Tuesday, October 23, 2012

دراسة: حالة القضاء في البوادي


مسطرة التبليغ يتولى أمرها شيوخ القبائل والمقدمون بدون شهادات للتسليم


حينما نتكلم عن إصلاح فذلك يعني إصلاح شيء موجود، لكن في معظم مناطق المغرب خاصة المناطق القروية، فإن القضاء الذي كان موجودا بقوة قد رحل منها.

على سبيل المثال فإنني أشير بالمناسبة إلى منطقة قروية عملت فيها قاضيا مسددا ما بين سنة 1958 و1969 وهي منطقة تونفيت الموجودة بإقليم ميدلت، حيث كانت المحكمة تتوفر على قاضيين وستة كتاب وعونين للحراسة والتنظيف وسائق وسيارة، وكان بها ثلاثة مكاتب وقاعة للجلسات مزينة جدرانها بزراب بربرية، وكنا نعقد جلسات تنقلية بالاضافة الى جلسات في مقر المحكمة. وكانت واحدة من هذه الجلسات تبعد بمسافة تسعين كيلومترا والثانية والثالثة على بعد ثلاثين كيلومترا. وكانت السكنى التي كنت اسكنها مؤثتة ومجهزة بلوازم الطبخ والنوم من المستوى الرفيع.
وكان مقر إحدى هاته الجلسات التنقلية به غرف مجهزة بأفرشة من النمط العصري، ومطبخ به جميع لوازم الطبخ والأكل من صحون وأكواب مذهبة وملاعق وشوكات وسكاكين من الفضة، وكنا نقضي فيها ليلتين لفض النزاعات وللقيام بشؤون التوثيق. وكل هذا المتخلف الذي تركته السلطة الاستعمارية قد نهب وحولت جميع الأدوات الموجودة بالمحكمة من طاولات وكراس وخزانات حديدية الى المحكمة الابتدائية بخنيفرة عند نشأتها. وأثناء عملية النقل صاح احد السكان في وجه الناقلين ساخرا ومتهكما «سبحان الله! هل المخزن يستعد للرحيل من تونفيت؟». اليوم فإن القضاء رحل من هذه المنطقة وأصبح من يريد مثلا أن يقيم دعوى للتطليق يقطع بشأنها 200 كيلومتر للالتحاق بالمحكمة الابتدائية بميدلت. وقد تخربت المحكمة الأم وكذا ملحقاتها كما تخربت المنازل السكنية أو تآكلت جدرانها.
إن مسطرة التبليغ التي تسير وفق القانون على يد المفوضين القضائيين يتولى أمرها خارج مقتضيات القانون شيوخ القبائل والمقدمون وبدون شهادات للتسليم.
أما سياسة تعميم عملية توثيق العلاقة الزوجية، سيما في هذه المناطق عن طريق لفيف ثبوت الزوجية التي تنهجها وزارة العدل بصفة استثنائية، هي سياسة في النهاية فاشلة ما لم تزود هذه المناطق بقضاء الأسرة وبمصلحة للتوثيق.
وهذا النموذج هو حالة جل المناطق القروية بالمغرب. ويجب بالتالي أن يشمل الإصلاح جميع مناطق المملكة وألا يقتصر على المدن فقط.
ماذا يكون شعور هذه المناطق إن لم يكن شعور إحباط، لأن وضعهم في السنوات الأولى من الاستقلال كان أحسن حالا من الآن.
وكم من مناظرة ولقاءات عقدت بدون طائل في شأن إصلاح القضاء.وهذه فرصة تاريخية سانحة للغوص في أعماق المشكل ولتجسيد المرض بكل شجاعة وتبصر وثبات ولاقتراح العلاج المناسب.
ومن نافلة القول أشير بلا منة على الله ولا افتخار على أحد، أنني كنت أتنقل من حين إلى آخر، وفي مواعد محددة ومعلنة الى المداشر لتوزيع وتسليم الرسوم العدلية لأصحابها، وكنت أنتقل كذلك بمناسبة النزاعات العقارية إلى المكان عينه من اجل تشخيص العقار موقعا وحدودا وجيرانا ومساحة رفعا لكل صعوبة عند تنفيذ الأحكام، وضمانا لقوة الشيء المقصي به. وكثيرا ما تفضي هذه النزاعات إلى صلح بين الأطراف بفضل تدخل أهل الفضل من الحاضرين. وكنت أيضا قبل البدء في جلسات الأحوال الشخصية استهل حديثي بدرس للمتقاضين في قاعة الجلسات حول كيفية علاقة الزوج بزوجته وعلاقة الزوجين كل مع عائلة الآخر مستدلا بالآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع، وذلك اعتقادا مني أن القاضي بالإضافة إلى مهمة الفصل في النزاعات يقوم بدور الطبيب الاجتماعي بامتياز.
ولما جاء خبر انتقالي إلى الدارالبيضاء سنة 1969، ونحن في احتفال بعيد العرش صار الجميع رجالا ونساء ومن بينهم قائد المنطقة وشيوخ القبائل ورؤساء المصالح يبكون متأسفين على الفراق.
إنني أقصد من ذلك، والله شهيد على أما أقول، أن يعلم القضاة أن محبة الناس للقاضي رهينة بخدمتهم بجد وإنسانية.
ولنا في الأستاذ الجليل مولاي التهامي المتواضع أسوة حسنة وهو عضو في النيابة العامة، هذا الجهاز المعروف عند العامة بالغراق، إذ كان طيلة حياته القضائية يدعو الناس إلى الصلح ويسدد بينهم ويدعو المخطئ إلى الإعلان عن اعتذاره والمظلوم إلى الإفصاح عن المسامحة فينتهي ما كان بالأمس تنافر، وعداوة إلى عناق شديد وإلى وئام بين الأطراف. جزاه الله عن صنيعه هذا فضلا ونعمة. ولقد جاء في الحديث المأثور «ساعة من العدل بين الناس خير من ستين سنة عبادة» وكم من ساعات وأيام وشهور وسنوات قضيتها أخي العزيز في مناصرة العدل! وألمع وأجلى صور العدل الصلح بين الناس حيث لا يترك في النفوس ولو مثقال بذرة من الحقد والانتقام على خلاف الأحكام الحاسمة التي تتحول أحيانا عواقبها إلى مآس مؤلمة سيما بين الجيران في السكن أو في الأرض أو الشركاء أو الأزواج. والحجة على ذلك أن الله عز وجل جعل الصلح في مقدمة الحلول في أقواله تعالى: (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) (الآية 118 سورة النساء) – لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس -(الآية 114 سورة النساء) – (فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين) – (الآية 9 سورة الحجرات).
إن دور القاضي محفوف بالمخاطر، فيجب أن يسند إلى من له القدرة والنضج على إدراك كنهه وبعده. وأخيرا ومن باب أن يطمئن قلب المتحمس الصادق لإصلاح القضاء عليه أن يتجول في هذه المناطق، وأن يراجع أرشيف وزارة العدل لكي يجري مقارنة بين قضاء الأمس في بداية الاستقلال وقضاء اليوم بعد 56 سنة. إن هذا الجزء الكبير من المملكة لم يأخذ حظه من تقريب القضاء من المتقاضين بل على العكس قد جرد منه كليا. إن هذا التجريد يعزى الى سببين رئيسيين.
الأول أن المسؤولين يشرعون ثم ينتقلون على الفور الى تطبيق النصوص قبل تحضير العناصر المادية والبشرية القادرة على ضمان التطبيق الفعلي السليم.
الثاني من أجل سد النقص الحاصل في المحاكم الابتدائية والاستئنافية التي أحدثت. والسبب الثالث الارتجال والتسرع. إن كل بناء يحتاج الى قسط من الأناة والتدبر، وإلى ما يكفي من الزاد والامكانيات حتى لا يتعطل القطار في نصف الطريق. وكل سياسة بدون تخطيط على الأمد القصير والبعيد إن لم تكن سياسة فاشلة، فإنها ستكون سياسة عرجاء معرضة في سيرها الى كثير من الأعطاب.
والسبب الرابع يعود الى طريقة التعامل مع المشاريع المبرمجة والتي يشرع في انجازها دون أن توفر لها وزارة المالية المال الكافي للتجهيز والتسيير منذ البداية لكي تخرج الى حيز الوجود في أجلها المناسب فتبقى بالتالي عرضة للتقلبات الاقتصادية وإلى عملية الترميم ولأثمنة تفوق بكثير الثمن المقدر لها في اليوم الأول فثقل كاهل الميزانية.
وكم من مشروع قدر له ثمن معين؟ وبما أنه لم يتم تنفيذه في أجله تضاعف الثمن وتصاعد الى حد خيالي لم يكن في الحسبان.
وقد رأينا النتائج السلبية لهذه السياسة لما اعتزمت وزارة العدل الرجوع إلى القضاء الجماعي محل القضاء الفردي في الوقت الذي ازداد فيه عدد المحاكم الابتدائية والاستئنافية، فوجدت نفسها مضطرة إلى أخذ قضاة وموظفين وأدوات للعمل من بعض المحاكم وهي في حاجة الى المزيد لإسعاف أخرى إسعافا لم يزد إلا في تعميم وتعميق المشكل. وأول من تضرر من هذه السياسة ويؤدي بسببها ضريبة قاسية طلبا لخدمات القضاء العالم القروي الذي أضحى كبش الفداء.
إنني في الختام أتساءل لماذا لا نوظف ما لدينا من مال ثابت في مشاريع نحن قادرون على إخراجها إلى حيز الوجود في أجلها المحدد بجميع لوازمها لكي تصبح منذ اليوم الأول قادرة على الاشتغال بانتظام وبدون عائق ونتحاشى تشتيت جهودنا المالية على ما يفوقها من مشاريع بحيث نصبح نجاهد في غير جهاد. وبذلك سوف نسير بخطى ثابتة دون تكليف الميزانية تكاليف مالية باهظة نحن أحوج ما نكون في غنى عنها ونضمن للمواطن مرافق إدارية وقضائية منتجة وسوف نجنب بلدنا مشاريع عرجاء وفاشلة. ورجائي أن يكون من بين ذوي الاختصاص في الشؤون المالية من يتفضل بالإجابة على هذا التساؤل؟

بقلم: حمو مستور, قاض شرفي

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا