Thursday, February 19, 2015

الديمقراطية التشاركية آلية لتوسيع المشاركة السياسية

تعني الديمقراطية التشاركية مجموعة من الآليات والإجراءات التي تسمح بإشراك المجتمع المدني وعموم المواطنين في صنع السياسات العمومية وتقوية دورهم في اتخاذ القرارات المتعلقة بتدبير الشأن العام. إنها إذن، حسب تعريفwikipedia ،‹‹شكل جديد لتقاسم وممارسة السلطة المرتكز على تقوية مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار السياسي›› (wikipedia.org/democratie_participative) . وترتكز الديمقراطية التشاركية من جهة، كما عبر عن ذلك الفيلسوف البراكماتي "جون ديوي" John Dewy، على ‹‹مواطنة نشطة ومطلعة وعارفة›› وعلى ‹‹ تكوين مواطنين (public) نشطين قادرين على تصريف قدراتهم في التنقيب والبحث بأنفسهم عن حلول ملائمة لقضاياهم››. وترتكز، من جهة أخرى، على إرادة لدى السلطات والمؤسسات السياسية التمثيلية في تقاسم هذه السلطة، من أجل جعل الوظيفة الديمقراطية تتمحور أكثر حول تحسين أوضاع الناس.

لقد برزت الديمقراطية التشاركية، ليس لإلغاء الديمقراطية التمثيلية كليا، ولكن لتتجاوز قصورها وعجزها على التفاعل والتجاوب مع معطيات اجتماعية جديدة، التي تتمثل في ظهور حركات وتعبيرات اجتماعية تعرف اتساعا متزايدا (حركات نسائية وبيئية وحقوقية واجتماعية وتنموية...). كل هذه التكتلات لا تجد في الديمقراطية التمثيلية قنوات للتعبير عن حاجاتها ومطالبها وإيجاد حلول لها، ولا منفذا لموقع القرار السياسي لتداولها. في حين تعتبر ‹‹الديمقراطية التشاركية ديمقراطية فاعلة، لحل المشاكل عن قرب، وضمان انخراط الجميع، وتطوير التدبير المحلي والوطني عن طريق التكامل بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية. وتنمية الإرادة السياسية لدى المنتخبين، وتوفير الأمن الاجتماعي، والتربية على ثقافة التوافق. والأخذ بعين الاعتبار حاجيات الجميع، وتتجدد الديمقراطية، بناء على المواطنة والمدنية والمنفعة العامة. وتوفير المعلومة والتدبير الشفاف والمساهمة في اتخاذ القرار، والانتقال من المحلي إلى الوطني››. (نورالدين قربال ،الديمقراطية المواطنة والتشاركية، الاثنين 13 يناير 2014، هسبريس)

إن محاولة خلق هذه الحيوية في الحياة السياسية يندرج في إطار الطابع التطوري للديمقراطية، كما تحدث عن ذلك "ديوي"، حين رأى أن الديمقراطية ليست عدالة مطلقة. بل اعتبر أن الكمال الديمقراطي هو ذلك المثل الأعلى والمنهج أو الأداة التي ستمكن العدالة من الانبعاث دون انقطاع، عبر سيرورة تصويب الاختلالات والقصور الذي قد يترتب عن العملية الديمقراطية. ولا يمكن أن يحدث هذا الانبعاث دون مشاركة واسعة ومتزايدة لعموم المواطنين والمجتمع المدني، باعتبارهم الأكثر ارتباطا بقضاياهم، والأكثر معرفة بها، والأجدر بوجود حلول ملائمة لها.

تتمثل هذه الأعطاب وهذا القصور في تجربتنا المغربية في كون أن الشعب غالبا ما يفوض سلطاته إلى الهيئة المنتخبة بناء على اعتبارات قبلية أو دينية أو إتاوات إغرائية مصلحية ضيقة، وليس بناء على تعاقد سياسي. وبذلك تفقد هذه التمثيلية والتفويض كل جدوى ومعنى سياسي، حيث يكون النائب المنتخب غير مقيد وغير مبالي بقضايا من انتخبوه إلا من بعض المصالح الشخصية. وعليه فإن هذه العلاقة تفرغ الديمقراطية من وظيفتها وفعاليتها ومعناها. غير أنه، حتى ولو كانت هذه التمثيلية مبنية على تعاقد سياسي واضح، فإن القرارات السياسية تظل فوقية، ولا تنبني على معرفة حقيقية بالحياة المعيشة للناس، ولا تسمح بالمحاسبة والتقييم إلا بعد 5 سنوات. مما ينتج عن ذلك خمول وجمود سياسي ينبثق عنه عزوف سياسي.

يبدو أن الديمقراطية التشاركية قد تشكل أمالا في إيجاد علاج ملائم لهذه الأعطاب، وتشكل أداة لزرع الحيوية في ديمقراطيتنا، عبر توسيع المشاركة السياسية، وتقوية السلطة المضادة المتمثلة في المجتمع المدني وعموم المواطنين، من أجل قيام عدالة اجتماعية متنامية. وقد تجاوب الدستور المغربي الحالي مع هذا التوجه حيث نص على الديمقراطية التشاركية التي سوف تسمح للمواطنين والمجتمع المدني بالمشاركة في تدبير ومراقبة وتقويم السياسات العمومية، من خلال تقديم الملتمسات في مجال التشريع (الفصل 14 )، أو تقديم العرائض إلى السلطات العمومية ( الفصل 15). وتمكين المواطنين والمجتمع المدني من تقديم العرائض لمطالبة مجالس الجهات والجماعات الترابية بإشراكهم في بلورة السياسات العمومية المحلية (الفصل 139).

هكذا سمحت الديمقراطية التشاركية بشكل آخر من أشكال المشاركة السياسية منفصل عن المسار الانتخابي. وينبغي التذكير أن تفعيل هذه الإرادة الدستورية وتنزيلها على الأرض سوف لا يقدم إلى المواطنين على طبق من ذهب. بل ينبغي النضال من أجل ذلك، والبدء حاليا بالمطالبة بالمشاركة بالاقتراح والتشاور في تنزيل هذا التوجه الدستوري إلى قوانين تنظيمية تحدد كيفية القيام بذلك، والآليات والإجراءات التي ستمكن الناس من التأثير على القرارات السياسية وتصويبها ومراقبتها.

إن إنجاح هذا الشكل المتقدم من الديمقراطية التشاركية يتوقف على مدى وجود مجتمع مدني قوي وفاعل ومطلع ومتحمس، ووجود مواطنين مدركين لمعنى الديمقراطية، وفي طليعتهم الطبقة الوسطى والطبقة المثقفة والمتعلمة عموما، المنسحبة حاليا من العمل السياسي لأسباب لم تعد مفهومة. ألا يخجل الإنسان من نفسه عندما يرى تدبير شؤون مدينته وتنميتها مفوض لمجموعة من المتربصين لا كفاءات لأغلبهم، وعندما يرى المال العمومي المخصص لتحسين أوضاع مدينته عرضة للنهب والضياع؟ ألم يشعر الإنسان بالمسؤولية اتجاه ما يرى في الاستحقاقات الانتخابية، حينما يرى "تجار الانتخابات" يتنافسون على استغلال نساء وفقراء مدينته ويتاجرون بذممهم من أجل السطو على القرار السياسي؟ ألم يشعر الإنسان بالمسؤولية اتجاه الإهمال الذي يطال كل شيء في محيطه؟ من سيغير ذلك؟ هل ستتغير الأشياء بالبكاء والشتم المستمر للفاعلين السياسيين ورمي كل المسؤولية على الآخر؟

من المؤكد أن الإنسان الذي يركن إلى موقع المتفرج الساخر، المتعالي، الذي يجد لذلك مبررات واهية ومضللة ومسكنة، أو الذي يختبئ وراء مطالب سياسية نصية أو واهية وغير مفهومة، من قبيل الإتيان له بديمقراطية جاهزة الآن وهنا...كل هذه المواقف – مع احترامنا لها - نعتقد أنها لن تغير أي شيء على الأرض، كونها مواقع من عاج، مريحة، لا تقتضي أي جهد معرفي وعملي يفيد في التغيير...فدون مساهمة واقية وفعلية على الأرض سواء عبر قنوات العمل السياسي الحزبي الفعال أو قنوات المجتمع المدني الحي، ودون خوض معركة ضارية على الأرض ضد بؤر الفساد، معركة تقودها الطبقة الواعية، تعيد للديمقراطية معناها الحقيقي، الذي يتمثل في فرز النخب والكفاءات القادرة على تدبير شؤوننا سواء على المستوى المحلي أو المستوى الوطني...فدون ذلك ستظل مصالح الفئة الواسعة من الشعب عرضة للضياع، وستظل الثروة تتراكم في يد الأقلية التي تتحرك، بالفعل وليس بالخطاب، على الأرض بكل قواها للاستحواذ على القرار السياسي، مسخرة لصالحها كل فضائل الديمقراطية وكل وسائل الدولة.
المختار شعالي

الجهوية الموسعة، وأسئلتها الملحة

الجهوية الموسعة، وأسئلتها الملحة
الجهة في اللغة السياسية، هي مجموعة ترابية منسجمة مجاليا، تهدف إلى خلق نوع من التكامل التنموي وإلى تحقيق قدر من التوازن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الأقاليم في إطار التنمية الجهوية التي تلائم تدخل الدولة لإنجاز عمليات التخطيط والتنمية المحلية.
في مفاهيم القوانين الدستورية الحديثة، تعتمد الجهة على مجال معين لتحقيق الانسجام بين عدة وحدات ترابية وإدارية لأجل النهوض بمؤهلاتها وتسخير إمكانياتها البشرية والطبيعية والمادية في إطار متكامل ومتوازن، فهي مجموعة من الأقاليم التي ترتبط أو القادرة على ربط علاقات فيما بينها على المستوى الجغرافي أو الاجتماعي، أو تحقيق برنامج من أجل تنمية منسجمة ومتوازنة لمختلف أجزاء البلاد، وهي منظومة جغرافية مؤلفة من مجموعة من الوحدات الترابية، تجمع فيما بينها صفات مشتركة، قد تكون مناخية، اقتصادية بشرية أو تاريخية، أي أنها تتصف بتجانس مكوناتها. التجانس الطبيعي/ الجغرافي/البشري. وتعتبر الجهة في عالم اليوم، العنصر الحاسم في تعميق الديمقراطية، كسلوك داخل المجتمع، وكمحاولة لاشتراك المواطنين وإعطائهم الفرصة للمساهمة في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصيرهم، والعمل على تنفيذها وتتبع سير عملها.
يختلف مفهوم الجهوية ذو المدلول الإداري عن مفهوم الجهوية ذي المدلول السياسي، فهذا الأخير، حسب بعض الخبراء يحيلنا على مشاركة المواطنين في تدبير شؤونهم المحلية، وعلى الاستقلالية في تسيير مصالحهم. من هذا المنطلق تبدوا فكرة الجهوية قريبة من فكرة الشؤون المحلية، إذ هناك تداخلا بين المفهومين. فكلاهما ينبع من داخل الجهة ذاتها.
يعني ذلك بوضوح أن مدلول الجهوية في الدول المتقدمة المصنعة، يختلف عن مدلولها في الدول المتخلفة. في الدول المصنعة، لن تكون هناك تنمية دون وجود تنمية اقتصادية جهوية، لذلك تكون التجربة في هذه الدول مزدوجة، إذ عليها أن ترتكز في تخطيطها على خلق مسلسل الإقلاع الاقتصادي العام، زيادة على محاربة الفوارق بين الجهات وإحداث تنمية متوازنة فيما بينها، والقضاء على الأثر التفقيري الذي يحدثه نمو جهة على حساب أخرى، وخاصة التي تظل منطوية ومنغلقة على نفسها. وهو ما يعني، أن تحقيق تنمية متكاملة ومتكافئة من منظور جهوي، لن يتم إلا بتحديث الرؤى والمطامح وتوظيف الوسائل والإمكانات ضمن دراسات معمقة تعتمد على تقديرات موضوعية لما ينبغي نهجه من أجل تنمية عملية شاملة ومتطورة، تهم كل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
وإذا كان المواطن في المنظور السياسي/ الديمقراطي، هو المحور الأساسي في عملية التنمية الجهوية من أجل تحقيق العيش اللائق له، فإن ذلك يستدعي بالأساس تعبئة واستخدام كل الموارد والإمكانات المادية والبشرية والطبيعية، على الصعيد المحلي والإقليمي والجهوي، من أجل تنمية مادية وبشرية وسياسة تعتمد بالأساس على استراتيجية ملازمة لروح المسؤولية، التي تستهدف تغيير العقليات على المستويين المركزي والجهوي، كما تعتمد التخطيط والتشاور والمساهمة الفعالة لكل الفعاليات في تنشيط الجهة بتعاونها ومساندتها لمضمون التنمية في المجال الجهوي.
في زمن العولمة/ زمن القرية الكونية، حيث كسرت الثورة التحديثية الإعلامية الحدود، أصبح على الجهوية مسايرة التطورات التي تعرفها الساحة العالمية، وهي تطورات إعلامية، تكنولوجية، ثقافية، سياسية، وعملية. تشكل عالما بلا حدود، لم تعد فيه السيادة تشكل مظلة واقية للدول، بما فيها تلك التي اعتبرت دائما متقدمة، ومن ثم أصبح من الضروري توسيع مفاهيم الجهوية، على المستوى الوطني، من أجل خلق انفتاح وتواصل، حقيقيين بين كل الجهات المكونة للدولة.
- 2 -
مغربيا عرف مفهوم الجهة تطورا تدريجيا منذ ستينات القرن الماضي، حيث أصبحت الجهة مصطلحا مألوفا في الأدبيات السياسية المغربية، ظهرت في الخطاب السياسي، والخطاب الإعلامي، وفي التقارير الحكومية وفي القوانين الانتخابية وغيرها، لتصبح الجهة من صميم الاهتمامات العامة للدولة وللمجتمع المدني، وبجميع فرقاء الشأن العام بالبلاد.
فالجهة والجهوية بالمغرب، كتقطيع ترابي وكتدبير للمجال، ونهج للامركزية، كانت وما تزال محط قراءات ودراسات معمقة، من زوايا سياسية وقانونية وجغرافية متعددة، كان أبرزها التصميم الوطني لإعداد التراب (سنة 2003) وتقرير الخمسينية (سنة 2005) وكتاب مغرب الجهات، الصادر عن المندوبية السامية للتخطيط (سنة 2008)، إضافة إلى العديد من الدراسات الأكاديمية، وهو ما يؤكد على أهمية موقع الجهة في المغرب الحديث.
وبالرجوع إلى كرونولوجيا مصطلح الجهة على أرض الواقع بالمغرب، سنجده تدرج خلال الخمسين سنة الماضية بهدوء وإصرار، ليقطع مراحل عديدة في مساره السياسي والقانوني، ويتحول في نهاية المطاف إلى مصطلح مصيري على مستوى كبير من الأهمية، بعد أن ارتقى من مجرد مؤسسة متواضعة سنة 1959، إلى مؤسسة دستورية سنة 1996.
في بداية الأمر جاء ذكر الجهة، عند رسم الحدود الترابية للجماعات المحلية، (ظهير 2 دجنبر 1959) وتركز من الوجهة القانونية في ظهير 23 يونيو 1960 عندما تم إصدار الميثاق الجماعي، الذي مهد للقانون المنظم للجهات الاقتصادية (ظهير 16 يونيه 1971).
وفي سنة 1984 عرفت الجهة، نقلة نوعية بسبب الإطار القانوني الذي أحدث لدعم الهياكل التشريعية والمالية والإدارية للجهات المغربية، التي عرفت سنة 1992 دفعة جديدة، جعل منها فضاء واسعا للتحاور وتنسيق الجهود ورفعها إلى مستوى الجماعات المحلية، بفضل التعديل الدستوري الذي عرفه المغرب خلال هذه السنة.
وفي سنة 1996، أصبحت الجهة في المفهوم الدستوري، كيانا يتمتع بتمثيلية قانونية على المستوى التشريعي حيث أسست المراجعة الدستورية الجهة إلى جانب العمالات والأقاليم والجماعات الحضرية والقروية، وتبنى الملك الراحل الحسن الثاني الجهة كخيار استراتيجي لمغرب القرن الواحد والعشرون.
يعني ذلك، ارتقاء الجهة من مجرد جماعة محلية ذات اختصاصات استشارية محدودة، (سنة 1959) إلى هيئة دستورية ذات طبيعة تقريرية، (سنة 1996) ترتبط بقنوات تمثيلية من داخل الغرفة الاستشارية بالبرلمان، وهو ما شكل قفزة نوعية للممارسة الجهوية، التي أخد المغرب بها منذ صدور قانون 4 أبريل 1974 الذي وضع الإطار القانوني لتدبير الشؤون الجهوية من طرف مجلس جهوي منتخب، وجعل الجهة فضاء للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، قبل أن تصبح دستورية قادرة على الفعل والتفاعل داخل الفضائين المحلي والوطني.
- 3 -
خارج التطور القانوني الذي عرفته الجهة مغربيا خلال العقود الخمسة الماضية، أصبحت الجهة في الخطاب السياسي/ الاجتماعي/ الثقافي خيارا مستقبليا لتجسيد الإرادة الوطنية في التطور الديمقراطي والبناء المؤسساتي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، اعتبرها الخطاب السياسي الرسمي والحزبي، مدخل حقيقي وضروري وتوجه أساسي وحاسم في إستراتيجية التنمية الشاملة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، كما كانت الحل الأمثل لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، ولخوض معارك الرهانات الصعبة التي تتطلب توجيه القوى الحية والفاعلة لمكونات المجتمع المغربي وتشكيلاته وتعبئتها الكاملة للإنخراط الجماعي في مسلسل الإصلاحات الدستورية والسياسية، لبناء الأسس الصلبة والأرضية الصالحة لديمقراطية سياسية واقتصادية واجتماعية سليمة وهادفة، ولتقوية الكيان المغربي ومناعته الذاتية.
في الخطاب السياسي للملك الراحل الحسن الثاني، كما في برامج الأحزاب السياسية على مختلف توجهاتها، جاءت الجهوية، الصيغة المتميزة والإطار الملائم لرصد واستعاب وتوظيف الموارد البشرية والمالية المتوفرة والمتاحة بكل روافدها ومكوناتها في تجاه تنمية جهوية متكاملة ومندمجة، تحقيقا لأسباب وظروف التنمية الوطنية بما يكفل التوازن والتناسق والإنسجام بين كل الجهات، فالجهة في هذا الخطاب تشكل الإطار المؤسساتي والكيان الترابي المفعم بالحيوية والدينامية والمجسد لأوجه التكامل بين مكوناته والكفيل بتعبئة وتسخير الإمكانيات والقدرات الذاتية لأغراض التنمية المنسجمة والمتناسقة، وفي نظر هذا الخطاب، الجهوية من شأنها أن تبلور مضامين وآليات وأدوات العمل المشترك والشراكة والتعاون والإندماج لكل العناصر الاقتصادية وتعبئة الفوائض المالية والاقتصادية ورصيد التراكم الرأسمالي المتوفر والمتاح في تعدده وتنويعه طبيعيا وبشريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
والجهة باعتبارها فضاء اقتصاديا واجتماعيا قائما بذاته ومجدا لمقوماته ولمضامينه الملموسة في التراكم المالي والاستشاري وفي تصور البرنامج والمشاريع التنموية المندمجة والمتكاملة والتخطيط للتنمية الجهوية، برزت في الخطاب السياسي المغربي كمؤسسة لها مكانتها المتميزة في تفعيل الممارسة الديمقراطية وتعزيزها جهويا، فعلى هذا المستوى من البناء الديمقراطي واللامركزي، تفرز مؤسسة الجهة في نظر العديد من أحزابنا السياسية، مهاما جديدة، تتمثل في التشاور والتفاعل والحوار الديمقراطي الهادف والبناء بين أعضاء مجلس الجهة الممثلين للجماعات المحلية ومجالس العمالات والأقاليم وللهيئات المنتخبة المهنية من غرف فلاحية وغرف الصناعة والتجارة والخدمات، وغرف الصناعة التقليدية وممثلي المنظمات النقابية للمأجورين، والتنظيمات المهنية لأرباب العمل والمقاولات.
وفي نظر المجتمع المدني عموما، الكيان الجهوي في شأنه أن يعزز اللامركزية، ويتمم بكيفية متكاملة ومتوازنة البناء المؤسساتي، ويعمل على بلورة صلاحيات وأدوار متميزة، فهي في هذا التصور، « كيان سياسي » يتواجد بها منتخبو الجماعات المحلية من مجالس جماعية ومجالس العمالات والأقاليم وممثلوا التنظيمات والهيئات المهنية والاجتماعية وأرباب العمل والشغالين، هي كيان من شأنه التداول في تطلعات نخبة الجهة وفي تصورها للمشاريع التنموية، فمن شأن المكون الجهوي كاختيار استراتيجي وكبعد ملموس من أبعاد التنمية المخططة المتوازنة والمتضامنة، أن يحقق شروط دينامية أكبر في التشاور والتفعيل تنعكس إيجابيا على إستراتيجية التنمية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية.
في هذا المضمار، تبرز الجهة في الثقافة السياسية المغربية، كمجموعة مندمجة وحية، كفضاء للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من شانه تحقيق التوازن إذا ما تم توزيع متكافئ ومتوازن للاستثمارات وللمشاريع والأعمال، عن طريق رصد للموارد البشرية والمادية والمالية، ومن شانه أيضا الإسهام في الحد على المدى المنظور والبعيد من الاختلالات والفوارق والتفاوتات الجهوية القائمة بين المغرب النافع، والمغرب غير النافع، وفي إضفاء نفس جديد قوامه الاستخدام المشترك للمؤهلات والقدرات الذاتية والموضوعية، وبالتالي في انجاز تنمية مندمجة متواصلة ومستديمة بتسخير الوسائل والإمكانات المتوفرة والمتاحة.
على هذا الأساس طالبت برامج وأدبيات بعض الأحزاب السياسة المغربية، وخاصة منها « اليسارية والتقدمية » بتوسيع فضاءات التنمية المتوازنة والمتضامنة التي تتيح تعبئة القدرات الكامنة في الجهة وفي قدراتها على استيعاب رؤوس الأموال والاستثمارات المنتجة والهادفة والفاعلة لانطلاق الأوراش الكبرى ذات الصيغة الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية والبيئية، التي من شأنها إعطاء للتوازن مفهومه على أرض الواقع.
وبتلخيص شديد، يمكن حصر الدوافع الأساسية للجهوية في الخطاب السياسي المغربي، الرسمي والحزبي والإعلامي، في محاور ثلاثة:
- دوافع سياسية تهدف إلى دمقرطة المؤسسات الجهوية وتدعيم اللامركزية.
- دوافع اقتصادية أملتها متطلبات التنمية وعوامل خارجية ناتجة عن التطور العالمي.
- دوافع اجتماعية لها علاقة بالوضع الاجتماعي الذي يعاني من رواسب التخلف.
هذه الدوافع وغيرها، دفعت بالخطاب السياسي المغربي إلى المطالبة الملحة ببلورة تصور عملي لجهوية حقيقية، تمنح الجهات في المملكة صلاحيات أوسع في تدبير القضايا المحلية، وعدم رهن الشأن المحلي بالسلطات المركزية، إذا استقطب هذا النقاش عدة أطراف سياسية ومدنية، خصوصا بعدما أكد النظام الجهوي الذي تم العمل به بعد تعديل دستور 1996على محدوديته في التعاطي مع قضايا المواطنين في مختلف المجالات التي تهم حياتهم اليومية، وكان في صلب هذا النقاش، نقاش يهم الخصوصيات اللغوية والخصوصيات القبلية، وهو ما يجعل التوجه نحو الجهوية الموسعة، توجها في محله وموعده، يصب في صميم مفاهيم الدولة الحديثة، إذ لم يعد مقبولا في مغرب الألفية الثالثة، جهوية شكلية، قائمة على أساس الهواجس الأمنية، لا تسند على أفق سياسي وعلى توسيع دائرة المشاركة، وهو ما يعني في لغة السياسة الخروج من مرحلة الجهوية المغلقة التي عرفها المغرب خلال هذه الفترة من التاريخ، والتوجه صوب مرحلة سياسية جديدة، ذات مواصفات أخرى تستجيب للحداثة والمعاصرة بقدر ما تستجيب للفكر الديمقراطي وشروطه الموضوعية، وهي الاستقلال النوعي/النسبي عن الدولة المركزية، والأخذ بمبدأ حقوق وواجبات الجماعات التي تشكل الجهات، وهو ما يفرض على الدولة القيام بأدوار جديدة مختلفة عن تلك التي كانت تقوم بها في السابق، والانخراط في عملية إصلاحية عميقة تبلور مؤسسات ديمقراطية قائمة على التدبير العقلاني وعلى التنمية المستدامة كما على الشراكة مع المركز الأساسي للدولة الأم.
- 4 -
السؤال الذي تطرحه الجهة اليوم على الباحث السياسي، لماذا جاء اختيارها مبكرا، كخريطة طريق/ إستراتيجية نحو القرن الواحد والعشرين…؟
في نظر العديد من الباحثين في الشأن السياسي المغربي، أن أهم دافع للتوجه إلى تبني الجهوية كاختيار سياسي إداري واقتصادي، يكمن في محاربة الاختلالات التي ورثها المغرب المستقبل عن عهد الحماية (1912-1955) فهو قبل كل شيء، نزوع نحو إعادة تهيئة مجالية جديدة في إطار السعي نحو محاربة ثنائية المغرب النافع والمغرب غير النافع، وأيضا في إطار فك العزلة عن المناطق الجبلية والنائية وإعادة دمجها في مسلسل التنمية في مغرب أصبح محكوما عليه برفع شعار التنمية بكل مقوماتها.
لقد أصبح مفهوم الجهة من المفاهيم الحديثة في الفكر السياسي والاقتصادي للمغرب المعاصر ولعل هذه الجدة، هي التي دفعت بالعديد من الباحثين إلى وضع الجهة في قلب انشغالاتهم، انطلاقا من أول دستور عرفته البلاد، في ستينات القرن الماضي، وهو ما جعل الجهة في مغرب اليوم، تكتسي أهمية قصوى بالنظر إلى التحولات العميقة التي بدأت تخترق البنيات الإقتصادية والإجتماعية والمجالية وأيضا لمتطلبات البناء الديمقراطي السياسي، لمغرب يطمح في الانخراط الإيجابي في فاعلية الحداثة والعولمة.
ويمكن إجمالا اختزال الاعتبارات التي قادت المغرب إلى الجهة، في عنصرين أساسيين:
أ- عمق الاختلالات والفوارق الجهوية التي طبعت تنظيم البلاد لفترة طويلة من التاريخ، والتي تظهر على مستوى توزيع السكان وتوزيع الأنشطة الإقتصادية والاستثمارات العمومية والخاصة. وأيضا على مستوى توزيع التجهيزات الأساسية.
ب- عجز الدولة المركزية على مواجهة هذه الإختلالات بالرغم من مختلف المحاولات الهادفة إلى تقليص الفوارق، وكان هذا العجز يعزى في السابق إلى غياب تصميم وطني لإعداد التراب كمرجعية أساسية لتوزيع التجهيزات والاستثمارات، ويضمن التنسيق الناجع بين مختلف المتدخلين، ويحدد دور وظيفة عمل الجهة في إطار من التكامل والتضامن وفق منظور شمولي يرسم الاختيارات الكبرى لتنظيم المجال المغربي.
إن عجز الدولة المركزية بعد حصول المغرب على الاستقلال، على مواجهة هذه الاختلالات بالرغم من مختلف المحاولات الهادفة إلى تقليص الفوارق، وغياب تصميم وطني لإعداد التراب كمرجعية أساسية لتوزيع التجهيزات والإستثمارات، ليضمن التنسيق الناجع بين مختلف المتدخلين، ويحدد دور وظيفة عمل كل إقليم في إطار من التكامل والتضامن وفق منظور شمولي يرسم الاختيارات الكبرى لتنظيم المجال المغربي، فرض على المغرب مبكرا اختيار « الجهة » كعلاج للعديد من المخلفات التي ورثها عن العهد الاستعماري.
من هنا جاءت الجهة في تصورات السياسات المغربية على عهد الاستقلال كإطار ملائم لمعالجة الفوارق، ولبلورة مخطط جهوي لإعداد التراب على المستوى الجهوي في إطار التوجهات الوطنية، التي تسمح بإدراك الحاجيات الملموسة وإقامة تنمية مندمجة فعليا، ومرتكزة على أسس من التآزر والتضامن فيما بين الجهات.
إن للجهة قدرة على توفير إطار أمثل لتوزيع السلطة، بواسطة وضع مستويات معبرة لممارستها، تضمن ليونة المساطر والقرب من السكان من حيث التمثيلية والتدبير، وتشكل آداة للمعرفة وإطار الجمع المعلومات الضرورية للمقاولات.
وللجهة أيضا، قابلية لإبراز الطاقات الكامنة وإمكانيات التوظيف الملائم للموارد الطبيعية والبشرية، تتوخى تحقيق التطابق بين التقييم الإداري والخصائص الجغرافية والبشرية والاقتصادية للتراب الوطني، لكي يصبح هذا العامل الأخير أقل إعاقة لعمل الفاعلين المؤسساتيين والاقتصاديين والاجتماعيين.
- 5 -
سؤال آخر يطرح نفسه اليوم بحدة… وبموضوعية، على المجتمع المدني المغربي:
ما هي علاقة هذا النقاش بتوجهات الملك محمد السادس، حول الجهوية الموسعة في مغرب الألفية الثالثة؟ وإلى أي حد استطاعات مرتكزات هذا النقاش، التفاعل مع المنظور الملكي حول الجهوية الموسعة؟
يلاحظ المهتمون والمتتبعون، أن الجهة حظيت في عهد الملك الشاب الملك محمد السادس، بإطلاق ورش تفعيلها على أسس أكثر تجدرا في الديمقراطية والتنمية والعولمة، وذلك من خلال إصلاح نظامها إصلاحا يعتمد على تقسيم يتوخى قيام مناطق متكاملة اقتصاديا وجغرافيا، مناطق منسجمة اجتماعيا وثقافيا، وهو ما يعني في هذا فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات الديمقراطية التي يسعى الملك الشاب إقرارها بالعديد من المجالات الأساسية للدولة المغربية.
الهدف بلاشك، هو إيجاد جهات قائمة الذات، قابلة للاستمرار من خلال بلورة معايير عقلانية وواقعية لمنظومة جهوية جديدة ومتطورة، وانبثاق مجالس ديمقراطية تتوفر على صلاحيات وموارد تمكنها من النهوض بالتنمية الجهوية المندمجة حتى لا تكون جهازا صوريا أو بيروقراطيا، وإنما مجالس تمثيلية للنخب المؤهلة لحسن تدبير شؤون مناطقها، وجعل الأقاليم الجنوبية المسترجعة في صدارة الجهوية المتقدمة.
في خطابه ليوم ثالث يناير 2003 وعند تنصيبه للجنة الاستشارية لإعداد مشروع جديد للجهوية الموسعة.أعلن الملك الشاب عن رؤيته الواضحة للمسألة الجهوية، فهي في تصوره يجب أن تستوفي أربعة شروط:
1-أن تكون مغربية صرفة نابعة من خصوصيات المغرب، غير مقلدة أو مستنسخة، متشبثة بمقدسات الأمة وتوابثها في وحدة الدولة والوطن والتراث.
2-أن يتمثل فيها الالتزام بالتضامن، إذ لا ينبغي اختزالها في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات.
3-أن تعتمد التناسق والتوزيع في الصلاحيات والإمكانات وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات.
4-أن تعتمد على انتهاج اللاتمركز الواسع الذي لن تستقيم « الجهوية » بدون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجحة قائمة على التناسق والتفاعل.
يعني ذلك في الخطاب الملكي إن الجهوية الموسعة فضلا عن كونها مطلب مغربي داخلي، يرتبط بالبناء الديمقراطي وتوسيع دائرة الديمقراطية، تشكل حلقة وسطى ومرحلة انتقالية، لتنفيذ مبادرة الحكم الذاتي بالمناطق الصحراوية المسترجعة على أرض الواقع، وذلك لتلافي كل الإشكاليات التي من شأنها أن تحول هذه المبادرة إلى أهداف بعيدة عن أهدافها.
والجهوية الموسعة هي قبل كل شيء شكل من أشكال المصالحة مع المجال، وإقامة نوع من التوازن بين المغرب النافع والمغرب غير النافع، على اعتبار أن هذه الجهوية تشكل إمكانات كبرى لتعميم التنمية والتوزيع العادل للثروة، تستوعب الخصوصيات المتنوعة في إطار التضامن بين الجهات، ومن ثمة يصبح الانتقال إليها انتقالا إلى مرحلة ديمقراطية حاسمة، لإعادة الفرز الداخلي على قواعد الارتباط بالوحدة وهو ما يمكن المغرب من التفكير في الإشكالات التي يمكن أن يطرحها الحكم الذاتي للصحراء بهدوء وامتلاك رؤية حقيقية تسمح للمغرب بحماية مسار وحدته الترابية في المستقبل، في حال توفر شروط تمتيع الأقاليم الجنوبية بحكم ذاتي.
لذلك لا نتصور أن تكون الجهوية الموسعة/المقترحة، ورشا واسعا للتنمية أو للديمقراطية فحسب، ولكن أيضا لإعادة التوازن إلى مختلف الجهات، وبالأساس لتلبية حاجيات الاقتصاد الوطني الممركز على قواعد غير متوازنة.
لأجل ذلك، فإن مبادرة الملك الشاب، تشكيل لجنة استشارية للجهة، انطلاقا من تصوره للجهة الموسعة، يطرح على الباحثين والخبراء العديد من الأسئلة: ماهو الفضاء الملائم لقيام هذه الجهة، الفضاء الألماني؟ الفضاء الإسباني؟ الفضاء الفرنسي؟ وماهي العوامل الحاسمة في تحديد هذه الجهة…؟
في نظر العديد من الباحثين والسياسيين أن بمغرب اليوم جهات واضحة المعالم، ذات شخصية ثقافية/ جغرافية/ اقتصادية، تمكنها من الاستقلالية والاستمرار…وجهات أخرى يصعب تصنيفها حتى وإن كانت تتمتع بشخصية خاصة بها، جهات لا تتوفر على الحد الأدنى من شروط الاستقلالية، تعاني من آثار بليغة من الفقر والتخلف والأمية وانعدام التجهيز، وهو ما يطرح إشكالية كبرى على الجهة كاختيار وكقضية. كيف يمكن تجاوز هذه الحالة/ الإشكالية وبأية إمكانيات..؟
من هنا يقول باحث مغربي مختص، « تنبع ضرورة إعادة تحديد الجهوية التي يدعونا إليها التصور الملكي المقترح، وهذا يقوم أساسا على تحقيق الفعالية قبل الحديث عن توزيع السلطات وحتى لا يصبح هذا الأخير غير عملي غدا، يتعين الانكباب على مناقشة تلك الفعالية ».
إن موضوع الجهة، باعتباره على ارتباط وثيق بمفاهيم الحداثة والعولمة وحقوق المواطنة، أصبح يستقطب اهتماما متزايدا، ليس فقط في المغرب، بل في مختلف أنحاء العالم، على اعتبار أنها الإطار الملائم لبلورة الاستراتيجيات البديلة للتنمية، التي تقوم على تعبئة الطاقات المحلية ومساهمة السكان في توطيد دولة القانون.
لذلك ما يجب انتظاره بعد المبادرة الملكية في هذا الشأن، هو إسراع اللجنة الاستشارية بصياغة مشروعها، وفق منظور فكري/ ثقافي/ سياسي يراعي مختلف الحساسيات السياسية بالبلاد، وهو ما يعني في نظر العديد من المهتمين والمختصين إحداث إصلاحات جذرية وعميقة، ذات طابع دستوري، لإعادة صياغة تشكيل صورة الدولة المغربية انطلاقا من صورة ونظام جيهاتها. ذلك ما يتوقعه فقهاء القانون الدستوري وفقهاء السياسة وعلم الاجتماع في بلادنا، من هذه اللجنة.

الحكامة المحلية الجيدة في أفق الجهوية الموسعة

تحتل الجهوية مكانة مهمة في الترسانة القانونية للحكامة المحلية الجيدة، ووسيلة أساسية لدمقرطة تدبير الشؤون العامة عن طريق مشاركة المحيط في اتخاذ القرار الجهوي والوطني، تخفيفا للثقل السلطوي للسلطة المركزية الذي أصبح يشكل أحد الأسباب الرئيسية لتعذر التنمية الجهوية.
إن ارتقاء الجهة إلى جماعة محلية مع دستور 1996 اختيار وطني وإرادة سياسية، فالجهة إذن تعد مكسبا دستوريا وأداة أساسية لتدعيم اللامركزية والديمقراطية المحلية في المغرب وتقليص الفوارق والاختلافات بين المدن والقرى وبين مناطق المملكة. كما تشكل مجموعة مندمجة وفضاء للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإعداد التراب الوطني والتخطيط[1].
إن اقتناع المغرب يجب  أن تكون الجهة جماعة محلية منسجمة مجاليا وتهدف إلى خلق تكامل اقتصادي وإداري تنموي من أجل النهوض بالإمكانيات البشرية والطبيعية والمالية وتسخيرها في إطار منسجم ومتوازن دفعه إلى إعادة النظر في الإطار القانوني للجهة بما يدعم من استقلالها ويوفر لها المجال الأنسب للقيام بدورها سواء من ناحية الإمكانيات البشرية أو المالية أو المجالية[2]، قصد تنمية جهوية مندمجة، هو نفس الاقتناع الذي يتوجه نحو خلق إطار جهوي موسع، كمطلب وطني يكرس الحكامة المحلية الجيدة ويسمو بالديمقراطية المحلية ويساعد على الوحدة الوطنية.
لكن كيف يمكن للنموذج المغربي أن يوفق بين الخصوصية والمقاربات الموجودة؟ هل ستتمكن الجهوية الموسعة المرتقبة من ترسيخ  حكامة محلية جيدة وتحقيق التنمية الشمولية؟ وإلى أي مدى ستتمكن الجهوية الموسعة المرتقبة من تجاوز الإكراهات المجالية والتنموية والسياسية المعاشة حاليا؟
 إن الحديث عن نوع مغاير من الجهوية ببلادنا ليس وليد اليوم[3]، كما أن العديد من الدول لم تعد فيها الجهوية ضرورة اقتصادية وإدارية فقط إذ أمام تراكم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي وصلت إلى الحد الذي أصبحت فيه الدولة المركزية عاجزة وحدها على إيجاد الحلول اللازمة لحلها، فقد تبنت نوعا جديدا من الجهوية تمنح بفضلها الوحدات الترابية التحتية هامشا أوسع في التسيير الذاتي والتخلص من المركزية الضيقة، كما أنه بفضلها ستمكن العديد من الدول – بينها المغرب- من إيجاد حل لمشاكلها الترابية وتكريس جهودها من أجل تدعيم التنمية المحلية في إطار اللحمة والوحدة الوطنية، وبلادنا بهذه الخطوة تقتفي أثر بلدان مجاورة وتسير على هدي تجاربها المتطورة في هذا الشأن لاسيما إسبانيا وإيطاليا اللتين استطاعتا بفضل الجهوية السياسية تصحيح الكثير من الاختلالات بين شمالها وجنوبها وتنويم العديد من النزاعات الانفصالية المحتملة داخل ترابها[4]. والتي هددت كيانها ومسيرة تقدمها.
فالمغرب ونظرا للتنوع الإثني والإرث التاريخي  والثقافي المميز لبنيته الاجتماعية يستلزم البحث عن وسيلة لتوحيد وتقوية روابط هذا الخليط والفسيفساء تفاديا للانقسامات والنزاعات وتدعيما للوحدة، ولعل السبيل لذلك هو الاعتراف بالحقوق والحريات لمختلف المكونات المحلية عن طريق نظام لا مركزي سياسي متجاوزا بذلك نظام اللامركزية الإدارية.  
ومن المؤكد أن الجهوية المعمول بها حاليا وهي جهوية إدارية لا يمكن أن تشكل حلا لقضية الصحراء بل لابد من تطوير الجهوية الإدارية إلى جهوية سياسية قادرة على الحفاظ على الوحدة الترابية للدولة[5]، وإطارا ملائما لحل مشكل الصحراء وإعادة بناء مسلسل المغرب العربي[6]، حيث أكد الملك على "فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية، مؤكدين عزمنا الراسخ على تمكين كافة ساكنتها وأبنائها من التدبير الديمقراطي لشؤونهم المحلية، ضمن مغرب موحد، سواء بإقامة جهوية واسعة وملائمة، وذلك طبقا لإرادتنا الوطنية، أو من خلال الحكم الذاتي المقترح، من تم التوافق السياسي بشأنه واعتماده كحل نهائي من طرف المنتظم الأممي[7]".
فالجهوية إذن مطالبة بالإجابة عن هذه التساؤلات وحل الإشكاليات في إطار حكامة محلية جيدة، ومن خلال تبني وإيجاد تصور شامل للجهوية الموسعة، التي ليست مجرد إجراء تقني وإداري بل توجها حاسما لتطوير وتحديث هيكل الدولة، والنهوض بالتنمية المندمجة وذلك من خلال إشراك كل القوى الحية للأمة في بلورته"[8]. من هنا يأتي تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية قصد إعداد تصور عام لنموذج وطني للجهوية تشمل كل جهات المملكة، ونابع من خصوصيات المغرب، وبعيدا عن اللجوء للتقليد الحرفي أو الاستنساخ الشكلي للتجارب الأجنبية، والغاية من كل هذا تأسيس نموذج مغربي للجهوية.
وبالعودة إلى خطاب 6 نونبر 2008 نجده من بين ما تضمنه خارطة طريق للمشروع الجهوي الموسع أهدافا ومرتكزات ومقاربات، كما أنها تبين أهدافه والمتمثلة في ترسيخ الحكامة المحلية الجيدة، وتعزيز القرب من المواطن وتفعيل التنمية الجهوية المنسجمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
أما المرتكزات التي يتعين أن تقوم عليها الجهوية الموسعة المنشودة فهي:
-                 التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها في وحدة الدولة والوطن والتراب وأن تكون الجهوية تأكيدا ديمقراطيا لتميز المغرب الغني بتنوع روافده الثقافية والمجالية المنصهرة في هوية وطنية موحدة.
-                 الالتزام بالتضامن، وأن لا يتم اختزال الجهوية في مجرد توزيع الاختصاصات بين الدولة والجهات، بل عبر توفير موارد مالية عامة وذاتية.
-                 اعتماد التوازن في تحديد الاختصاصات الحصرية للدولة مع تمكين المؤسسات الجهوية من الصلاحيات الضرورية للنهوض بمهامها التنموية في مراعاة لمستلزمات العقلنة والانسجام والتكامل.
-                 انتهاج اللاتمركز الواسع الذي لن تستقيم الجهوية دون تفعيله في إطار حكامة ترابية ناجعة.
أما المقاربة المعتمدة في هذا الإصلاح فهي الديمقراطية والتشاركية، الأمر الذي يجعلها تؤسس لحكامة محلية جيدة.
وهكذا فالمغرب قد راكم تجارب جهوية مليئة بالعبر والدراسات والأرقام والسلبيات، مما يجعل أمر وضع تصور لنظام جهوي جديد ليس بالعمل العسير[9].ويدفع بالتجربة الديمقراطية التنموية إلى الأمام. إذا ما تم استثمار التجارب السابقة والمقارنة بما يخدم الخصوصيات الوطنية والهوية المغربية، كما ينهل من اختلالات واكراهات التجربة التاريخية والتطور التاريخي لبناء الجهوية ببلادنا. إلا أن تمديد وإعطاء فرصة أخرى للجنة الاستشارية لإعداد التصور يظهر أن العمل عسير في خضم التجارب العديدة المقارنة.
وهكذا ومن أجل حكامة محلية جيدة في أفق جهوية موسعة التي تعد المدخل الحقيقي والتوجه الحاسم في التنمية الشمولية في كل أبعادها، لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، يجب إرساء قواعد جهوية ناجعة وفعالة ومبينة عل مرتكزات وأسس متينة، وبهذا يتطلب الأمر تفصيل صلاحيات الهيئة التداولية للجهة والهيئة التنفيذية المنبثقة عنه؛ ومن هنا لابد من :
-   إيجاد صيغ قانونية لتفعيل نقل الاختصاص من الدولة إلى الجهات بوضع إطار قانوني ينظم هذا الانتقال[10].
-   إعطاء الجهوية مستوى ترابي أسمى من الجماعات المحلية الأخرى تدعيما للديمقراطية في بعدها الجهوي لتحقيق التنمية المستدامة. وتقوية المؤسسة الجهوية المنتخبة ديمقراطيا بالاقتراع المباشر.
-   وضع إطار جهوي تنفيذي وتمكينه من الوسائل البشرية واللوجستيكية المساعدة لتنفيذ البرامج الجهوية.
-   إحداث إطار جهوي يستوعب الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والمهنية والمدنية كقوة اقتراحية واستشارية. في نسق شمولي لبلورة ونجاعة القرار الجهوي التنموي. على غرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
-   ضرورة نهج سياسة محكمة في عدم التركيز.
-   تحديد الجهة على أساس تكوين مجموعة متجانسة ومندمجة، وتغليب نوعية المجال الجهوي على المعيار الكمي، وعدم الاعتماد على الإقليم كقاعدة للتقسيم مع إعطاء الاهتمام للطاقات والخصائص الاقتصادية والاجتماعية والبشرية للمكونات الترابية مما يجعل البعد التنموي الغالب[11].
-   توفير الموارد المالية للجهة.
-   ضمان التمثيلية النسائية في المجالس الجهوية وإدماج مقاربة النوع في البرامج والسياسات الجهوية.
-   إعطاء صلاحيات للجهات بإبرام لاتفاقيات دولية ذات طابع اقتصادي واجتماعي والتي لا تكلف عبئا ماليا على الدولة.
-   إعادة تنظيم الوصاية من خلال إعطائها صبغة قضائية سواء على مستوى المحاكم الإدارية أو المجالس الجهوية للحسابات.
-   العمل في إطار الشفافية لتدبير الشؤون الجهوية سواء أثناء التخطيط والبرمجة أو اتخاذ القرار.
ولعل هاته المرتكزات وغيرها لمن شأنه أن يجعل الجهوية الموسعة فضاء أمثل للديمقراطية المحلية واللامركزية والاستيعاب جميع المكونات المجتمعية وفضاء لتكريس أسس الحكامة المحلية الجيدة، وكسب رهان التنمية الجهوية والوطنية.
وبصفة عامة يمكن القول على أن الجهة كجماعة محلية أو في إطار التصور الجديد للجهوية الموسعة معول عليها للنهوض بالتنمية بكل أبعادها وتمظهراتها. واستيعاب العديد من الإشكالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمجالية، مما يجعلها إطارا لإرساء حكامة محلية جيدة. بما يخدم صناعة القرار التنموي المحلي ويفعل التنمية المحلية ويراهن على التنمية الشمولية.

[1] - الحسين الوزاني الشاهدي: "الجهة أداة لتطوير ودعم اللامركزية"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية. عدد 35، 2000، ص 33.
[2] - أحمد أجعون: "علاقة الجهة بالإدارة المركزية في المملكة المغربية"، المجلة المغربية لأنظمة القانونية والسياسية، عدد خاص السنة الرابعة 2005، ص 24.
[3] - لقد جاء ذلك على لسان الملك الراحل في كتابه ذاكرة ملك حيث قال: "إن المغرب بمثابة فسيفساء بشرية وجغرافية، ولهذا أريد تحقيق اللامركزية، لأترك يوما الجهات تتمتع باستقلالية كبيرة على شاكلة المقاطعات الألمانية لاندر، وذلك سيكون بالتأكيد في مصلحة المغرب الحديث، بحيث يكون التنفيذ أسرع والتطور أكثر واقعية، فالمغرب حباه الله بتنوع رائع لأنه يزخر من الناحية الجغرافية بصحراء شاسعة وواحات نخيل وارفة الظلال وثلوج تكسو جباله وسهول خصبة، فضلا عن سواحل مترامية الأطراف على المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. ولا ينقصه إلا صقيع القطب الجنوبي". الحسن الثاني: "ذاكرة ملك" منشورات الشركة السعودية للأبحاث والنشر. الطبعة الثانية 1993، ص 125.
[4] - عبد الكبير يحيا:" تقسيم التراب والسياسة الجهوية بالمغرب: نحو اعتماد جهوية سياسية"، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية. ع 84، الطبعة الأولى 2010، ص 332.
[5] - محمد بوبوش: "الجهوية السياسية كأداة لتجاوز مشكل الصحراء"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة عدد 52، 2006ن ص 98.
[6]- Saâdia Ben Hachem El Harrouni : « La construction régionale au Maroc : dynamique et enjeux ». Publication de REMALD, Série « Manuels et Travaux Universitaires», n° 60, 1ère édition 2008. p 484.
[7] - خطاب الملك بتاريخ 6 نونبر 2008.
[8] - خطاب الملك بتاريخ 4 يناير 2010 بمناسبة تنصيب أعضاء اللجنة الاستشارية المكلفة بوضع تصور حول الجهوية.
[9] - رشيد لبكر: "رهان التنمية في مسار الجهوية بالمغرب" مسالك الفكر والسياسة والاقتصاد، عدد مزدوج 13-14،  2010
ص 57.
[10] - المهدي بنمير: "الحكامة المحلية بالمغرب وسؤال التنمية البشرية"، مطبعة وليلي، الطبعة الأولى مراكش 2010، ص 51.

[11] - عبد الكبير يحيا:  م.س، ص 212.

تبعية النيابة العامة بين التأصيل الدستوري والخطاب السياسي

خلق موضوع تبعية النيابة العامة للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، أو لوزير العدل و الحريات، جدلا فقهيا و قانونيا، بين مؤيد و معارض لهاته الأطروحة أو تلك.

لكن الفقرة الثانية من الفصل 110 من الدستور تنص بأنه " يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الإلتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها" .كما يؤخذ من الفقرة الخامسة من الفصل 116 من الدستور بأنه " يراعي المجلس الأعلى للسلطة القضائية، في القضايا التي تهم قضاة النيابة العامة، تقارير التقييم المقدمة من قبل السلطة التي يتبعون لها".

إن المقتضيات الدستورية المشار إليها، لم تفصل صراحة، من هي الجهة، التي سيتبع لها قضاة النيابة العامة، و هو ما يعني بأن التبعية قد تكون، إما لوزير العدل، أو للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض.و يلاحظ بأن الدستور، ترك الباب مفتوحا، لتحديد الجهة التي يتيعن أن يتبع لها قضاة النيابة العامة، و هو ما يعني بأن القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية هو الذي سيتولى تحديد جهة الإشراف على قضاة النيابة العامة.

وفي هذا الإطار جاء مشروع القانون التنظيمي رقم 13-100 ذات المصدر الحكومي لينص صراحة في المادة 103 منه، بأن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض هو سلطة الإشراف على النيابة العامة، حاسما بذلك الجدل القانوني، و متناغما مع توصيات جلسات الحوار المتعلقة بإصلاح منظومة العدالة التي أغرقها وزير العدل و الحريات بالقضاة و موظفي وزارة العدل، و هو ما ترتب عن ذلك تغليب رأي القضاة على رؤية وزير العدل الذي لم يتفطن لخروج النيابة العامة من سلطته إلا بعد الإنتهاء من إعداد و تقديم مشروع القانون التنظيمي رقم 13-100 إلى المجلس الوزاري و المصادقة عليه، وهو ما يعني بانه حظي بموافقة ملكية.

فإذا كان مشروع القانون التنظيمي رقم 13-100، يعتبر من وجهة نظر دستورية أنه يمثل مشروع قانون لأن مصدره الحكومة، و بناء عليه يفترض ان تعتمده الحكومة عند عرضه على البرلمان وفقا للمسطرة التشريعية، و الدفاع عنه سعيا لأن يصير قانونا نافذا بعد التصويت عليه من طرف البرلمان.

لكن الغريب هو ما حصل في لجنة العدل و التشريع، بحيث أن السيد وزير العدل و الحريات عوض الدفاع عن مشروع القانون رقم 13-100 الذي نص صراحة بأن السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيسا للنيابة العامة، إنبرى لطرح رؤية مخالفة لنص المشروع، بتأكيده أن الإشراف على النيابة العامة، يجب أن يسند إلى وزير العدل و الحريات.حقا إن الدستور لم يحسم بشكل قطعي من هي الجهة التي سيتبع لها قضاة النيابة العامة، الأمر الذي يجعل تبعيتهم ممكنة إما للسيد وزير العدل أو للسيد الوكيل العام لدى محكمة النقض.إلا أن من سيتولى الحسم في التأويل هو القانون التنظيمي، بعد التصويت و المصادقة عليه من طرف البرلمان، واخضاعه للرقابة الوجوبية من طرف المجلس الدستوري.و بما أن السيد وزير العدل عضو في الحكومة، كان عليه أن يتبنى موقفا واضحا و صريحا بشأن الجهة التي سيتبع لها قضاة النيابة العامة و أن يجاهر الدفاع عنه في المجلس الوزاري.

ويبدو بأن السيد وزير العدل، لما لم ينجح في تسييد موقفه في المجلس الوزاري، أو أنه أجحم الإعلان عنه، لا ندري، الشيء الذي دفعه إلى الدفاع عن تبعية النيابة لوزير العدل بعد إحالة مشروع القانون التنظيمي على البرلمان و الشروع في مناقشته داخل لجنة العدل و التشريع، بحيث أنه أعلن مواقف تخالف ما ورد في مشروع القانون التنظيمي ذات المصدر الحكومي، علما أن الحكومة هي صاحبة المبادرة التشريعية.

وبالنسبة للتأويل القائل بأن إخضاع النيابة العامة لسلطة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض سيضع الملك في مواجهة مباشرة مع المتاقضين، فيه نوع من المغالطة السياسية، و الإنحراف في تفسير القانون، لأن مبدأ فصل السلطات يقتضي وجوبا استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية و التشريعية، و بما لا يخل أيضا بالمبادئ الدولية المتعلقة باستقلال النيابة العامة، ولا مجال للمحاججة بأحكام الفصل 51 من قانون المسطرة الجنائية لانه سيكون موضوع تعديل قصد ملائمته مع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الاعلى للسلطة القضائية. و هو ما يعني بأن تبعية قضاة النيابة العامة يجب أن تكون لسلطة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، و ليس لسلطة وزير العدل، حتى تتحقق الغاية من مبدأ فصل السلطات.

وبناء عليه سيكون الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض هو الجهة المعنية بتنفيذ السياسة الجنائية و سير أعمال النيابة العامة. لأنه و إن كان الملك وفقا للفصل 115 من الدستور يرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فإن من يتولى سلطة الإشراف المباشر، هو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، أي الرئيس الأول لمحكمة النقض، علما أن الملك هو الضامن لإستقلال السلطة القضائية، و بناء عليه سيساءل الوكيل العام للملك من طرف الملك بهاته الصفة، و بصفته أيضا سلطة التسمية له، خاصة و أنه لا يوجد في الدستور ما يوحي بمساءلة الملك عن سائر أعماله، سواء كانت سياسية أو تنفييذية أو قضائية، لأن مركز الملك الديني و التاريخي أسمى من الدستور وفقا للفلسفة التي تحكم الدستور المغربي و لكونه أيضا السلطة التأسيسة الأصلية الواضعة له، و السلطة التأسيسة الفرعية المعدلة له.
مصطفى بن شريف
http://www.hespress.com/

Wednesday, February 18, 2015

الجهوية المتقدمة ورهان التنمية د. عبدالرحمن الصديقي

يستعد المغرب لبدء تجربة جديدة، تجربة الجهوية المتقدمة التي من المنتظر أن تغير الخريطة الجهوية للمملكة وكذا المشهد السياسي والاقتصادي الجهوي. فالى اي حد ستستفيد من التجارب السابقة في سبيل ارساء التنمية. 
تعتبر هذه التجربة الثالثة من نوعها بعد الجهوية الاقتصادية التي شهدها المغرب في السبعينيات من القرن الماضي والتي قسمت البلاد لسبع جهات مقاييس لتدخل الدولة. هذه التجربة يطلق عليها كذلك الجهة المخطط بحيث عملت الدول
على تقسيم البلاد بهدف اعادة توزيع الثروات بين ربوعه لتقليص الفوارق والتقليل من هيمنة مركز الدارالبيضاء. 
لا يجب أن ننسى بأن من كان يقوم بهذه العملية هم المهندسون والتقنيون الذين يهيؤون مخططات خماسية و"استراتيجية" من المركز غالبا ما تكون بعيدة كل البعد عن حقيقة الواقع المعاش في الهامش. 
التجربة الثانية التي عرفتها البلاد بعد دستور 1992 هي تجربة الجهوية الادارية وتقسيم 1997 وكانت هذه التجربة تهدف بالأساس لتقريب الادارة من المواطنين في اطار اللاتمركز واللاتركيز في اطار التوصيات التي كانت البلاد تتلقاها من البنك الدولي بخصوص الاصلاحات الادارية للتقليل من البيروقراطية وهيمنة الفساد والوسائط والمحسوبية على مؤسسات الدولة بالدرجة التي تعرقل معها التنمية. هذا الاصلاح جاء كما نعرف بعد السنوات العجاف التي مرت منها البلاد بسبب التقويم الهيكلي وما تلاه من انتفاضات شعبية بسبب قصور تدخل الدولة. الشيء الذي يجعلني اقول بأن هذه الجهوية وما تلاها من اصلاحات لم تكن في الحقيقة إلا "ماكياج" تتخفى من ورائه الدولة للتهرب من مسؤولياتها الترابية باسم الديمقراطية المحلية وكذلك دمقرطة مؤسسات الدولة وما تلاها من تشكيل حكومة التناوب وغير ذلك من التحولات التي طرأت على المشهد السياسي الوطني. 
من ناحية التنمية الترابية لم تستطع التجربتين السابقتين تحقيق التنمية الترابية لأنها لم تكن يوما من أهدافها الفعلية, وان كانت نصوص القوانين تتحدث عن ذلك بين فقراتها. فقط,لأن تحقيق التنمية يقتضي تهيئة الظروف القانونية والبشرية والتقنية لنجاح المشروع اصل التنمية, الشيء الذي لم يكن متوفرا في ظل تشرذم وتقزم جغرافي وسياسي واقتصادي ومؤسساتي. 
التجربة الحالية يطلق عليها "الجهوية السياسية"، وقد جاءت نتيجة ظروف خاصة. فبعد فتح الحدود والعولمة وما تلاها من فقدان للهوية كان رد فعل التراب اقوى من خلال العودة الى الاصول في اشكال متعددة ": لغوية واثنية وجهوية وترابية وسياسية .... فكانت هذه الجهوية شكل من اشكال "امتصاص الاختلاف في اطار التنوع والتعدد داخل الوحدة لتفادي الخلاف", كما يقع حاليا في كثير من البلدان في شكل اقتتال وتطاحن تحت مسميات مختلفة. 
الواضح من خلال القيام بدراسة متمعنة لقانون الجهوية الحالية, ان المشرع استفاد من التجارب السابقة وكذا التجارب العالمية من حيث علاقة الجهة بالتنمية. فالجهوية اليوم لم تعد مهمتها اعادة توزيع ولا عدم التمركز والتركيز ( مهمة الجهويتين الاولى والثانية), وإنما مصاحبة الفاعلين المحليين (دون الحلول مكانهم) من مقاولات ومجتمع مدني وفاعلين ترابيين، ليصبح ذكيا وفي مستوى تأسيس وتطوير مقاولة رابحة وذات قدرات تنافسية، مدركة لمحيطها وتعرف اصطياد الفرص التي تتاح لها في الزمان والمكان المتحولين.الدولة تؤطر وتوجه وتنسق ولا تلعب دور الفاعلين الترابيين. 
نقرأ مثلا بأن الجهة ستكون لها صلاحيات موسعة من حيث الاستقلالية والمبادرة واتخاذ القرار, وستكون لها الوسائل المالية والبشرية والتقنية اللازمة للقيام بمهام التنمية. ستكون لها ميزانيتها ووكالتها للتنمية التي تقوم بالدراسة والتوجيه والاستشراف والاستشارة وغير ذلك من الوسائل والإمكانيات. 
ان الجهوية المتقدمة المغربية, بعد التقطيع وسن القوانين, ليست في حقيقة الأمر سوى في بداية الطريق وما بقي من أوراش أعطم، بحيث يجب الان الانكباب على توحيد الخرائط القطاعية الاخرى حتى تتقاطع مع التقطيع الاداري واقصد الخريطة القضائية والتعليمية وغيرها ويجب القيام بدور تحسيس وتوعية بأن الجهوية تحتاج للفاعلين المحليين لتنجح اكثر من حاجة هؤلاء اليها في اطار منطق الريع المترسخ في الذاكرة الترابية والجماعية المغربية. أما التكلفة الاقتصادية للجهوية من حيث بنياتها ومن حيث اشتغالها فهي كذلك مشكلة يجب الانكباب عليها لإيجاد مصادر التمويل. 
المشكل الاخر الذي يجب الانكباب عليه كذلك هو مكانة الوكالات الخاصة الخاضعة مباشة لسلطة الدولة المركزية, ونقصد الوكالات الترابية والقطاعية دون نسيان والوكالة الخاصة طنجة-المتوسط, وكيفية تدبير امورها وتعايشها مع القرارات المتخذة على مستوى مجالس الجهات. ما نوع الحكامة والتمثيلية الترابية في هذه الوكالات وما مدى تعاونها مع قرارات الديمقراطية المحلية وهل ستكون شريكا ام متنافسا؟
هذه الوكالات الخاصة تذكر بكثير من التشابه المناطق والوكالات الخاصة التي تتخذها الحكومة الفدرالية في الولايات المتحدة الامريكية كوسائل للضغط على المجالس الجهوية في الدول التابعة للاتحاد. 
المشكل الاخر الذي سيعترض الجهوية الحالية هو مدى قدرة الجهات على افراز نخب في مستوى التطلع. نخب قادرة ان تفكر وتأطر وتوجه اقتصادياتها الجهوية في مناخ اعمال معقد ومتقلب وصعب ومليء بالمخاطر. 
هل لم يكن من الاجدر بالمشرع المغربي سن قوانين تفاضلية ومختلفة للجهات حسب الاستحقاق وحسب الوعي الجهوي بدقة المرحلة على غرار ما نجده في اسبانيا (استقلال ذاتي تام او تطوري) وايطاليا (الجهات الاستثنائية) وحتى في الولايات المتحدة حيث السلط تختلف حسب الجهات من سلطات مطلقة وتحت وصاية؟
إن الجهة والجهوية ليست مجرد قوانين ولكنها واقع معاش. وبين الارادة والحقيقة هناك عمل دؤوب ومتواصل على كل المستويات : الوطنية, الجهوية, التحت جهوية والمحلية وعلى كل القطاعات .
د. عبدالرحمن الصديقي-كلية الحقوق بطنجة : الجهوية المتقدمة ورهان التنمية* 
------------------------------------------------------------------------------------------------------
* ملخص محاضرة القيتها يوم السبت 14فبراير 2015 بمقر جهة طنجة-تطوان بمناسبة افتتاح 
الدروس الربيعية المنظمة من طرف الامانة الجهوية لحزب الاصالة والمعاصرة.

Friday, February 06, 2015

حيازة المكري المحل المهجور أو المغلق في القانون الجديد (1/3)

من المستجدات اللافتة في القانون رقم 12/67 المنظم لعقود أكرية المحلات السكنية والمهنية الصادر بتاريخ 28/11/2013 والذي دخل حيز التنفيذ ابتداء من مارس 2014 ، يأتي على رأسها تنصيصه الصريح على جواز استرداد المكري للمحل المكترى متى هجره المكتري وصار محلا مغلقا لمدة ستة أشهر على الأقل وفق ما نظمته الفصول الجديدة الواردة في الباب التاسع الفرع الأول وتحديدا الفصول من 58-59-60 إلى 67 منه.
فإلى غاية صدور هذا القانون ظلت المسطرة موضوع شد وجذب بين رأي قضائي أخذ بها
 وبين آخر رفضها أو سرعان ما هجرها، ولكل رأي مؤيداته المستساغة والمعقولة أيضا بالنظر إلى أن هذه المسطرة هي من إبداع قضائي وتقف في نقطة فارقة بين مصلحتين مفترقتين:
- مصلحة المكري صاحب الملك - مصلحة المكتري صاحب الانتفاع بالملك.

تشكلت ثغرات تخللت تطبيق المسطرة في إطار القواعد العامة وفي غياب النص الصريح منذ عقود خلت، فجاء القانون الجديد منتصرا للرأي القضائي الذي لم يتوان في اعتمادها كلما كانت الدواعي إليها مشروعة وقائمة لما تتسم بها من سرعة وفعالية واحترافية.
ونحن نرى ان تنظيم المسطرة بشكل صريح في القانون الجديد املاه مبدآن هما:
أ- مبدأ إيجاد العدالة في العلاقة الكرائية:
فإذا كان المعتاد هو أن يتدخل المشرع كلما دعت الصيرورة الاجتماعية والإكراهات الاقتصادية لتعديل قانون الكراء تحت هاجس حماية الأمن السكني للمواطن وعدم تركه فريسة لجشع الملاك وسماسرة العقار فإنه وفي الوقت نفسه لا ينبغي ترك المكري عرضة لتعسفات بعض المكترين المخلة بالتزاماتهم التعاقدية، سيما الإخلال بواجب أداء الكراء والحفاظ على المحل المكترى من الإهمال والضياع.
فمبدأ العدالة إذن يقتضي جمع مصلحتي الطرفين في إطار حمائي متوازن، وضمن هذا الإطار تبرز أهمية مسطرة استرجاع المحل المغلق التي قد يسلكها المكري في مواجهة المكتري والمهمل والمتعسف في استعمال الحق الناشئ له عن عقد الكراء.
ب - مبدأ حق الملكية هو الأصل:
فالمسطرة الموضوعة تلامس هذا المبدأ وتكرس قدسية حق الملكية باعتباره الأصل المفروض حمايته وعدم الإضرار به تحت أي غطاء تعاقدي مختل، فالاستثمار العقاري ينبغي ان يهيأ له مناخ قانوني سليم ومتوازن قائم على قاعدة أصولية هي عدم التعسف في استعمال الحق بما يؤدي إلى المساس بحق الملك.
وهو المقتضى الذي يستنتج أيضا من خلال مقتضيات الفصل 14 من قانون الكراء وكذا الفصل 663 من (ق.ل.ع) كقانون عام، وهي المقتضيات التي تلزم المكتري إضافة إلى دفع واجب الكراء بانتظام بالحفاظ أيضا على الشيء المكترى أو استعماله بدون إفراط أو إساءة أو خارج ما يقتضيه نطاق العقد والعرف.
من هذا المنطلق، نحن نرى أن فرض المشرع في قانون الكراء الجديد لهذه المسطرة هو موقف صائب وصارم ويتناغم مع المبدأين المذكورين، لكن السؤال الذي يطفو إلى الواجهة من جديد هو إلى أي حد توفق المشرع عند سنه لهذا المقتضى الجديد في اختيار الصياغات أو العبارات الهادفة إلى تبني الوضوح والتبسيط بما يشجع الأطراف على سلوك المسطرة؟
هذا ما سنحكم عليه في معرض تفكيكنا وتحليلنا للنصوص الجديدة المنظمة لها وذلك من خلال التطرق في البحث إلى محاور ثلاثة:
أولا: تحديد مفهوم المحل المهجور أو المغلق:
في محاولة منه لضبط مفهوم المحل المهجور أو المغلق أورد المشرع في الفصل 57 من قانون الكراء حالات حصرية متى تحققت اعتبر المحل المكترى مهجورا وهذه الحالات هي:
أ- إخلاء المكتري المحل من جميع منقولاته وأغراضه كليا أو جزئيا.
ب - غياب المكتري عن المحل وعدم تفقده من طرفه شخصيا أو من طرف من يمثله أو من يقوم مقامه.
ج - وفاة المكتري أو فقدانه للأهلية القانونية وعدم ظهور أي شخص من الأشخاص المستفيدين من العقد وفق نص المادة 54 أي الأم الحاضنة للأطفال إن كان هذا هو المقصود فعلا من طرف المشرع، أم أن الأمر قد شابه خطأ ما في الإحالة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الصور يلزم للأخذ بها في اعتبار محل الكراء مهجورا قيام شرطين اثنين هما:
- الشرط الأول: أن يظل المحل مغلقا لمدة لا تقل عن ستة 6 أشهر كاملة.
- الشرط الثاني: أن يخل المكتري بالتزامه العقدي تجاه المكري.
ففي غياب أحد الشرطين تسقط هذه الحالات جميعها ويغيب المسوغ القانوني لسلوك المسطرة، لكن إذا كان الشرط الأول لا يثير أي لبس ويسهل التدليل عليه وإثباته، فإن الشرط الثاني يطرح استفسارين اثنين الأول من حيث تحديد المقصود بإخلال المكتري بالتزامه العقدي ما دام أن المكتري تقع عليه التزامات متنوعة تجاه المكري لا التزام واحد، فهل كان المشرع يعني في النص جميعها أم أنه كان يقصد فقط الالتزام الرئيسي المتمثل في أداء واجب الكراء على النحو المنصوص عليه في الفصل 12، وهذا هو الطرح الصائب بدليل أن المادة 67 حينما نصت على إمكانية استرجاع المكتري للمحل من جديد من يد المكري اشترطت لقبول طلبه أن يثبت انه أدى ما كان بذمته من مبالغ كرائية.
وعليه فإن القول بأكثر من ذلك أي جميع الالتزامات وفق ما ورد النص عليه في الفصلين 13 و14 من قانون الكراء، فإن المشرع يكون قد وضع شرطا يكاد يكون تعجيزيا سيجمد المسطرة ويفرغها من الأساس الذي قامت عليه، وهو الحماية السريعة للمكري من تعسفات المكتري التي من شأنها التأثير على درجة رفاهية المحل المكترى هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه يستحيل تحميل المقتضى المذكور على أن القصد منه هو جميع الالتزامات المنصوص عليها بما في ذلك ما ورد في المادتين 13 و14، ما دام أن هذه الالتزامات جميعها مرتبطة باستغلال المحل وما قد يترتب عن هذا الاستغلال من ضرر يلزم تعويضه وهي مما لا يمكن إجبار المكري على إثباتها قبل سلوك مسطرة استرجاع حيازة المحل المهجور.
لذا نؤكد مرة أخرى على أن الإخلال المقصود هو توقف المكتري عن الوفاء بأجرة الكراء المستحقة عليه، وهو الموقف الذي كان عليه العمل قضاء قبل إيراد المسطرة في القانون الجديد.
وهذا ما يدعو إلى القول بأن الصياغة في المادة 58 لم تكن دقيقة مما يفرض مراجعتها بالتنصيص بكل بساطة على المقصود بالإخلال المنسوب إلى المكتري هاجر المحل وذلك درءا لكل تأويل قد يعقد المسطرة أكثر، كأن تقترح مثلا الصياغة التالية:
«لا يعتبر المحل مهجورا إذا استمر المكتري في أداء واجب الكراء للمكري بانتظام وفق الطريقة المحددة في العقد أو في العرف».
ومن باب الملاحظة أيضا أقول بأن تولي المشرع في المادة 57 تعداد الحالات المحددة لوضعية المحل أهو مهجور أم لا، لم تكن بالصيغة الموفقة فالصياغة كانت زائدة، ولم يكن ثمة من مدعاة لها، بل إن الفائدة المرجوة لن تتحقق. إذن كان حريا بالصياغة أن ترد كالآتي:
«يعتبر المحل مهجورا إذا ظل مغلقا لمدة ستة أشهر على الأقل مع توقف المكتري عن دفع واجب الكراء للمكري» فمثل هذا التبسيط في الصياغة هو المطلوب الاستعجالي الذي له خصوصياته أيضا، من قبيل عدم بحث موضوع النزاع أو فحص أصل الحق إلى الخ.
وان كنا لا نتفق أيضا حول جعل المدة بهذه المسافة الزمنية لأن المكتري المخل بالتزاماته لا ينبغي أن ينتظر كل هذه المدة، من هنا نرى أن تقليص المدة إلى شهرين متتاليين مثلا كان الأفضل، أما وأن المشرع قد حددها في ستة أشهر فالأفيد للمكري سلوك المسطرة العادية التي تتيح له ضمانات أكثر لفسخ العقد أو إفراغ المكتري عوض البقاء مكتوف الأيدي طيلة المدة المطلوبة، علما بأنه سيبقى بعد ذلك مشوشا طيلة المدة نفسها بعد تنفيذ الأمر باسترجاع المحل متى ظهر المكتري من جديد أو من يقوم مقامه بحيث سيقع المكري تحت طائلة الفصول 66 إلى 69 من القانون نفسه، اللهم إذا باشر المسطرة الموازية وأفلح في استصدار قرار نهائي بالفسخ أو الإفراغ لحماية ما قد يحققه من مكسب عند مباشرته للمسطرة الخاصة هاته.
ثانيا: إجراءات البت في طلب استرجاع المحل المهجور:
1- رئيس المحكمة الابتدائية هو المختص للبت في الطلب:
«نص الفصل 59 من قانون الكراء الجديد على أن طلب استرجاع المحل المهجور يقدم إلى رئيس المحكمة بصفته قاضيا للمستعجلات مشفوعا بالوثائق التالية:
- العقد أو السند الكتابي المثبت للعلاقة الكرائية.
- محضر معاينة واقعة إغلاق وهجر المحل المكترى وتحديد أمد الإغلاق».
فمتى قرأنا النص بتكرار وتمعن نخلص إلى إبداء الملاحظات التالية:
1- طلب استرجاع المحل المهجور يكتسي صفة الدعوى الاستعجالية:
مؤدى هذا المقتضى أن النص قد جرد رئيس المحكمة باعتباره قاضي الأمور المستعجلة من صلاحية تقييم العناصر المحددة لاختصاصه طبقا للفصل 149 من (ق م م) فبحثه طبقا للفصل 59 الذي جاء كنص خاص للفصل 149 (ق م م) محصور في بحث مدى تحقق العناصر الواردة في النص الخاص وشروطه فلم تعد له من سلطة على الدعوى من حيث وصفها أهي دعوى مستعجلة أم دعوى عادية ولا من حيث بحث شرطي الاستعجال وعدم المساس بالجوهر، ذلك لأن النص هنا قد تولى الأمر من بدايته فاعتبر الدعوى المؤطرة في الفصل 59 هي دعوى استعجالية يبت فيها رئيس المحكمة بهذه الصفة.
ومن الملاحظ على النص أيضا أنه لم يتطرق إلى إسناد الصلاحية للبت في الطلب إلى نائب رئيس المحكمة، رغم أن الإمكانية تبقى واردة أخذا بالمقتضيات العامة المنظمة للقضاء المستعجل في نصوص المسطرة المدنية، وهو ما كان على الفصل 59 من قانون الكراء الجديد لدرء كل تأويل خاطئ الإحالة عليها، ما دام أنه أغفل التنصيص على ذلك صراحة.

بقلـم : نجيب شوقي  *
* رئيس غرفة العقار وقضايا الأسرة باستئنافية الناظور
جريدة الصباح

مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم الجهات .. عددها وتسمياتها ومراكزها ...

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا