Saturday, June 15, 2013

أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة : التحديات الراهنة للمحكمة الجنائية الدولية في ظل هيمنة مجلس الأمن الدولي

دراسة في القانون: إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب (الحلقة الأخيرة)

عرفت الساحة الثقافية مؤخرا ميلاد كتاب جديد ازدانت به المكتبة القانونية المغربية، ويتعلق الأمر بأطروحة دكتوراه في القانون تحت عنوان «إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب، اختار لها كاتبها موضوعا رائدا استعاض فيه عن مقاربة إصلاح القضاء التي تبقى في نظره محدودة في الزمان والمكان، بمقاربة أكثر شمولية 
هي مقاربة «تنمية العدالة» التي لا يكون فيها إصلاح القضاء هدفا في حد ذاته، وإنما مجرد وسيلة لتحقيق هدف أسمى
 ألا وهو تحقيق التنمية البشرية مأخوذة من زاوية العدالة، المؤسسة والقيمة الفلسفية. يشكل القاضي حجر الزاوية في أي مجتمع، يريد لنفسه أن يكون مجتمعا متحضرا وديموقراطيا. فإلى جانب أنه الضامن لحريات المواطنين أفرادا وجماعات، والمحافظ على السلم الاجتماعي واستقرار المعاملات وأمن المؤسسات، فإنه يعتبر كذلك صلة الوصل بين المشرع والمجتمع. إليه ينقل هموم المواطنين وآمالهم و تطلعاتهم، ولمصلحته كذلك يرصد الآثار التي تخلفها القوانين التي يسنها على حياة المواطنين ومصالحهم . فإذا كان البرلمان يعرف بالسلطة التشريعية والحكومة تسمى السلطة التنفيذية، فإنه يمكن لنا أن نسمي القضاء بالسلطة التطبيقية. فالقاضي لا ينفذ القانون وإنما يطبقه. ولعل الفرق بين الأمرين واضح يزيد من وضوحه ما أشار إليه البعض من أن القاعدة القانونية تولد ميتة وأن القاضي هو من يبث الحياة فيها.
    يبقى مع ذلك، رقم في غاية الأهمية في المعادلة القضائية، يترتب على إغفاله، نسف جهود التنمية القضائية باعتبارها رافدا من أهم روافد التنمية البشرية من أساسها. تقوم الإدارة القضائية بالنسبة إلى منظومة العدالة مقام الحكامة بالنسبة للمنظومة الإدارية وحتى السياسية، فكما أن الحكامة الجيدة والمتجددة شرط أساسي لإدارة فعالة وفاعلة في محيطها، كذلك الإدارة القضائية المستنيرة والمنفتحة على محيطها الوطني والدولي أساسية لإعطاء الحق في ولوج العدالة كامل معناه. هذه الإدارة القضائية يتعين تحديثها لتكون في مستوى انتظارات المواطن المشروعة. ويتطلب ذلك بطبيعة الحال تحديد متطلبات التحديث المتمثلة في اعتقادي في التخفيف من العبء الكبير الملقى على كاهل القضاء، وإجادة تدبير عملية التحديث، كما يتطلب رصد مجالات هذا التحديث بكل دقة. فالبنيات والهياكل التي تقوم عليها العدالة في بلادنا، والآليات والوسائل التي تشتغل بها، كلها مجالات ينبغي أن يشملها مسلسل التحديث.
إن التحدي الحقيقي الذي يواجهه المغاربة وغيرهم من بني البشر عبر العالم لا يكمن في تحقيق الأمور التي تحدثنا عنها أعلاه، فهذه الأمور على الرغم من أهميتها تبقى في اعتقادي أمورا من المقدور تحقيقها باعتماد إستراتيجيات شمولية ومندمجة من قبيل تلك التي تحدثنا عنها. إن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية تحقيق ذلك التوازن العادل بين العدالة قيمة فلسفية مطلقة تشكل غاية كل إستراتيجية للتنمية وبين العدالة فعلا وممارسة. وبعبارة أخرى كيف لنا أن نوفق بين تدخل العدالة مؤسسة موكول إليها أمر مباشرة فعل المقاضاة، وبين فكرة العدالة التي تروم إزالة أسباب العنف وتحقيق السلم الاجتماعي من خلال توزيع العدالة بين المتنازعين بكيفية لا يكون فيها خاسر أو رابح؟. 
« إني أعتقد أن فعل المقاضاة يكون قد بلغ هدفه عندما يحس ذاك الذي، كما نقول، قد فاز بدعواه أنه ما يزال قادرا على القول: « إن خصمي ذاك الذي قد خسر ( دعواه ) يظل مثلي صاحب حق ودعواه تستحق أن تسمع وحججه تلك التي قد حصل أن استمع إليها تبقى مقبولة. ولكن الاعتراف لن يكون كاملا إلا إذا صدع به من قبل الخاسر أي من قبل ذاك الذي خطأناه أي من قبل المحكوم عليه، إذ عليه أن يعلن أن الحكم الذي أدانه لم يكن فعل عنف بل فعل اعتراف».
إن فعل الاعتراف المتبادل الذي يؤسس عليه السيد ريكور فكرة السلم الاجتماعي باعتبارها إحدى غايات فعل المقاضاة أو المحاكمة يقترن بالنسبة إلي أكثر بفكرة الإنصاف التي تعتبر جوهر قيمة العدالة كما جاءت بها الشريعة الإسلامية. يتبدى لنا ذلك واضحا من خلال قصة نبيي الله داود وسليمان كما رواها القرآن الكريم في قوله تعالى : « وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ( 78 ) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين.». فقد قضى سليمان بدفع الغنم إلى صاحب الزرع، ينتفع وأهله بألبانها وأصوافها وخلفها عدة سنين، يقوم فيها صاحب الغنم على رعاية شؤون الأرض وإعادة غرسها من جديد، حتى إذا استوى الغرس وعاد كما كان، ردت الغنم كما تكون آنذاك إلى أهلها، وأعيدت الأرض وغرسها إلى مالكيها وهكذا لا يكون بينهما غرم ولا غنم». وبعبارة أخرى لا يكون بينهما بنهاية النزاع وبعد تدخل القضاء رابح ولا خاسر.  إن هذه الحقيقة التي كرستها الشريعة الإسلامية السمحاء قرونا هي آخر ما توصلت إليه أخيرا أهم النظريات التي قيل بها في مجال تدبير النزاعات والتي ترى أن أفضل الوسائل لتسوية النزاعات هي تلك التي توفر حلولا تضمن قيام وضعيات رابح-رابح (win-win) بين المتنازعين بحيث لا يكون بينهم غالب أو مغلوب.
إن قصة سيدنا سليمان وسيدنا داود عليهما السلام تذكرنا بالبعدين الأساسيين في عمل القضاء، وهما بعد القانون وبعد الإنصاف، وتذكرنا كذلك أن العدالة لا تكون عادلة إلا بقدر ما تم التوفيق بين هذين البعدين.
إن الشريعة الإسلامية الغراء هي المكان الأصيل والخصب لنظام الضمير ولفكرة الإنصاف، ولربما حان الوقت لكي نفسح لها مجالا أوسع في تشريعاتنا وفي تطبيقاتها. تكفي الإشارة فقط إلى أنه من رحمها خرجت مدونة الأسرة الجديدة التي نالت إعجاب المهتمين في الداخل والخارج. إن فكرة الإنصاف هي التي كانت وراء إحداث مؤسسة ديوان المظالم. وهذه المؤسسة إن كانت تتدخل بكيفية متأخرة عند نهاية مسلسل المحاكمة، وفي مجال ضيق يرتبط بامتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة في مواجهتها، إلا أنها تقدم الدليل الملموس على الوعي العميق الذي بدأ يتحصل لدى المشرع المغربي حول ضرورة اقتران بعد الإنصاف ببعد القانون لتحقيق العدالة. وعلى كل حال فالطريق إلى العدالة الحقة بدا واضحا. وقد صدق من قال:» من سار على الدرب وصل».

بقلم: رشيد صادوق , دكتور في الحقوق

دراسة في القانون: إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب (الحلقة الثانية)

عرفت الساحة الثقافية مؤخرا ميلاد كتاب جديد ازدانت به المكتبة القانونية المغربية، ويتعلق الأمر بأطروحة دكتوراه في القانون تحت عنوان «إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب، اختار لها كاتبها موضوعا رائدا استعاض فيه عن مقاربة إصلاح القضاء التي تبقى في نظره محدودة في الزمان والمكان، بمقاربة أكثر شمولية 
هي مقاربة «تنمية العدالة» التي لا يكون فيها إصلاح القضاء هدفا في حد ذاته، وإنما مجرد وسيلة لتحقيق هدف أسمى
 ألا وهو تحقيق التنمية البشرية مأخوذة من زاوية العدالة، المؤسسة والقيمة الفلسفية.

يقدم البحث التنموي الذي انطلق في خمسينات القرن الماضي فرصة لا تقدر بثمن لفهم إشكالية التخلف والتنمية في كثير من دول العالم وبخاصة في دول العالم الثالث. وتأتي أهمية البحث التنموي أو ما يطلق عليه بدراسات التنمية من تنوع مشارب وآفاق الباحثين التنمويين بحيث نجد من بينهم علماء اقتصاد وعلماء اجتماع وعلماء اللسانيات والبيئة والأنتربولوجيا والعلاقات الدولية.... إلخ. هذا التنوع في المنطلقات الفكرية والعلمية وكذا في الاهتمامات عكس تنوعا كبيرا في المناهج التحليلية والمقاربات والأدوات المفاهيمية المستعملة، كما أنه عكس تنوعا آخر في الحلول المقترحة والإستراتيجيات المنصوح بها للخروج من حالة التخلف ومعانقة التنمية. أهمية دراسات التنمية تأتي كذلك من أن هذه الدراسات لم تكن دراسات نظرية مجردة في كليتها وإنما كانت في جزء كبير منها دراسات ميدانية تعتمد في تحليلاتها المعطيات الواقعية الخاصة بالمجتمعات والمنظمات والمؤسسات موضوع الدراسة. مقاربة تنمية العدالة، هنا كذلك، تتيح لنا إمكانية الاستفادة من هذا الكم المعرفي الهائل الذي تمثله دراسات التنمية لا من حيث الأدوات التي تستخدمها في تحليلاتها ولا من حيث مضامينها وخاصة ما تعلق منها بالدور الذي يجب أن تضطلع به المؤسسات في التنمية، وذلك بغية توظيف هذه المعارف والأدوات في تنمية العدالة فكرة وتشريعا وممارسة بالمغرب، وفي إعطائها قيمة مضافة تؤهلها لأن تكون في مستوى التحديات الداخلية والخارجية. 
مقاربة تنمية العدالة من ناحية أخرى تقدم ميزة أساسية تتمثل في أنها تساعد على تخطي الحدود المرسومة للحقول المعرفية المختلفة من قانون واقتصاد وإيكولوجيا وعلم اجتماع وأنتربولوجيا إلى غير ذلك من حقول المعرفة بحيث تذوب فيها الفوارق القائمة بين هذه الحقول وتتحول في إطارها الخلافات القائمة بين الباحثين المنتسبين إلى هذه الميادين إلى وسيلة للتطور والارتقاء وأداة للثراء المعرفي عبر مقارعة الادعاء بالادعاء المضاد. 
لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن مقاربة تنمية العدالة موجهة فقط إلى طائفة الباحثين. فهذه المقاربة على النقيض من ذلك موجهة إلى جميع المغاربة أفرادا وجماعات، مجتمعا مدنيا وهيآت على اعتبار أن العدالة هي قيمة اجتماعية شكلت أحد مرتكزات ديننا الحنيف وكذا قوانيننا المختلفة،  وبالتالي يجب أن تكون نبراسا لجميع مبادراتنا وسياساتنا، كما أن التنمية ليست قضية السلطات العامة أو قضية فئة معينة من المغاربة فقط وإنما هي قضية كل مغربي بحيث تقوم في جانبه مسؤولية الانخراط الفعلي في مسلسلها والإسهام البناء في نجاحها، ويثبت له في الوقت نفسه حق الاستفادة من ثمارها.  
حسنة أخرى من حسنات مقاربة تنمية العدالة هي أنها تجسد الترابط القائم بين فكرة العدالة من جهة ومؤسسة العدالة من جهة ثانية، وبين فكرة التنمية من جهة ثالثة. ذلك أن فكرة العدالة هي النبراس الذي ينبغي أن يستنير به كل عمل تنموي بحيث تكون الغاية الأولى والأخيرة للتنمية هي تحقيق العدالة في أسمى صورها وهي تكريم الإنسان من خلال ليس فقط الاعتراف له بالحقوق المرتبطة بشخصه الإنساني وإنما كذلك عبر تمكينه من الآليات والأدوات المادية وغيرها التي تسمح له بالممارسة الفعلية لتلك الحقوق وإزالة جميع الحواجز التي تعيق تلك الممارسة سواء تعلق الأمر بالأمية أو الفقر أو المرض أو الإقصاء. كما أن التنمية هي أساسية لتمظهر فكرة العدالة وتجسيدها على أرض الواقع ما دامت توفر تلك الآليات والأدوات التي تحدثنا عنها أعلاه ومن ضمنها توفير عدالة قريبة، مستقلة ومحايدة وبتكاليف مناسبة.
إعمال مقاربة تنمية العدالة بشكل هادف بناء و مثمر يقتضي منا أولا وقبل كل شيء أن نفهم المقصود بالتنمية وأن نتعرف على الميكانيزمات التي تخدم من خلالها التنمية العدالة. فقد ثبت للكثير من الباحثين أن أحد أسباب استمرار التخلف في كثير من الدول يرجع إلي جهلها بماهية التنمية وعجزها بالتالي عن وضع السياسات المناسبة للخروج من دائرة التخلف. و لذلك كان من الضروري في اعتقادي محاولة البحث في مفهوم التنمية، في أدواتها و ميكانيزماتها، في النظريات التي تقترحها وإستراتيجيات العمل المتفرعة عنها كخطوة أولى تليها خطوة ثانية تتمثل في توظيف المعارف المحصل عليها من محاولة البحث المذكورة في تنمية العدالة.
ألهمت أبحاث Sen  المفكران  AmartyaوNussbaum Martha في مجال التنمية البشرية الكثير من الباحثين وصناع القرار في المنظمات والهيآت الدولية التي تعنى بصفة مباشرة أو غير مباشرة بمسألة التنمية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة الأمم المتحدة بجميع هيئاتها، وكذا في دول العالم في علاقتها مع بعضها البعض، فأصبحت هذه المنظمات والدول تركز أكثر على التنمية البشرية. ولا أدل على ذلك من أن البنك الدولي جعل من الألفية الحالية ألفية مكافحة الفقر في العالم. وقد لقيت هذه المبادئ صدى كبيرا في المغرب عكسته المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أعلن عنها صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة ذكرى 20 غشت 2003. جاء في خطاب جلالته  « ...علينا أن نجعل من هذه الذكرى الذهبية للاستقلال، وقفة تاريخية لتقييم الأشواط التي قطعتها بلادنا على درب التنمية البشرية، خلال نصف قرن، بنجاحاتها وصعوباتها وطموحاتها، مستخلصين العبر من اختيارات هذه المرحلة التاريخية والمنعطفات الكبرى، التي ميزتها، مستهدفين من ذلك ترسيخ توجهاتنا المستقبلية، على المدى البعيد بكل ثقة ووضوح، مبرزين بكل تجرد وإنصاف، الجهود الجبارة، التي بذلت لوضع المغرب على سكة بناء الدولة الحديثة. وتلكم خير وفاء للذكرى الخالدة لصانعي استقلال الوطن».

بقلم: رشيد صادوق, مستشار بمحكمة النقض

دراسة في القانون: إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب (الحلقة الثالثة)

عرفت الساحة الثقافية مؤخرا ميلاد كتاب جديد ازدانت به المكتبة القانونية المغربية، ويتعلق الأمر بأطروحة دكتوراه في القانون تحت عنوان «إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب، اختار لها كاتبها موضوعا رائدا استعاض فيه عن مقاربة إصلاح القضاء التي تبقى في نظره محدودة في الزمان والمكان، بمقاربة أكثر شمولية 
هي مقاربة «تنمية العدالة» التي لا يكون فيها إصلاح القضاء هدفا في حد ذاته، وإنما مجرد وسيلة لتحقيق هدف أسمى
 ألا وهو تحقيق التنمية البشرية مأخوذة من زاوية العدالة، المؤسسة والقيمة الفلسفية. تنفيذا لتوجيهات جلالته السامية أحدثت لجنتان تمثلت مهمتهما في إنجاز تقويم استرجاعي لمسار التنمية البشرية بالمغرب منذ الاستقلال، واستشراف آفاقها، على مدى العشرين سنة القادمة. وبالفعل تمت بلورة المشروع في صيغة تقرير يحمل عنوان «50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025» تمحور حول مفهوم «الكائن البشري» الذي يعد، في الوقت ذاته، محرك التنمية البشرية وغايتها. وفي ضوء ذلك تم تقويم ما حققته بلادنا، دولة ومجتمعا، من تقدم وما اعتراها من نقائص، وذلك من خلال خمسة محاور استرجاعية لمسار المغرب وهي :  
تطور الإمكان البشري للمغرب شعبا :الديموغرافيا والساكنة، المجتمع والتراث الجماعي، المكون الطبيعي للثقافة.
تحرير الإمكان البشري للبلاد دولة: المسار المؤسساتي، البناء الديمقراطي والحكامة.
تثمين الإمكان البشري، باعتباره حياة وتجليات : الصحة، التربية، ولوج الخدمات الأساسية، الحماية الاجتماعية ومحاربة الفقر.
تعبئة الإمكان البشري، من حيث هو قوة عمل وإنتاج للثروات : الاقتصاد والشغل.
الإمكان المادي والطبيعي، بوصفه إطارا وموردا للتنمية البشرية : تدبير الموروث الطبيعي والمادي، المجالات الترابية والبنيات التحتية.
وبغض النظر عن النتائج التي تم التوصل إليها، فإن المشروع قدم فائدة أساسية تمثلت في أنه وضع يده على المفهوم الحقيقي للتنمية باعتبارها مسلسلا للتغيير يكون الإنسان وسيلته وغايته الفضلى في آن واحد، كما أنه ساهم في «.. تغذية النقاش العمومي وفتحه على أوسع نطاق، حول السياسات العمومية التي يتعين تفعيلها في المستقبل القريب والبعيد..». وفي إطار هذا النقاش العمومي الذي لا تقدر فضائله بثمن، تدخل مساهمتي هذه التي أتمنى أن تكون مفيدة.
إن النظرة القطاعية التي تختزلها مفاهيم الإصلاح ورد الاعتبار التي تم اعتمادها في السابق للنهوض بمرفق القضاء بقيت قاصرة ولم تحقق الغايات المرجوة، لذلك لاقت انتقاد محرري تقرير التنمية البشرية بالمغرب باعتبارها شكلت إحدى العقبات الرئيسية في وجه ظهور حكامة جيدة «..إن تحليل تجربة خمسين سنة الأخيرة، يثير بقوة، مسألة جوهرية أخرى، تتعلق بإشكالية الحكامة سواء على صعيد المركز أو المجالات الترابية، أو القطاعات العمومية أو الخاصة .. بالإضافة إلى الانحرافات والممارسات غير القانونية، يمكن تسجيل أشكال أخرى من العجز من قبيل تفضيل هيمنة النظرة القطاعية الضيقة، والكفاءة غير المتساوية.
وفي المقابل تقدم النظرة الشمولية التي توفرها مقاربة تنمية العدالة، إلى جانب جميع الفوائد التي أشرت إليها في البداية، إمكانية تجاوز الصعوبات التي تثيرها النظرة القطاعية. 
إن «الكائن البشري» الذي تمحور حوله تقرير»50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025» هو نفسه «الكائن البشري» الذي يتمحور حوله موضوع هذه المساهمة. فهذا الكائن، في مجالنا هذا، يجب أن ينظر إليه على أنه وسيلة التنمية القضائية وغايتها الأساسية في الوقت نفسه. وعلى هذا لا يكفي الاعتراف له بالحق في ولوج الخدمات الأساسية ومن ضمنها خدمات القضاء، وإنما ينبغي تقويته من خلال تمكينه بداية من جميع الآليات القانونية وغيرها التي تسمح له بالممارسة الفعلية لذلك الحق، ومن خلال إزالة جميع العوائق والحواجز التي تحول بينه وبين التمتع الفعلي الكامل بذلك الحق، سواء تعلق الأمر بحواجز موضوعية كالحكامة،  أو بحواجز ذاتية كالفقر والأمية وما شاكلهما انتهاء. وعليه فإن معالجة موضوع تنمية العدالة تمر بالضرورة التطرق لمبدأ الولوج إلى العدالة أولا وللإدارة القضائية ثانيا. 
إذا كان حاضرنا يرتكز على ماضينا لاستشراف مستقبلنا، وإذا كان الحق في ولوج العدالة أحد تجليات فكرة الديمقراطية ، فإنه يتعين علينا أن نشرع بالتأصيل لهذا الحق عسى أن تفيدنا هذه العملية في معرفة ما يجب علينا أن نفعله لتطوير الحق في ولوج العدالة المغربية في ارتباط مع ثقافة حقوق الإنسان عموما ومع الثقافة القضائية الايجابية على وجه الخصوص. إن أي مبادرة تتخذ في هذا الإطار لابد أن تستهدف مضامين هذا الحق بكيفية شاملة ومندمجة. إن من مصلحة المواطن كما من مصلحة العدالة أن تسود الشفافية العلاقة بينهما، وهذا أمر لن يتأتى إلا إذا تمتع بحق فعلي في الإعلام والإرشاد والتوجيه. كذلك تفقد العدالة كل معانيها إذا تعذر على المواطن ولوجها، إما لأن تكاليفها تتجاوز قدراته، أو لأن بناياتها بعيدة عن متناوله، أو لأنها بطيئة تصدر أحكامها في آجال مبالغ فيها، أو كذلك لأن تلك الأحكام لا تجد طريقها إلى التنفيذ. لكن ما طبيعة ونوع هذه العدالة التي يتعين علينا تيسير ولوج «الكائن البشري» إليها ؟
إن نوع العدالة التي تسود في كل بلاد رهين إلى حدود بعيدة بنوع ومستوى القضاة الذين يخدمونها، ولذلك نجد المجتمعات الديموقراطية تولي عناية كبيرة لاختيار الأشخاص الذين يضطلعون بمهمة القضاء من بين أصحاب الأخلاق والكفاءة المهنية العالية. وهي لا تقف عند هذا المستوى، وإنما تهيئ لهم كذلك من الوسائل والإمكانيات ما يكفي لتكوينهم التكوين الجيد ضمانا لأعلى مستويات الخبرة. والمغرب كغيره من البلدان سار على النهج نفسه بحيث وضع معايير دقيقة لاختيار المرشحين لمنصب القضاء وتكوينهم وضمان تكوينهم المستمر. والتساؤل الذي يطرح حاليا هو إلى أي حد وفق المغرب في اختياراته وإلى أي حد استطاع أن يلبي احتياجات قطاع العدالة على هذا المستوى ؟.

بقلم: رشيد صادوق, دكتور في الحقوق

دراسة في القانون: ملاحظات بخصوص مشروع قانون التعاضد

نصت الفقرة الثالثة من المادة 79 من مشروع قانون التعاضد على ما يلي: « تتقادم دعوى المسؤولية ضد أعضاء المجلس الإداري أو أعضاء مجلس الإدارة الجماعية بصفة جماعية أو بصفة فردية، بمرور خمس سنوات ابتداء من تاريخ الفعل المحدث للضرر أو إن وقع كتمانه، فابتداء
 من تاريخ كشفه، غير أنه إذا تم تكييف هذا الفعل بجناية تتقادم الدعوى بمرور عشرين سنة».

تثير هذا الفقرة العديد من الإخلالات الخطيرة والمنافية لأبسط القواعد القانونية المتعارف عليها قانونيا، كما سيتضح ذلك من خلال الملاحظات التالية:
لم تحدد المادة 79 من مشروع مدونة التعاضد طبيعة المسؤولية المتحدث عنها في هذه المادة. هل يتعلق الأمر بالمسؤولية المدنية أم بالمسؤولية الجنائية، علما أن لكل مسؤولية قواعدها وشروطها والآثار المترتبة عنها، ومن بين تلك القواعد تلك المرتبطة بالتقادم. فإذا تعلق الأمر بالمسؤولية المدنية فإن قواعد التقادم هي تلك المنصوص عليها في مقتضيات المادة 106 من قانون الالتزامات والعقود وهي واجبة التطبيق أو على الأقل يجب استنباط أحكام التقادم، من خلال ما أوردته تلك المادة من قانون الالتزامات والعقود والمتعلقة بتقادم دعوى المسؤولية الناتجة عن الجرم أو شبه الجرم، وهي المادة التي تم تعديلها بمقتضى ظهير 17 نونبر 1960. فعوض أن تحيل المادة 79 من مشروع مدونة التعاضد على أحكام المادة 106 من قانون الالتزامات والعقود بخصوص المسؤولية المدنية. فضل واضعو المشروع الاجتهاد على القواعد القانونية ضاربين بعرض الحائط أبسط المبادئ المتعلقة بالتقادم.
فبقراءة المادة 79 من المشروع يتضح أن الأمر يتعلق بنوعين من المسؤولية، المسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية.
إذا تعلق الأمر بالمسؤولية المدنية، فإن الفقرة الثالثة من المادة 79 من المشروع تحدد التقادم في خمس سنوات ابتداء من تاريخ الفعل المحدث للضرر أو إن وقع كتمانه فابتداء من تاريخ كشفه. ونحن نستنتج فقط أن هذه الفقرة تتحدث عن المسؤولية المدنية لأن المشروع لم يحدد عن أي مسؤولية يتحدث.
إذا كانت هذه الفقرة تشير إلى تقادم المسؤولية المدنية، فإن الأمر خطير جدا ذلك أن التقادم سيصبح دون سقف ودون أجل مادام أن أمد التقادم الخمسي، ينطلق ابتداء من اكتشاف الفعل المحدث للضرر، الذي يمكن أن يكون بعد عشر أو عشرين أو ثلاثين  أو أربعين سنة، وذلك إلى ما لانهاية وهذا ضرب من العبث.
أما إذا كانت الفقرة المذكورة من المادة 79 تشير إلى تقادم الدعوى الجنحية، فالأمر أخطر مادام أن تقادم الدعوى العمومية نظمها قانون المسطرة الجنائية من خلال المادة 5 الذي ينص صراحة على أن الدعوى العمومية تتقادم بمرور أربع سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة وذلك حسب التعديل الذي أتى به قانون رقم 11-35.
فهل يعقل أن يكون التقادم بخصوص الجنح أربع سنوات وأن يعمد واضعو مشروع مدونة التعاضد إلى الزيادة في أمد التقادم الجنائي مخالفين بذلك القواعد العامة بشأن التقادم في المادة الجنائية ؟.
فالفقرة الثالثة من المادة 79 من مشروع مدونة التعاضد تنص صراحة على ما يلي:
«..............غير أنه إذا تم تكييف هذا الفعل بجناية تتقادم الدعوى بمرور عشرين (20) سنة «.
إن إدراج هذا المقتضى في الفصل المذكور يفيد أن أمد خمس سنوات المنصوص عليه في الفقرة نفسها يتعلق بالجنح. وهنا الأمر يدعو  أيضا إلى الاستغراب لسببين:
السبب الأول:
أن الفقرة المذكورة لم تحدد من أين يبتدئ احتساب أمد عشرين سنة.
السبب الثاني:
لأن القانون عدد 11-35 المعدل للمادة 5 من قانون المسطرة الجنائية قد حدد أقصى أمد التقادم بخصوص الجنايات، في خمس عشرة سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجناية.
الملاحظ أن مشروع مدونة التعاضد جاء أقسى وأشد وطئا من المقتضيات القانونية العامة المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية. وهذا راجع بالأساس إلى كون واضعي المشروع غير ملمين تماما بالقواعد القانونية العامة، التي تحكم كل من أحكام المسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية.
الأنسب أن يرجع واضعو المشروع إلى مقتضيات المادة 106 من قانون الالتزامات والعقود ومقتضيات المادة 5 من قانون المسطرة الجنائية، حتى لا يسقطوا في التناقضات الخطيرة التي ستعصف لا محالة بمصداقية هذا المشروع، لأن الظاهر أن روح المشروع مشحونة بكثير من الغضب والشدة الزائدين وأفرغ هذا النص من الحكمة والرزانة والانسجام الذي يجب أن يطبع نصوص القانونية.
وهكذا فالمادة 106 من قانون الالتزامات والعقود جاءت حكيمة ورزينة عندما نصت على ما يلي:
« إن  دعوى التعويض من جراء جريمة أو شبه جريمة تتقادم بمضي خمس سنوات تبتدئ من الوقت الذي بلغ فيه إلى علم الفريق المتضرر الضرر ومن هو المسؤول عنه. وتتقادم في جميع الأحوال بمضي عشرين سنة تبتدئ من وقت حدوث الضرر». 
وهذا هو عين الصواب بالنسبة إلى المطالبة بالتعويض عن الضرر الناتج عن المسؤولية التقصيرية، أما  أن تنص المادة 79 من المشروع أن دعوى المسؤولية تتقادم بمضي خمس سنوات من تاريخ اكتشاف الضرر، فهذا يعني بأن الضرر يمكن اكتشافه بعد مرور مائة سنة أو بعد مرور قرون من الزمن يبتدئ سريان أجل خمسة سنوات للتقدم بدعوى المسؤولية.
الملاحظ أيضا أن صياغة الفقرة الثالثة من المادة 79 من مشروع مدونة التعاضد تحمل في طياتها لبسا خطيرا، لأنه يتعلق بحريات الأفراد في إطار المتابعات الجنائية. ذلك أنه إذا كانت هذه الفقرة تنص بالحرف على ما يلي:
«........غير أنه إذا تم تكييف هذا الفعل بجناية تتقادم الدعوى بمرور عشرين سنة».
إذا كان الشطر الثاني من هذه الفقرة يتحدث عن الجنايات فالمفروض أن الشطر الأول من الفقرة نفسها، يشير إلى الجنح التي ستصبح بقدرة قادر لا تقادم لها لأنه حسب اجتهاد واضعي المشروع ستحرك الدعوى العمومية بخصوصها داخل أمد خمس سنوات من تاريخ اكتشاف السبب الموجب لتحريك هذه الدعوى، ولنفرض مثلا أن اكتشاف الجنحة تم بعد مرور ثلاثين سنة، سيبقى للنيابة العامة الحق في تحريك الدعوى العمومية الجنائية داخل أجل خمس سنوات من اكتشاف الفعل. بعبارة أخرى وفي إطار هذا المثال سيبقى الشخص أو الأشخاص المعنيين بالمسؤولية تحت رحمة النيابة العامة لمدة خمسة وعشرون سنة علما أن الأمر يتعلق بجنحة حدد قانون المسطرة الجنائية أمد تقادمها في أربع سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة.



بقلم:  علية معلمـي, ﺃستاذة جامعية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية 
جامعــة الحسـن الثانـــي عين الشـــق محامية مقبولة لدى محكمة النقـــض بهيأة الدار البيضاء

Monday, June 10, 2013

حول قانون الزامية التعليم بالمغرب "قراءة لقانونين مهملين" للقاضي محمد نجيب البقاش 6

للقراءة بشكل أفضل وأوضح المرجو النقر على الصورة
المصدر: المغربية عدد يوم الخميس30 ماي 2013

Thursday, June 06, 2013

في مفهوم الحكامة الحزبية (2)


لا يمكن اعتبار الحكامة الحزبية مجرد نمط للتدبير الديمقراطي للشأن الحزبي دون استحضار بعدها الإيديولوجي الذي
يروم تكريس فعالية الأداء الحزبي، وذلك لا يتحقق إلا من خلال مستويين، مستوى تحجيم دور المرجعيات الإيديولوجية ومستوى تقوية القدرات التدبيرية.
يتمثل مستوى تحجيم المرجعيات الإيديولوجية في مظهرين أساسيين، أولهما مرتبط بالانتقال من المشروع المجتمعي إلى المشروع السياسي، وثانيهما ذو صلة بالانتقال من الحزب العقائدي إلى الحزب البرغماتي:
يفيد المظهر الأول، المتعلق بالانتقال من المشروع المجتمعي إلى المشروع السياسي، تحولا من الاشتغال بمنطق الحركة الاجتماعية إلى الاشتغال بمنطق الحزب السياسي، ذلك أن الحركة الاجتماعية تعمل أساسا من خارج النظام السياسي القائم وتسعى إلى تقويض أركانه والحلول محله، وعليه فهي حاملة لمشروع مجتمعي بديل أو مضاد للمشروع المجتمعي الذي يستند إليه النظام القائم، لذلك فكل حركة اجتماعية تكون ملزمة، لإضفاء الفعالية على أدائها، بالإعلاء من مرجعيتها الإيديولوجية، وهي مرجعية تضفي بعدا شموليا على مشروعها الذي لن يكون إلا مشروعا مجتمعيا باعتبار أنه مشروع يطال كل مناحي حياة المحكومين، سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
يتأسس مفهوم الحكامة الحزبية، كخيار لتكريس فعالية الأداء الحزبي في مظهره الأول، على تأمين التحول بالعمل من خارج النظام السياسي القائم إلى العمل من داخله؛ وبتعبير أوضح، توفير شروط التحرر من طموحات الحركة الاجتماعية إلى القبول بإكراهات الحزب السياسي. وكم تبدو بعض الزعامات السياسية خارج السياق وهي تتحدث عن رغبة أحزابها السياسية في تطبيق مشاريعها المجتمعية؛ فالحزب السياسي بطبيعته، وفق منطق الحكامة الحزبية، لا يمكنه إلا الانخراط في المشروع المجتمعي العام للنظام القائم، وبذلك فأقصى ما يمكن أن يعمل الحزب السياسي على بلورته هو مشروع سياسي لا يشكل بديلا للمشروع القائم وإنما يعمل على إعادة إنتاجه مع إدخال بعض التعديلات والتحويرات التي لا تمس، بأي حال من الأحوال، بجوهره وماهيته. من هذا المنظور، تغدو الحكامة الحزبية، في مظهرها الأول والمرتبط بمستوى تحجيم دور المرجعيات الإيديولوجية، محاولة لتحرير الأداء الحزبي من طوباوية الحركات الاجتماعية ليعانق واقعية الأحزاب السياسية باعتبارها تنظيمات تروم تأطير المواطنين والمشاركة في تدبير الشأن العام ليس إلا.
يرتبط المظهر الثاني، المتعلق بالانتقال من الحزب العقائدي إلى الحزب البرغماتي، بالمظهر الأول شديد الارتباط؛ فالتحول من الاشتغال بمنطق الحركة الاجتماعية الحاملة لمشروع مجتمعي إلى الاشتغال بمنطق الحزب السياسي المدافع عن مشروع سياسي يقود إلى تغيير في طبيعة الحزب السياسي نفسه، حيث يغدو حزبا برغماتيا متحررا من أوهام الإيديولوجيا. وغالبا، عندما يصبح الحزب غارقا في نزعته البرغماتية فإنه لا يتذكر مرجعيته الإيديولوجية إلا عندما يجد نفسه في حالة دفاع تجاه خصومه ومناوئيه السياسيين.
تعبر النزعة البرغماتية للأحزاب السياسية، التي تسعى إلى التحرر من طابعها العقائدي عن نفسها، من خلال العديد من التجليات:
أول هذه التجليات ذو صلة بالتبريرات التي تقدمها هذه الأحزاب لتغيير مواقفها كلما تغيرت مواقعها. إن الإغراق في ممارسة النقد الذاتي هو أحد تعبيرات النزعة البرغماتية، حيث من خلاله، أي النقد الذاتي، يتحقق الالتفاف على ثوابت الإيديولوجيا؛ وهذا الالتفاف قد يوصف بكونه مراجعات من منظور الحزب الذي يعتبر نفسه برغماتيا، وقد يوصف بكونه تراجعات من منظور الحزب الذي يعتبر نفسه عقائديا؛
ثاني هذه التجليات ذو ارتباط بالخيارات المنتهجة على صعيد اختيار المرشحين؛ فقد ظلت الأحزاب التي تعتبر نفسها عقائدية، ولمدة طويلة، مدافعة عن خيار ترشيح المناضلين، غير أن هيمنة النزعة البرغماتية عليها جعلتها تتجه نحو خيار ترشيح «الأعيان» والبحث عن تمثيلية برغماتية من خلال هؤلاء الأعيان لتمنحها مضمونا عقائديا هي لا تمتلكه في الأصل؛
ثالث هذه التجليات ذو علاقة بالتحالفات التي تبرمها الأحزاب السياسية ذات المنحى العقائدي مع أحزاب سياسية ذات منحى برغماتي صرف، من أجل تشكيل أغلبيات حكومية. وفي هذه الحالة، تنتصر البرغماتية وتنمحي الحدود الفاصلة بين المرجعيات الإيديولوجية.
إذا كان المستوى الأول متمثلا في تحجيم دور المرجعيات الإيديولوجية كخيار لتكريس فعالية الأداء الحزبي، فإن المستوى الثاني لهذا الخيار يتجسد في تقوية القدرات التدبيرية التي تعبر عن نفسها من خلال مظهرين أساسيين: أولهما يركز على تحول الحزب السياسي إلى قوة اقتراحية، وثانيهما يشدد على القدرة على إعداد الأطر:
- يفيد المظهر الأول لمستوى تقوية القدرات التدبيرية تحول الحزب السياسي إلى قوة اقتراحية، حيث ينتقل من مجرد أداة للتعبئة وتقديم المطالب إلى أداة لصياغة البرامج السياسية القادرة على المساهمة في تحسين أوضاع المحكومين.
يشكل البرنامج السياسي لأي حزب سياسي مدخلا أساسيا لقياس وزنه. وتستدعي إثارة إشكالية البرنامج السياسي إبداء توضيحين:
يرتبط أولهما بكون البرنامج السياسي يتجلى من خلال صيغتين: يكون هذا البرنامج السياسي في صيغته الأولى بمثابة برنامج انتخابي عندما يعرضه الحزب على الكتلة الناخبة ليحظى بثقتها؛ ويكون في صيغته الثانية بمثابة برنامج حكومي عندما ينجح الحزب السياسي في تصدر نتائج الاستحقاقات الانتخابية ويكلف بتشكيل الحكومة، سواء بمفرده في حالة الحكومة المنسجمة أو بمعية أحزاب أخرى في حالة الحكومة الائتلافية؛
ويتعلق ثانيهما بكون البرنامج السياسي يتضمن شقين أساسيين: يرتكز الشق الأول على القيام بتشخيص دقيق للأوضاع العامة للبلاد، ويرتكز الشق الثاني على تقديم الحلول من أجل النهوض بالأوضاع العامة وفق ما يستوجبه التشخيص الدقيق لتلك الأوضاع. وعليه، فإن البرنامج السياسي، حتى لا يتحول إلى مجرد وعود سياسية، يجب أن تتسم الحلول التي يقترحها بالواقعية والقابلية للتنفيذ.
- يفيد المظهر الثاني لمستوى تقوية القدرات التدبيرية قدرة الحزب السياسي على إعداد أطر تتصف بالكفاءة المتطلبة لتدبير الشأن العام إذا كان الحزب في الأغلبية أو تتابع عن كثب كل ما يتعلق بالسياسات العمومية المنتهجة وإعداد التصورات البديلة إذا كان الحزب في المعارضة.
إن مفهوم الحكامة الحزبية، على مستوى تقوية القدرات التدبيرية من مظهره الثاني، يقتضي التمييز بشكل واضح بين مجال تكوين النخب ومجال إعداد التأطير: أكيد أن الحزب السياسي تتحدد هويته وخياراته عبر نخبته السياسية التي غالبا ما تتميز بامتلاكها قدرات عالية على صعيد الانخراط في السجالات السياسية من أجل الدفاع عن التنظيم ومرجعياته، من جهة، وإفحام الخصوم، من جهة أخرى. غير أن مثل هذه النخبة قد تلحق ضررا بالحزب السياسي عندما تتولى تدبير الشأن العام باسمه لافتقادها المؤهلات التدبيرية اللازمة. وعليه، فقد أضحت الحكامة الحزبية تفيد، من بين ما تفيده، قدرة الأحزاب على إعداد أطر قادرة على تحمل المسؤوليات العمومية أكثر مما تفيد قدرتها على إنتاج نخب لا تتقن إلا الجدل السياسي.
إجمالا، يمكن القول إننا نقصد بالحكامة الحزبية نمطا من التدبير الديمقراطي يرتكز على جملة من المبادئ، كالمشاركة وثقافة المحاسبة والرقابة المزدوجة: رقابة من أعلى إلى أسفل تمارسها القيادة الحزبية على المناضلين ومدى التزامهم بأخلاقيات العمل الحزبي، ورقابة من أسفل إلى أعلى تمارسها القواعد على القيادة ومدى قدرة هذه الأخيرة على تحقيق الأهداف المسطرة، تنظيميا وسياسيا. غير أنه لا يمكن اختزال الحكامة الحزبية في مجرد إجراءات ومساطر، فهي في نفس الآن خيار لتكريس فعالية الأداء الحزبي من خلال القدرة على صياغة استراتيجيات وتنفيذها لتحقيق التنمية في مختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.
إن الخطاب المهيمن حول الحكامة الحزبية، باختزاله لهذه الأخيرة في مجرد إجراءات ومساطر، يروم إخفاء حقيقة أساسية تتمثل في كون الحكامة الحزبية هي إيديولوجيا لمواجهة الإيديولوجيات الحزبية، حيث يتحول التنافس بين الأحزاب السياسية من تنافس موجه بمرجعيات إيديولوجية إلى تنافس محكوم بمنطق امتلاك القدرات التدبيرية من عدمها من خلال إحداث نوع من التماهي بين الفعل السياسي والأداء التقنوقراطي، وذلك بإضفاء المشروعية على تحول التقنوقراطيين إلى سياسيين، كما يصبح السياسيون من أجل الاستمرار ملزمين بالتحول إلى تقنوقراطيين.


محمد ضريف 

Wednesday, June 05, 2013

دراسة في القانون: نحو تكريس مفهوم جديد للمحاكمة العادلة (1/3)

إن الاهتمام المتزايد بالإنسان كائنا اجتماعيا له مكانة ودور تحددهما منظومة القيم التي تسود المجتمعات المنظمة، قد أصبح يطرح وبإلحاح هادف ضرورة الانتباه
 إلى كثير من المفاهيم، التي إن كان قد سبق للفكر الحقوقي أن رسخ بها ومن خلال العمل بها أسلوبا راغبا في تحصين منطق التعايش مع الآخر وقبول فكرة
 التساكن معه، فإن حدة التناقضات المجتمعية اليوم ما فتئت تفرز و بالملموس، مدى صعوبة مواكبة هذا الفكر لمدى حاجة الإنسان  لإثبات ذاته كغاية مثلى تفنى من حولها كل الأساليب المبتعدة عن تكريمه واعتبار آدميته.

بداية وقبل الانطلاق في أي حديث عن المحاكمة العادلة، لابد أن نسجل انخراطنا الإيجابي في كل الأوراش الحقوقية المفتوحة بوطننا الغالي، بل لابد أن نؤكد وبكل فخر واعتزاز بمؤسستنا القضائية المغربية، أن طموحنا في مزيد من التفرد للنموذج المغربي هو الذي يدفعنا إلى عدم البخل بمساهماتنا المتواضعة.
تختزل النظرة الضيقة مفهوم التعايش الاجتماعي في صهر الخصوصيات الفردية وتذويبها في ما تقتضيه حياة الجماعة من تشبع بمنطق «القيم المشتركة»، تنسلخ فيها الذات عن أنانية الاستفراد بالنفع لصالح أطروحات – نعتبرها اليوم متجاوزة – تعمل على تنميط سلوكات الفرد وربما تحاول إحكام السيطرة عليها بهدف تخليصها من كل مظاهر التمرد على القيم المجتمعية، ونحن إن كنا نقبل وإلى حد ما أن خصوصيات المجتمع المنظم تقتضي تشذيب فضاء الحقوق والحريات وتهذيب ردود الفعل المجتمعية خدمة للقضايا الإنسانية النبيلة التي تحصن المجتمع لذاته ولأفراده، فيجب أن لا يغرب عن البال أن المقاربة الأضمن لبلوغ ذلك لا تنطلق من إنزال الحقوق والحريات منحا تعبر فيها التشريعات عن مدى سخائها، بل تهتم بما ستؤول إليه الممارسة من احتواء وتجاوب مع روح منظومة حقوق الإنسان، لأنه على أي حال الدليل القطعي على مدى سلامة الخطاب التشريعي ومدى توفقه في اختيار المنهجية الملائمة لإبراز دوره.
إذن هناك إشكال – على الأقل في نظرنا المتواضع – على مستوى المكانة التي ينبغي الاعتراف بها للفرد الإنسان داخل المجتمع.  ومن دون المغالاة في البحث عن إرضائه، ومن دون الانسياق كذلك وراء السمو به إلى حياة لا علاقة لها بتلك التي نعيشها و ننفعل بمتناقضاتها، نقول إنه إذا كان الفكر الحقوقي لازال يبحث له عن وضعية قانونية تلائمه اجتماعيا، فما من شك أن الطريقة المثلى لمحاكمته لا يمكن سوى أن تكون مستعصية، ليس فقط لأن مفهوم المحاكمة كان وربما سيظل موضوعا يحمل كثيرا من الاختزال، بل أيضا لأن الاتفاق حوله شبه مستبعد، على الأقل إذا استحضرنا وبشكل موضوعي التباين الواضح الذي يسود فضاءات الفكر الذي يؤسس له. 
وقد نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول إلى أن موضوع المحاكمة في حد ذاته، وانطلاقا من طبيعة اشتغاله وتنوع مجالات توظيفه لا يرتبط بتاتا بتأصيل نظري يحتاج إلى توحيد الاجتهاد حوله عاصفا بكل الحدود الجغرافية والسياسية والثقافية …، بل هو مجال تحكمه إكراهات الممارسة وتواجه فيه حقيقة إنسانية بامتياز.
 ولعل الأمر يزيد تعقيدا عندما نبحث للمحاكمة عن وصف العدل، خصوصا عندما يطلب منا أن نجتهد لنضع لذلك شروطا أو ضمانات أو معايير…، وكلها باعتقادنا تؤكد حقيقة واحدة، أن المجتمع الدولي واع تمام الوعي أن مفهوم المحاكمة العادلة هدف أسمى يلتزم فتح أوراش إصلاحية كبرى، ليس فقط من قبل الدول التي اهتدت إلى المراهنة على التمسك بمقتضيات الحق والقانون كما هو الشأن بالنسبة إلى بلدنا، بل أيضا بالنسبة للدول التي قطعت أشواطا في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولنأخذ مثلا فرنسا التي فتحت مؤخرا مجالات عميقة لإصلاح العدالة عموما والجنائية منها على الخصوص، ليتأكد لنا أن موضوع المحاكمة العادلة ليس خطابا فوقيا توجهه الدول المتقدمة إلى الدول النامية، أو هو مراهنة اختباريه لمدى التزام هذه الأخيرة بفتاوى الدول الأولى في مجالات الإصلاح والتنمية، بل هو توجه حضاري انتهى إلى أن كرامة الإنسان واحترام آدميته هو المنطلق السليم لمواجهة كل التحديات سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية : وما المشاكل الحادة التي تواجهها الدول اليوم، خصوصا منها المتقدمة لمكافحة ظاهرة الجريمة إلا مؤشر على تغييب هذه الحقيقة الإنسانية الدالة على أن القوانين إنما تسن لتأطير سلوك المواطنين لا لابتكار نماذج خاصة من السلوك. 
ومع ذلك، لا بد أن نعترف أن القوانين مهما ظهر عيبها وانكشفت صعوبة احتوائها للحقائق الإنسانية محور تنظيمها، ستظل دائما بحاجة إلى خبرة الممارسة وكثير من النضج على مستوى التطبيق : فهذه المحطة الضرورية، فضلا عن أنها تضفي الهامش المطلوب من النجاعة على المجهود التشريعي المبذول، فالفلسفة التشريعية ذاتها إنما تبنى حقائقها القانونية لا حقائق ثابتة – بمفهوم الجمود– يتم إسقاطها على الواقع، بل حقائق نسبية يكملها هذا الأخير بتنوعه ومتغيراته، ومن ثم يصبح لمفهوم المحاكمة العادلة أهمية قصوى، لأن استحضاره ينمي لدى الفرد الإنسان الوعي بمصداقية الخطاب التشريعي وكذا ضرورته، والتمسك به يكرس المعادلة المطلوبة بين مدى حاجة المجتمع إلى التنظيم وبين مدى اعتبار الفرد الإنسان مخاطبا حقيقيا لا يقل عنه شأنا أو يفضله.
لن نكون مبالغين إذا قلنا إن موضوع «المحاكمة العادلة» يعتبر من المواضيع الأكثر حساسية لأنه أصبح رهان الدول الحديثة التي اهتدت، عن صواب، إلى أن ضمان الأمن والاستقرار للأفراد كالتزام تقليدي يقع على عاتقها لا ينبغي أن يذهب بها إلى حد حسم المعادلة لفائدة المجتمع، الذي مهما عبرت ردود أفعاله عن مطالب مشروعة ونزيهة، يجب أن لا تصل إلى حد تغييب الحقيقة الإنسانية عن مفهوم التعايش الاجتماعي، و لعله البعد الحضاري الذي تروم دولة الحق ملامسته، لأن أساس الحفاظ على المجتمع وضمان تماسكه يقتضي ضرورة الانتباه لمختلف مظاهر التمرد على القيم المجتمعية، ليس بهدف إقصائها أو إبراز كثير من القسوة في ردعها، بل رغبة في احتوائها كحقائق واقعية ملازمة لحركية المجتمع، تتطلب من الدولة أجوبة مقنعة باعتبارها المؤتمن الأول على تدبير التناقضات المجتمعية، وهي مهمة كما تضمن للمجتمع أمنه واستقراره فهي تضمن للفرد كذلك ما يقيه كل مظاهر التعسف. ولعلها الغاية المثلى التي تتوخاها المحاكمة العادلة، فهذه الأخيرة لا تعني تساهلا أو تبريرا للسلوك المناوئ للمجتمع، بل هي فقط طريقة قضائية تمكن من احتواء السلوك ذاته وتفريد الحل القانوني الذي يلائم خطورته الاجتماعية الحقيقية لا المفترضة.

بقلم: د. فريد السموني,  أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بالمحمدية

كتاب اليوم 2 : مسائل في علم الاجتماع - بيير بورديو

صدرَ كتاب «مسائل في علم الاجتماع» في 1984 عن دار النشر مينوي بباريس. جَمعَ بورديو في هذا الكتاب تسعة عشر حواراً ومحاضرة تلخص فكره، ألقاها في أماكن مختلفة في فرنسا، في جامعات ومؤتمرات ومقابلات صحفية تحّدثّ فيها عن أسرار علم الاجتماع وعن كيفية صياغة النتائج المتصلة بموضوع ما على نحو يخدم المهيمنين ويحجب الحقيقة عن أنظار الآخرين في مجالات عديدة. فهو يُلقي الضوء على نهج ومفاهيم علم الاجتماع الذي بلوره (الحقل، المتصل الوراثي، رأس المال، الاستثمار وما إلى ذلك...) وعلى مسائل إبستمولوجية وفلسفية واجتماعية يطرحها علم الاجتماع وتحليلات جديدة للثقافة والسياسة والإضراب والنقابات والرياضة والأدب، والموضة والحياة الفنية واللغة والموسيقى. من خلال الولوج إلى العمل السوسيولوجي وهو في طور الإعداد، يُتيح بورديو الفرصة للمتلقي أن يتمكّن من نهج تفكيرٍ معين وليس التماهي مع فكرٍ جاهز فحسب

حول قانون الزامية التعليم بالمغرب "قراءة لقانونين مهملين" للقاضي محمد نجيب البقاش 4



للقراءة بشكل أفضل وأوضح المرجو النقر على الصورة
المصدر: المغربية عدد يوم الثلاتاء 28 ماي 2013

Tuesday, June 04, 2013

دراسة في القانون: المحاكمة العادلة على ضوء المواثيق والمعاهدات الدولية والعمل القضائي الدولي (الحلقة الأخيرة)

تعتبر المحاكمة العادلة من أهم مواضيع حقوق الإنسان، وهي مؤشر على مدى احترام الدولة لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، ومقياس أصيل
 في بناء دولة القانون.    وقد يعتقد البعض عن خطأ أن المحاكمة العادلة ضماناتها تخص القضاء الجنائي وحده، بيد أن المحاكمة العادلة
 تصورها وضرورتها وتجلياتها تمتد لتشمل القضاء المدني وغيره من شعب القضاء الأخرى.

الالتزام بكفالة حرية الممارسة الكاملة لتلك الحقوق والحريات، على هذا النحو يعني واجب الدول الأطراف تنظيم الأجهزة الحكومية وكل الهياكل التي تمارس من خلالها السلطة العامة على النحو، الذي يجعلها قادرة على أن تؤمن قانون حرية التمتع تمتعا كاملا بحقوق الإنسان، ونتيجة لذلك يجب على الدول أن تمنع وتتقصى وتعاقب أي انتهاك للحقوق التي تعترف بها الاتفاقية، وأن تسعى، إن أمكن بالإضافة إلى ذلك، إلى إعادة الحق المنتهك وتوفير التعويض على النحو الذي تبرره الأضرار الناتجة عن الانتهاك..
وقد أضافت المحكمة المذكورة أن الالتزام بكفالة حرية ممارسة حقوق الإنسان ممارسة كاملة لا يتم الوفاء به بمجرد وجود نظام قانوني ييسر الامتثال، بل هو يقتضي أيضا من الحكومات أن تتصرف على النحو الذي يكفل فعلا حرية ممارسة حقوق الإنسان ممارسة تامة.
وفي ما يخص مسألة المنع أكدت المحكمة أن الدولة تتحمل واجبا قانونيا قوامه اتخاذ كافة الخطوات المعقولة لمنع انتهاكات حقوق الإنسان واستخدام الوسائل الموضوعة تحت تصرفها لإجراء تحقيقات جادة في الانتهاكات المرتكبة  ضمن حدود ولايتها. والتعرف على هوية الأشخاص المسؤولين، وفرض العقوبة الملائمة، وأن تكفل للضحية التعويض الملائم.
والواجب القانوني الذي تتحمله الدول الأطراف في الاتفاقية باحترام وتأمين الحقوق على نحو ما حددته محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، هو واجب متعدد الأوجه وينفذ إلى صميم هياكل الدولة بأسرها، وبالإضافة إلى محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، هناك لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان والتي تعني كذلك باحترام حقوق الإنسان والدفاع عنها بما في ذلك المحاكمة العادلة، وبذلك فهي تساهم من خلال توصياتها إلى إشاعة الوعي بحقوق الإنسان داخل الأقاليم الأمريكية التي تنشط فيها.
ونؤكد في الأخير، أن محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان تتألف من 7 قضاة ينتخبون بصفتهم الشخصية، والأحكام الصادرة عن المحكمة نهائية بحيث تتعهد الدول الأطراف بالامتثال لتلك الأحكام في أي قضية تكون تلك الدول طرفا فيها.
وقد تناولت اللجنة والمحكمة عددا لابأس به من القضايا التي يمكن الوقوف عليها في التقارير السنوية المقدمة من  قبل كل منهما. 
لقد كانت هذه محاولة تأصيلية لضمانات المحاكمة العادلة سواء على مستوى الاتفاقيات الدولية أو على مستوى أحكام القضاء الدولي، علما أن الشريعة الإسلامية كانت سباقة إلى هذا التأصيل بإقرارها ومند 14 قرنا مضت لضمانات المحاكمة العادلة سواء في الكتاب أو السنة أو عمل الصحابة رضي الله عنهم؛ قال تعالى في سورة الإسراء : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " والذي يمثل بحق مضمون مبدأ الشرعية الجنائية " لا جريمة و لا عقاب إلا بنص "، وكذا من خلال قوله تعالى: " وإن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين "، والذي يشكل دلالة على ضرورة التحري والبحث والإتيان بالحجة الدامغة للتصريح بالإدانة أو البراءة في إطار القناعة الوجدانية للقاضي الجنائي،  على اعتبار أن تبرئة مائة متهم خير من إدانة بريء.
وتكريسا لمبدأ المساواة أمام القضاء كإحدى ضمانات المحاكمة العادلة قال رسول الله عليه وسلم: " من ولي القضاء فليعدل في المجلس والكلام واللحظ ".
وقال عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: " آسي بين الناس في مجلسك وعدلك ووجهك حتى لا يطمع الشريف في حيفك ولا يتأثر الضعيف من عدلك. 
وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان أمير المؤمنين وقع في خصام مع أبي بن كعب الذي ادعى نخلا في يد عمر فقال بن كعب: هو لي وقال عمر : هو لي ، فاختصما إلى زيد بن ثابت، فلما انتهيا إليه قال عمر بن الخطاب السلام عليكم، فرد زيد وعليكم السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله فقال عمر: بدأت بجور قبل أن أدخل الباب، فلما دخل قال هاهنا يا أمير المؤمنين فقال: وهذه مع هذه ولكن مع خصمي فقال عمر: هو نخلي في يدي، فقال زيد لابن كعب : هل لك بينة قال لا، قال: فاعف إذا أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر : ما زلت جائرا منذ دخلنا عليك وعليك يا أمير المؤمنين ، وها هنا يا أمير المؤمنين، واعف أمير المؤمنين من اليمين ولم يعفيني منها إن عرفت شيئا أخذته بيميني قال ثم أخذته بيميني قال تم حلف عمر أن النخل نخله وما لابن كعب فيه حق فقال ابن كعب: والله إنك لصادق وما كنت تحلف إلا على حق تم قال عمر : هو لك بعدما حلف.

بقلم: يونس العياشي, قاض ملحق بوزارة العدل والحريات 
دكتور في الحقوق



ملاحظات حول إصلاح النظام الجبائي المغربي (5/5)


إعادة تنظيم سياسة التدخل الجبائي
أصبحت سياسة التدخل بواسطة الضريبة تفرض نفسها، أكثر من
أي وقت مضى، كوسيلة متميزة لتحقيق أهداف متعددة وعلى جميع المستويات. لكن استعمال هذه السياسة يتطلب شروطا من قبيل «الدراسة، المتابعة، المراقبة والتقييم»، وذلك لضمان نجاحها. من هنا، تكمن أهمية وضرورة إعادة تنظيم سياسة التدخل الجبائي في المغرب بحيث تأخذ بعين الاعتبار هذه الشروط لتجاوز بعض سلبيات السياسة المعتمدة، خصوصا وأن المغرب أصبح يتوفر على تقارير سنوية حول النفقات الجبائية.
1 – ضرورة اعتماد معايير ومبادئ جديدة:
سنحاول تحديد بعض المعايير والمبادئ الجديدة التي ستساعد على عقلنة نظام التدخل الجبائي، وتشكل أيضا قطيعة مع التجارب السابقة.
أ- التحديد الدقيق للأهداف: إن ثنائية التدخل الجبائي والتنمية تتطلب الانطلاق، أولا، من توضيح أي شكل من السياسة الجبائية في خدمة أي شكل من التنمية؟ فالسياسة الجبائية في الدول المتقدمة تخضع لتحليل مفاهيمي يأتي في إطار سياسة متكاملة، تعتمد استراتيجية متوسطة أو بعيدة المدى. وبالنسبة إلى تجربة المغرب، يلاحظ كيف أن أغلب الإجراءات الجبائية جاءت ضمن سياسة ظرفية، إما بفعل تأثير جهة معينة أو لتجاوز أزمة قطاع معين، حتى أصبحنا أمام صورة كاريكاتورية تتمثل في أن «أي مشكلة تطرح إلا ويتم البحث لها عن حل في السياسة الجبائية».
لذلك، فإن سياسة تدخل جبائي فعال تقتضي تجاوز الممارسات التي طبعت تنفيذها خلال العقود الأخيرة، كما تتطلب وضع حدود فاصلة بين ما يمكن وما لا يمكن حله عن طريق الجباية؛ فالتنمية الحقيقية لا تتحقق بفعل الصدفة، ولكن نتيجة سياسة ملائمة ومحددة تعتمد توجهات ودراسات متخصصة لطبيعة هذه التنمية. وفي هذا الإطار، تبرز قيمة عملية التحديد الدقيق للأهداف المنشودة من وراء منح التدخل الجبائي، وكذا تحديد وسائل التطبيق. وهذه الخطوة يجب أن تكون ضمن رؤية متوسطة المدى، ووفق سياسة كاملة، تعتمد على الاعتبارات التالية:
- الواقعية في التصورات: فالأهداف يجب أن تكون قابلة للتحقيق وتتماشى والإمكانيات المادية والبشرية المتوفرة. والابتعاد عن أسلوب المزايدات إرضاء للحسابات الانتخابوية التي عهدناها في الحكومات المغربية المتعاقبة والأرقام المبالغ فيها
- التدقيق في التوقعات: لأن المسألة تتعلق بمستقبل البلاد، فلا بد من تجاوز المظاهر الخادعة التي تميز غالبا عملية تحديد الأهداف المتوقعة، ولا جدوى من تحديد تصور نظري يعتمد على توقعات خيالية.
- تحديد الوسائل التطبيقية: فأي سياسة تحتاج إلى وسائل لتنفيذها، لذلك يجب إبراز كافة الوسائل التي ستمكن من تحقيق أغلب الأهداف المتوقعة.
- الوضوح في التوجهات: ضرورة تحديد القطاعات الإنتاجية القادرة على تحقيق الأهداف المتوقعة، وعدم إدخال قطاعات لأسباب أخرى بغية الاستفادة فقط من الامتيازات لا غير، فمبدأ الضروري والضروري جدا يفرض نفسه هنا.
ب- اعتماد مبدأ التصنيف: إن تدخل جبائي فعال في إطار الاستراتيجية الجبائية الجديدة، يقتضي، تصنيفا للإجراءات التشجيعية المستعملة، وذلك حسب أهميتها ومدى ملاءمتها للأهداف المنشودة؛ فانعدام هذا التصنيف يؤثر سلبا على فعالية مبدأ التدخل الجبائي ويجعل نظام الامتيازات الجبائية بشكل عام نظاما سكونيا.
ج – تصنيف الامتيازات الجبائية: فالتجارب السابقة بينت أن الامتيازات الجبائية تم سنها في أغلب الأحيان بغية تمكين فئة قليلة من المقاولات، وبعض الفاعلين، من الاستفادة منها. وذلك دون أية علاقة بين هذه الامتيازات والأهداف التنموية. وقد كلفت هذه السياسة التشجيعية الخزينةَ العامة خسارةً مهمة أثرت، بشكل كبير، على مسار السياسة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. والمبدأ الأساسي الذي يجب اعتماده في هذا الإطار هو منح -فقط- الامتيازات الجبائية (الضرورية والضرورية جدا)، وكذلك التمييز بين الإجراءات التي تشجع توجيه الاستثمارات نحو القطاعات المنتجة، والإجراءات التي قد تعرقل هذا التوجه. وأخيرا، فإن مبدأ التصنيف يعطي للنظام التحفيزي الوسيلة الضرورية لمراقبة المشاريع المستفيدة، وبالتالي ضمان المردودية وتقليص نسبة الخسارة الجبائية.
د – تصنيف الاستثمارات المستفيدة: يعد الاستثمار شرطا أساسيا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكن لا يمكن اعتبار جميع الاستثمارات المنجزة أو المستفيدة، صالحة للمساهمة في تحقيق هذه التنمية؛ فسياسة تشجيع الاستثمار كانت نتيجتها خليطا متنوعا من المشاريع، وهي في أغلبها لا تدخل في إطار التخطيط الموجه حسب الاختيارات الأولية. والتدخل الجبائي الفعال يقتضي تصنيفا للمشاريع الاستثمارية المستفيدة، وذلك حسب أهميتها والدور الذي يمكن أن تلعبه في سبيل تحقيق التنمية المنشودة.
وفي هذا الإطار، يرى الأستاذ فونتانو أن «مفهوم التصنيف في السياسة الجبائية يشكل أهمية رئيسية في مجال الاستثمار، لأن المفهوم الكيفي هنا يعد أكثر من المفهوم الكمي». كما أن خبراء منظمة التجارة والتنمية يحذرون سلطات الدول النامية من سياسة جلب أي استثمار. ولكن يجب الاقتصار فقط على الاستثمارات التي تتوفر على الإمكانيات التي تجعلها تساهم في تأهيل اليد العاملة أو الانتقال التكنولوجي، وكذا تنمية بعض القطاعات الأساسية. وتصنيف المشاريع يبرز بشكل واضح قيمة بعضها؛ فقد تكون مهمة من الناحية النظرية (أي على الأوراق)، في حين بمجرد دخولها حيز التنفيذ تكون نتائجها مخيبة للآمال. والأمثلة في المغرب كثيرة ومتنوعة حتى إن بعض الاستثمارات جاءت إلى المغرب في مرحلة سابقة فقط للاستفادة من الامتيازات.
2 – تقرير النفقات الجبائية آلية لعقلنة سياسة التدخل الجبائي:
يعد مفهوم النفقات الجبائية الإطار النظري الملائم لدراسة وعقلنة ظاهرة استعمال الجباية لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية؛ فقد أكد الأستاذ مكطوف والأستاذ سوري، منذ سنة 1982 على أهمية التحليل بمفهوم النفقات الجبائية، قصد عقلنة السياسة الجبائية بشكل عام، وركزا على إيجابيات هذا التحليل بالنسبة إلى الدول النامية. وهكذا، فإن أغلب دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية تنجز -منذ عقود- تقارير دورية حول النفقات الجبائية، تساعدها على الوقوف على نقائص سياستها الجبائية.
وبالنسبة للمغرب يعتبر أول بلد على الصعيد الإفريقي والعربي الذي ينجز تقريرا حول النفقات الجبائية ويقدم كوثيقة مصاحبة للقانون المالي السنوي، وذلك منذ إنجاز أول تقرير سنة 2006. وبطبيعة الحال، فإن هذه التقارير ستنعكس إيجابيا على مجموع السياسة الجبائية، بل ستساهم في إنجاح أي تستراتيجية جبائية جديدة؛ كيف ذلك؟
أ- ستساهم في الوقوف على نقائص السياسة الجبائية وإصلاحها: ساهمت الدراسات التي تهتم بالنفقات الجبائية في الدول المتقدمة بشكل كبير في معرفة الوضعية الحقيقية لنظام الامتيازات والتشجيعات الجبائية، فمجموعة من هذه الامتيازات قد تفقد أو لا تجد مبررا وتفسيرا عمليا لوجودها، وبالتالي تصبح مسألة التخلي عنها وتجاوزها أمرا ضروريا. وقد أصبحت هذه التقارير تلعب دورا أساسيا في قرار السياسة الجبائية لهذه الدول، حيث إن تحليلها يساعد على معرفة أهمية الإجراءات الجبائية وقيمتها، وبالتالي تبريرات وجودها.
فدراسة هذه التقارير ساهمت -مثلا- بفنلندا في التعرف على نقائص نظامها التشجيعي، والوقوف على عدم جدوى بعض الإجراءات الجبائية التشجيعية، وتم التخلي عن هذه الإجراءات بموجب إصلاحي 1989 و1993. كما أن الحكومة البريطانية تنشر التقرير السنوي حول النفقات الجبائية شهورا قبل نشر الميزانية، وذلك للمساعدة على معرفة سلبيات بعض الإجراءات الجبائية وإدخال التعديلات الملاءمة. إذن، أصبحت دراسة النفقات الجبائية تشكل أهمية كبرى في الدول المتقدمة، سواء على صعيد معرفة نقائص نظام التشجيعات الجبائية أو باعتبارها وسيلة لإعلام البرلمان والرأي العام بكافة هذه الإجراءات. أما في المغرب، فمن خلال هذه التقارير يمكن استنتاج كيف أن العديد من الامتيازات الجبائية لا تستند إلى مرجعية حقيقية، وأن الاحتفاظ بها كان يرجع فقط إلى غياب دراسات دورية تستطيع الوقوف على عدم جدواها. وبالتالي فقد أصبح بإمكان السلطات المسؤولة التخلي عن هذه الامتيازات؛ الشيء الذي سيساعد على تطوير سياسة التدخل الجبائي، وفي نفس الوقت الرفع من قيمة المداخيل الجبائية.
ب- إبراز صعوبات السياسة الجبائية وتقييمها: استطاعت دراسة النفقات الجبائية إبراز الصعوبات والعراقيل التي تعترض النظم الجبائية في الدول الصناعية، وشكلت هذه الخلاصات نقطة انطلاق لدراسة السياسة الجبائية وتوجيهها بشكل أكثر فائدة؛ فمثلا في إسبانيا أصبح تقرير النفقات الجبائية يساهم منذ سنة 1979 في إنجاز أهم التغييرات في السياسة الجبائية لهذا البلد، كما ساعد على تقليص نسبة الخسارة المالية وعقلنة نظام التشجيعات الجبائية؛ كما أن هذه الدراسات لعبت دورا مهما في إنجاز الإصلاحات الجبائية التي عرفتها (الولايات المتحدة الأمريكية، فنلندا، بريطانيا، البرتغال،…).
إذن نفس الشيء يمكن أن يحدث بالمغرب، فمعطيات وخلاصات هذه التقارير، إذا ما تم التعامل معها بموضوعية، ستساهم حتما في تحديد إيجابيات وسلبيات السياسة الجبائية بشكل عام؛ وتحليلـُها سيساعد على مقارنة الأهداف المنشودة مع تكلفتها المالية والنتائج المحققة، وبالتالي سيمكن من إنجاز إصلاحات جادة وهادفة تستجيب لتحديات الظرفية الاقتصادية التي يعرفها المغرب.
وكخلاصة، فقد حاولنا من خلال هذا المقال إبراز بعض الملاحظات حول استراتيجية السياسة الجبائية الجديدة التي أصبحت تفرضها المرحلة الحالية لبلادنا والتي ستساهم في تخطي التحديات المطلوبة مواجهتها. لا نقول إنها دروس يجب تبنيها، ولكنها أفكار وملاحظات قابلة للنقاش ومساهمة في إغناء النقاش الدائر في بلادنا والذي حاولت المناظرة الوطنية الثانية حول الإصلاح الضريبي تفعيله. وحتى لا نفوت الفرصة مرة أخرى فقد حان الوقت لتجاوز السياسة المعتمدة، وذلك بنهج تفكير جديد يقوم على توجهات ومبادئ جديدة هي القادرة على إدماج السياسة الجبائية في عملية التنمية المنشودة للتوجه ببلادنا نحو مستقبل أفضل.


حميد النهري

Sunday, June 02, 2013

حول قانون الزامية التعليم بالمغرب "قراءة لقانونين مهملين" للقاضي محمد نجيب البقاش 3

للقراءة بشكل أفضل وأوضح المرجو النقر على الصورة
المصدر:  المغربية عدد يوم الاثنين 27 ماي 2013

دراسة في القانون: المحاكمة العادلة على ضوء المواثيق والمعاهدات الدولية والعمل القضائي الدولي (الحلقة الخامسة)

تعتبر المحاكمة العادلة من أهم مواضيع حقوق الإنسان، وهي مؤشر على مدى احترام الدولة لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، ومقياس أصيل
 في بناء دولة القانون.    وقد يعتقد البعض عن خطأ أن المحاكمة العادلة ضماناتها تخص القضاء الجنائي وحده، بيد أن المحاكمة العادلة
 تصورها وضرورتها وتجلياتها تمتد لتشمل القضاء المدني وغيره من شعب القضاء الأخرى. بناء على ذلك، وبما أن أصحاب الدعوى لم يتمتعوا بالدرجة الدنيا من الحماية في ظل سيادة القانون في مجتمع ديمقراطي، فإن انتهاكا قد حدث للمادة 8 في هذه الحالة.
وتبين للمحكمة الأوربية وجود خروقات للمادة 8 في حالات مماثلة مثل قضية كروسلين وقضية مالونوالتي، تبين أن الأحكام الصادرة فيهما شأنها شأن الحكم الصادر في قضية هوفينغ، قامت على أساس أن الممارسات المعينة لا تمتثل للشروط المؤطرة بعبارة « وفقا للقانون» الواردة في المادة 8.
وفي ما يخص الحق في عدم التدخل في شؤون المراسلات، حقا من حقوق الإنسان وإحدى ضمانات المحاكمة العادلة، نجد أن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان قد توصلت بعدة شكاوى في هذا المجال.
ومن أبرز هذه القضايا في هذا المجال قضية فايفر وبلا نكل، اللذين كانا محتجزين احتياطا، وفي إحدى الرسائل عمل القاضي القائم بالتحقيق على حذف بعض الفقرات فأصبحت لا تقرأ، وقد رأى القاضي أن هذه الفقرات تتضمن نكتا ذات طابع مهين لموظفي السجن، ورأت المحكمة أن حذف مقتطفات يشكل تدخلا لا مبرر له في مراسلات صاحب الدعوى.
وقد اتفقت في الرأي مع اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان في أن الرسالة تضمنت بشأن الأوضاع السجنية وبالخصوص سلوك بعض موظفي السجن، ولاحظت أنه بالرغم من أن بعض العبارات التي استخدمت كانت بلا شك عبارات قوية، إلا أن جزءا من رسالة خاصة كان المفروض في إطار التشريع القائم أن يقرأها السيد فايفر وقاضي التحقيق دون سواها.
   وقد أشارت المحكمة الأوربية إلى حكمها الصادر في قضية سيلفر وآخرين، بحيث رأت أنه ليس هناك أي داع في مجتمع ديمقراطي إلى اعتراض سبيل رسائل خاصة محسوبة على أنها تنطوي على إهانة السلطات.
وعلى الرغم من أن حذف المقتطفات في قضية فايفر وبلا نكل، اعتبرت تدخلا أقل خطورة إلا أنه مع ذلك يشكل خرقا للمادة 8 من الاتفاقية .
وفي الإطار نفسه، أطلعتنا المحكمة الأوربية على قضية المحامي شوننيبيرغوالسيد دور ماز، والتي تتعلق بمراسلات بين محام وشخص كان رهن الاعتقال الاحتياطي.
وصاحب الدعوى هو سائق سيارة أجرة أوقف بمدينة جنيف السويسرية، حيث كان مشتبها فيه بالاتجار في المخدرات وقد تم نقله  بعد ذلك إلى مدينة زيريخ. 
وبعد عدة أيام طلبت زوجة السيد دوماز من المحامي شوننبيرغ أن يتولى الدفاع عن زوجها المعتقل، إذ وجه المحامي رسالة إلى مكتب المدعي العام مرفق بها رسالة أخرى طبقا لما تقتضيه التشريعات السويسرية طالبا منه إحالة تلك الرسالة إلى الجهة الموجهة إليها.
وفي هذه الرسالة قال شوننبيرغ لدورماز، إن زوجته كلفته بالدفاع عنه موصيا إياه أن من حقه رفض الإدلاء بأي بيانات وأن أي شيء يقوله يمكن أن يستخدم ضده، فقام المدعي العام بحجز هذه الرسالة ولم يبلغها إلى دورماز، وبموجب أمر صادر قرر مكتب المدعي العام في وقت لاحق تعيين محام من زيوريخ لتمثيله.
وأقرت المحكمة أن الغاية من حجز هذه الرسالة كانت منع الاضطراب أو الإجرام وإمكانية التواطؤ معتمدة في ذلك على سوابقها القضائية.
بيد أن اللجنة انتهت في خاتمة المطاف إلى أن التدخل محل الطعن ليس مبررا بوصفه ضروريا في مجتمع ديمقراطي ورفضت الحجج التي ساقتها الحكومة والقائلة إن الرسالة تزود دورماز بمشورة لها صلة بالإجراءات الجنائية المنتظر إجراؤها وهي ذات طابع قد يعرض للخطر إجراءها على النحو السليم، وبالتالي حدث إخلال بالمادة 8 في هذه الحالة علما أن العلاقة بين الشخص المشتبه فيه أو المتهم ومحاميه هي علاقة متميزة ولو كانت احتمالية ويتعين على السلطات المحلية أن ترعاها بعناية خاصة. 
كان هذا نموذج من عمل قضاء المحكمة الأوربية في التصدي لخرق بعض ضمانات المحاكمة العادلة، علما أن ثمة حقوقا أخرى ذات الصلة بالموضوع كحق الشخص في أن يعامل بإنسانية وعدم استعمال التعذيب لانتزاع اعترافات منه وحقه في أن يتم إعلامه بالتهم الموجهة إليه بلغة يفهمها وحقه في الحصول على مساعدة قانونية إلى غير ذلك من الحقوق التي تسعى المحكمة الأوربية إلى ضمانها.
المطلب الثاني  : قضاء محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان
من أشهر قضايا هذه المحكمة قضية فاليزكير التي تتعلق باختفاء واحتمال وفاة هذا الأخير.
وترى المحكمة أن الالتزام باحترام الحقوق والحريات المتمسك بها في الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان يعني أن ممارسة السلطة العامة لها حدود منبثقة عن حقيقة أن حقوق الإنسان هي خاصية متأصلة في الكرامة الإنسانية وبذلك فهي تعلو على سلطة الدول.

بقلم: يونس العياشي , قاض ملحق بوزارة العدل والحريات 
دكتور في الحقوق

Saturday, June 01, 2013

ملاحظات حول إصلاح النظام الجبائي المغربي (4/5)


2 - 3 - 2) كيفية تطبيق الضريبة على الثروة في المغرب: إن تطبيق الضريبة على الثروة في المغرب سيعتمد على
نوعين من الضرائب: النوع الأول هو الضريبة على الثروات الكبرى، وهي الضريبة التي تهم ملكية الرأسمال؛ والثاني هو الضريبة على التركات والتي تـُفرض عند انتقال هذه الملكية في حالة الوفاة. ويمكن اعتبار الضريبتين متكاملتين وتشكلان مظهرا من مظاهر التوجه الاجتماعي للنظام الجبائي. وقد أكد أحد المختصين ذلك بقوله: «إذا اعتبرنا أنه ضروري تشجيع الغنى في المستقبل وتفادي انتقال اللامساواة على صعيد الملكية، فإن ذلك سيبرر أكثر جباية الرأسمال -مثلا- عن طريق الضريبة على الثروة والضريبة على التركات».
وسنحاول في ما يلي إبراز بعض الخطوط العريضة لكيفية تطبيق هاتين الضريبتين:
أ- الضريبة على الثروات الكبرى: يتضح الهدف الاجتماعي لهذه الضريبة من خلال تسميتها، فهي لن تهم سوى الثروات الكبرى. وقد عرف التشريع الفرنسي هذا النوع من الضريبة سنة 1982، وتم تقديمها آنذاك على أنها «عادلة من الناحية الاجتماعية، منطقية اقتصاديا، وبسيطة من الناحية التقنية». وكأي ضريبة جديدة، تحتاج هذه الضريبة إلى الإجابة عن ثلاثة أسئلة: الوعاء الذي ستعتمده والمستوى الذي تبدأ منه، ثم معدلات أسعارها، وهذا ما سنحاول تحديده.
- وعاء الضريبة على الثروات الكبرى: يرى العديد من المختصين في مجال الجباية أن الضريبة على الثروة يجب أن تتميز بالشمولية، بحيث لا يخرج عن وعائها أي عنصر من عناصر الثروة. لذلك، فعادة ما يشمل وعاء هذه الضريبة الثروةَ في مجموعها وحسب مختلف أوجهها، سواء كانت قيما غير منقولة (عقارات مبنية وغير مبنية، حضرية أو قروية،...) أو قيما منقولة (أسهم، أرصدة بنكية،...) وبعض المواد المختلفة التي تعتبر ثراء (ذهب، تحف فنية، مراكب ترفيهية، سيارات فاخرة،...).
    وبالنسبة إلى بلادنا، فإن عملية تحديد وعاء هذه الضريبة تتطلب نوعا من الواقعية والحذر، فالاهتمام يجب أن يقتصر فقط على العناصر الأكثر أهمية والتي لن تلاقيَ اعتراضات كبيرة؛ فبعض المواد، ولاعتبارات ترتبط بالعادات والتقاليد، تدخل في إطار الخصوصيات التي لا يمكن المساس بها أو التدخل فيها، بل إن جبايتها ستفشل المشروع بأكمله. وعلى هذا الأساس، فإن وعاء الضريبة على الثروات الكبرى في المغرب يمكن أن يشمل: الأملاك العقارية المبنية وغير المبنية (أراضي فلاحية، عمارات، أراضي عقارية، فيلات...)، بعض الأصول غير الثابتة (أسهم، أرصدة مصرفية، قروض رهنية،...)، ثم بعض العناصر الأخرى التي تعتبر من مظاهر الثروة (سيارات فاخرة، مراكب ترفيهية،...).
وتحتسب الضريبة بناء على القيمة التجارية لعناصر الثروة، وذلك بعد خصم كافة الديون المستحقة، أي أن «الثروة الصافية» هي الخاضعة للضريبة؛
- مستوى الثراء الذي تبدأ منه الضريبة: يتميز فرض الضريبة على الثروات في أغلب الدول المتقدمة بانخفاض مستوى الحد الأدنى الذي تبدأ منه الضريبة. وفي المغرب يجب أن يأخذ تحديد هذا المستوى بعين الاعتبار عنصرا أساسيا، هو عدم جباية الممتلكات الصغرى والمتوسطة؛ فلكي تكون الضريبة مقبولة لا بد من أن تركز فقط على الثروات الكبرى. وبناء على بعض المعطيات حول توزيع الثروات، فإن أحد الخبراء المغاربة يرى أن مبلغ (مليوني درهم) كحد أدنى للضريبة يعد أكثر ملاءمة.
ويمكن اعتبار هذا الحد مرتفعا مقارنة بتجارب بعض الأنظمة الجبائية الأخرى، لكن تطبيقه، في الحقيقة، سيجعل الضريبة تتفادى أصحاب الثروات المتوسطة والذين ترجع أسباب ثروتهم إلى ممتلكات عقارية، ثم التضحية بقيمة مهمة من مداخيلهم لسنوات عديدة من أجل تحقيقها.
- أسعار الضريبة على الثروات العليا: نظرا إلى تمركز ملكية الثروات في المغرب، فإن اعتماد تقنية معدلات ضريبية تصاعدية يعد ملائما حتى يتم أخذ هذا التفاوت بعين الاعتبار. لكن غياب الإحصاءات الدقيقة حول توزيع هذه الثروات يجعل عملية تحديد معدلات الضريبة مسألة تقريبية، إن لم نقل صعبة.
وقد قام نفس الخبير الاقتصادي بهذه المهمة في بداية التسعينيات، حيث عمل على تحديد معدلات تصاعدية للضريبة على الثروات العليا، نرى أنها لازالت مطابقة للوضعية الاقتصادية الراهنة. وركز الباحث على عدم تجاوز نسبة 2 في المائة كسعر أعلى، لأن هدف هذه الضريبة هو تشجيع أصحاب الثروات الكبرى على تطوير إنتاجية رأسمالهم للمساهمة في التنمية المنشودة، وأي تجاوز لهذا المعدل سيجعلهم يحسون بأنهم يعملون أكثر لصالح خزينة الدولة. وتجدر الإشارة إلى أن أغلب الدول المتقدمة تعتمد معدلات ضعيفة في جبايتها للثروات؛ فمعدلات ضريبة التضامن على الثروة الفرنسية، مثلا، لا تتجاوز نسبة 1.8 في المائة كسعر أعلى (يفرض على الثروات التي تتجاوز قيمتها15  مليونا و810 آلاف أورو)، وتمت إضافته بموجب القانون المالي لسنة 1999، بعدما كان أعلى سعر لا يتجاوز 1.5 في المائة.
فبدافع تحقيق عدالة أكبر، تمت الزيادة في معدلات الضريبة بنسبة 10 في المائة، كما تمت إضافة مستوى جديد يخضع لنسبة 1.8 في المائة. وقد خص هذا الإجراء آنذاك حوالي 800 شخص من مالكي الثروات الكبرى ومكن الخزينة من ربح حوالي 200 مليون فرنك زائدة.
وبصفة عامة، فرغم صعوبة تقييم الانعكاسات المرتقبة لتطبيق الضريبة على الثروات الكبرى، بسبب غياب المعطيات الإحصائية حول عدد أصحاب هذه الثروات (المكلفين)، فإن المؤكد هو أن هذه الضريبة ستساهم في إضفاء نوع من العقلنة على النظام الجبائي المغربي.
ب- الضريبة على التركات: إن تطبيق الضريبة على التركات، في بلد إسلامي غالبا ما يتعرض للانتقاد من طرف الملاكين الكبار، بدعوى تعارض هذه الضريبة مع تعاليم الدين الإسلامي. وهذا التبرير الأخير هو الذي كان وراء إقبار محاولة تطبيق هذا النوع من الضريبة في المغرب سنة 1968، حيث استطاعت بعض الطبقات آنذاك التأثير على العلماء الدينيين، ودفعهم إلى تبني فكرة معارضة هذه الضريبة مع الإسلام. ودون الدخول في هذا النقاش الذي عرفته مختلف الدول الإسلامية، تجدر الإشارة إلى نقطتين أساسيتين:
- فهذه الدول تعمل على تطبيق ضرائب يمكن اعتبارها أكثر مخالفة للإسلام من الضريبة على التركات، كتلك التي تفرض على المشروبات الكحولية، المراهنات، الأرباح المالية،...
- ثم إن الدول الإسلامية سابقا، حتى على عهد الخلفاء، طبقت ضرائب غير معروفة في الشريعة الإسلامية لمواجهة بعض الأعباء.
وحاليا، فإن العديد من الدول الإسلامية استطاعت تجاوز هذا النقاش وعملت على تطبيق الضريبة على التركات منذ مدة (مصر، الجزائر، سوريا...)؛ وبالنسبة إلى المغرب، فإن أي إصلاح وعقلنة للنظام الجبائي الحالي يقتضيان تطبيق هذا النوع من الضريبة، وسنحاول هنا تحديد بعض الخطوط العريضة لكيفية تطبيقها:
أ- وعاء الضريبة على التركات: تقتضي عملية تحديد وعاء الضريبة على التركات في المغرب الأخذ بعين الاعتبار عوامل الفعالية، العدالة، والتبسيط، حتى تكون مقبولة. ومن خلال تجارب أغلب الأنظمة الجبائية التي تفرض هذه الضريبة، يلاحظ وجود نظامين شائعين في تطبيقها:
- الأول يتميز بسريان الضريبة على التركة، قبل توزيعها وانتقالها إلى الورثة، وهو مطبق في (الولايات المتحدة الأمريكية، إنجلترا،...).
- والنظام الثاني يقضي بأن تفرض الضريبة حسب كل حصة من حصص الانتقال، أي بعد توزيع التركة، وهو مطبق في (فرنسا، ألمانيا،...).
ومن الناحية الاجتماعية، يعتبر النظام الأول متعارضا مع مبادئ العدالة، حيث إن الضريبة تـُفرض دون تمييز بين المكلفين، الشيء الذي يجعل المكلف الميسور والذي سيزيده الإرث غنى أكثر، يتحمل نفس العبء الضريبي الذي يتحمله الوارث متوسط الحال. لذلك فاعتماد نظام جباية حصة كل وارث على حدة يعد أكثر ملاءمة لتطبيق الضريبة على التركات بالنسبة إلى النظام الجبائي المغربي.
وهكذا سيتألف وعاء هذه الضريبة من مجموع العناصر المكونة للتركة (سواء عقارات، أموال منقولة، أو غيرها...)، وذلك بعد خصم كافة الديون المستحقة عليها. وتقرر إعفاءات شخصية لصالح بعض عناصر الثروة (مثلا، محل سكنى المتوفى)، إذ لا يعقل تخلي زوج أو زوجة عن محل الإقامة بسبب تطبيق الضريبة، لكن يجب تحديد سقف أقصى لا يمكن تجاوزه، كما هو معمول به في بعض التشريعات.
وتقتضي أيضا الطبيعة الاقتصادية لبعض عناصر التركة (شركة، معمل، مقاولة تجارية أو فلاحية...) تعاملا ضريبيا مميزا، بهدف مساهمة الضريبة في استمرارية هذه الأنشطة وتفادي كل تأثير سلبي يمكن أن يوقف عملها؛ فالضريبة على التركات هنا، ستشكل أداة تدخلية بيد الدولة لتوجيه استغلال أفضل لهذه الأنشطة، حتى لا تتأثر بفعل عملية التوريث، كأن يمنح المشرع، مثلا، حوافز جبائية (لصالح أحد الورثة أو لشكل معين، لاتفاق بين الورثة...) من أجل المحافظة على وحدة هذه الأنشطة الاقتصادية وعدم تعرضها للتفتيت.
ب- تصاعدية أسعار الضريبة على التركات: يقتضي مبدأ العدالة الضريبية أخذ وضعية المكلف الوارث بعين الاعتبار، خصوصا المادية منها، لذلك فجدول أسعار الضريبة يجب أن يكون أكثر تصاعدية بشكل يؤدي إلى تحمل العبء الجبائي أكثر من طرف الثروات الكبرى. وهكذا نجد أن العديد من التشريعات تعتمد أسعار ضريبية تبدأ من نسبة 5 في المائة كمستوى أدنى، لتصل إلى 40  أو 50 في المائة كمستوى أعلى. ونفس الملاحظة يمكن تسجيلها من خلال دراسة تجارب بعض الدول الإسلامية التي تطبق هذا النوع من الضريبة. وبالنسبة إلى المغرب، فقد خلصت أغلب البحوث التي ناقشت كيفية تطبيق الضريبة على التركات إلى عدم تجاوز نسبة 20 في المائة، نظرا إلى وضعية هذه الضريبة وما ستحدثه من نقاشات وردات فعل معارضة.
4 - 2) إعادة توزان بنيات النظام الجبائي:
إن وضعية بنيات النظام الجبائي الحالية لم تعد مقبولة، ولا تساعد على تنفيذ استراتيجية تنموية، لذلك فأي إصلاح يجب أن ينطلق من إعادة التوازن بين مختلف مكوناته، فالمكانة التي تحتلها الجباية غير المباشرة في النظام الجبائي مقارنة بالجباية المباشرة تعد لوحدها كافية لإبراز
لاعدالة هذا النظام، بل حقيقة الوضعية الاجتماعية ككل؛ فالنظام الجبائي المغربي ولأسباب اقتصادية، وأخرى سوسيو-سياسية، حافظ منذ الاستقلال على نفس البنيات مع الارتكاز بالأساس على الضرائب غير المباشرة، خصوصا التي تهم الاستهلاك، وتهميش الدور الذي يمكن أن تلعبه جباية بعض القطاعات على صعيد الضريبة المباشرة. لذلك فالاستراتيجية الجديدة تتطلب تجاوز المبادئ التقليدية للمالية العامة، والتي اعتمدتها أغلب الأنظمة الجبائية للدول النامية؛ فالاتجاه الذي لازال يرى أن جباية مواد الاستهلاك تمكن من الحصول على أكبر مردودية لم يعد مقبولا، لأن الهدف الأساسي للجباية هو تقليص تأثيرها على المداخيل الضعيفة.


  حميد النهري

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا