساء مجتمع ديمقراطي حداثي فعلا وحماية سلامة مواطنيه وقيمه من الانتهاكات، فإنه يتعين علينا إدخال إصلاحات جذرية بشأن المنظومة القانونية والمسطرة الجنائية وتبني استراتيجية لتكوين وتأهيل الضابطة القضائية والقضاة على صعيد النيابة العامة والتحقيق والموضوع لفائدة حسن سير المسطرة وحماية قواعد المحاكمة العادلة والاهتمام بأوضاع الجميع المهنية والاجتماعية والمالية مع إحداث:
ضابطة قضائية متخصصة وذات كفاءة وقدرة بدنية وفكرية عالية مستقلة عن باقي الفرق الأمنية وتابعة مباشرة للنيابة العامة للقيام بأبحاث معمقة، دقيقة وشاملة. ومناقشة إمكانية الاعتماد على الاستنطاق والبحث المسجل للتصريحات المدلى بها من قبل الأشخاص المشتبه فيهم أمام هذه الضابطة. ومؤسسة قاضي الحريات الذي يبت في إمكانية استمرار الاعتقال المأمور به كتدبير استثنائي سواء من طرف النيابة العامة أو قاضي التحقيق وينظر إلى خطورة الفعل والضمانات التي يتوفر عليها المتابع لحضوره لجلسة المحاكمة والسهر على حسن سير العدالة في هذا الباب والعناية بالأمن القضائي وحماية قرينة البراءة وضمان تمتيع المتابع بالحرية كلما لم تتوافر المبررات المشروعة لاعتقاله، والتفكير مليا في تكريس تفريد الاعتقال، إقرار العقوبات الاقتصادية في شكل فدية، والصلح والوساطة كبديل للدعوى العمومية، والحكم والأمر القضائي في الجنح، وإيقاف البت في الدعوى العمومية، ثم إقرار العقوبة بالأشغال في شق الطرق وبناء السدود وصيانتها والبنية التحتية وتمديد القنوات لوقاية الأراضي الفلاحية من الفيضانات، والمنشآت العمومية والمساهمة في تهيئة التقدم العمراني والصناعي والنظافة ما دام التدبير المفوض قد فشل في طهارة المدن.
يشار إلى أن المقاربة الأمنية لم تعد لوحدها كافية للحد من الإجرام فالجريمة مرتبطة بعوامل كثيرة نفسية وثقافية وتربوية واجتماعية واقتصادية كالفقر والبطالة، فالانزلاقات نحو حمل السلاح بكل أشكاله والسرقات والعنف الجسدي والجنسي والفساد والخيانة والتعاطي للمخدرات والعقاقير المهلوسة والسكر الطافح في تصاعد مخيف، وكلها أفعال تمس بالأمن الروحي للمجتمع في غياب تفكير جدي في إشاعة وتكريس ثقافة العمل والإنتاج والإبداع والاختراع والوقاية والتصدي للجريمة وتقويم المجرم وإعادة النظر في القانون المنظم للسجون وفي المنظومة التعليمية والتربوية وتوفير الموارد البشرية الخبيرة والمتخصصة في معالجة الإدمان والإمكانات اللوجيستيكية المتطورة وتحسين وضعية الموظفين.
فالسجون ليست مؤسسة للأمراض العقلية أو النفسية وللأكل والراحة الشاملة كما أن المسؤولية ليست شخصية وليست قضية قضاة أو مندوب أو اطر أو مستخدمين، بل هي قضية مجتمع ان لم اقل منظومة بكاملها. ذلك أن المتهم منذ عرضه على المحكمة الابتدائية وأثناء الاستئناف وقبل صدور القرار النهائي في حقه يعتبر معتقلا احتياطيا، فاكتظاظ السجون لا يساعد بتاتا على عودة السجين إلى المجتمع بشكل سوي وقويم بقدر ما يكرس ثقافة الإجرام وتفشي الأمراض وممارسة أفعال غير شرعية وغير أخلاقية في صفوف السجناء داخل كواليس مختلف السجون، بل استطيع القول إن وضعية السجون الحالية يمكن أن تساهم في صقل مواهب المجرم وتعطيه فرصة للتزود بأساليب تجعل منه أكثر احترافية من عالم الإجرام وتشوقا للعودة إليه للدراسة والتمدرس، لذلك فإني ألح إلحاحا شديدا وأكرر ما قلته في نهاية التسعينات على الاعتناء بالطفولة والشباب والتشجيع على الابتكار والاهتمام بالذات رياضيا وفكريا وبتربية النشأ وتهذيبهم عبر البرامج التلفزيونية والإذاعية والمراقبة والزيادة في عدد السجون وفق معايير نموذجية تراعي الجانب الحقوقي والقانوني والرعاية والعمل وأكرر العمل الذي يصلح السجين بدل الكسل الذي يفسده. وهذا يتطلب بكل تأكيد تضحيات مالية ومادية في بداية التجربة وإرادة قوية تؤسس لبلد الكرامة والحقوق والمساواة بين المواطنين والمواطنات.
وفي ما يتعلق بظاهرة جنوح الأحداث فإن معالجتها تقتضي بالضرورة إعادة النظر في منظومة الأسرة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية. فلا يمكن قبول رؤية أطفال المدن تائهين بالعشرات في الطرقات خارج المدرسة ومؤسسات التكوين المهني أو منسيين لا أمل لهم في القرى والبوادي والمداشر والأرياف.
فينبغي تفعيل دور الثقافة والرياضة والرعاية الاجتماعية وضرورة تدخل الأجهزة الأمنية بمختلف مكوناتها وإجراءاتها الاستباقية وإمكاناتها المادية لاجتثاث وتجفيف كل المنابع التي تهدد مستقبل الناشئة وتشديد العقوبات على كل من يساهم في تخريب العقول والاتجار في السموم وتكثيف المراقبة على كل مروجي الأقراص الطبية المهلوسة التي تعتبر من أهم مسببات أبشع الجرائم التي ترتكب في حق الأصول والفروع وكل الأقارب وتهدد المجال التربوي والتعليمي بالمغرب.

بقلم:  عبد العالي العضراوي,  أستاذ  باحث
جريدة الصباح

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا