Thursday, July 25, 2013

دراسة في القانون: انفصال النيابة العامة (1/3)

كثر الحديث مؤخرا عن استقلال النيابة العامة وكأن هذه المؤسسة لم تكن يوما كذلك. والحقيقة أن النيابة العامة كانت دوما وأبدا مستقلة لا يحد من استقلالها
 إلا درجة إيمان وتكوين أعضائها. فجميع المعطيات المتوفرة إن دوليا أو وطنيا تناضل في سبيل القول باستقلال النيابة العامة.

هناك معطيات عديدة تتماشى مع طرح أن النيابة العامة كانت دوما مستقلة:
1 - فمن جهة قررت التوصية 10 من إعلان المبادئ التوجيهية الخاصة بقضاة النيابة العامة بأنه يجب التفريق بكيفية قاطعة بين وظائف النيابة العامة ووظائف القضاء الجالس.
2 - ومن جهة أخرى تعتبر النيابة العامة طرفا في الدعوى العمومية التي يتعين أن توفر للمتهم و للضحية شروط المحاكمة العادلة. وقد أناط المشرع بها مجموعة من الواجبات التي لا يمكن لها بطبيعة الحال أن تضطلع بها، بما يضمن استيفاء شروط المحاكمة العادلة، إلا إذا كانت مستقلة عن باقي الأطراف في الدعوى، ونقصد بذلك الضحية و المسؤول المدني و المتهم وكذا القاضي.
3 - ومن جهة ثالثة، خلافا لبعض التشريعات التي لا تعترف لممثل النيابة العامة بالصفة القضائية مما أثار جدلا كبيرا في الأوساط الحقوقية والقانونية الأوربية منها على وجه الخصوص، نجد المشرع المغربي يعترف بالصفة القضائية لممثل النيابة العامة . والاستقلال بطبيعة الحال صفة ملازمة للقاضي.
4 - إن تبعية النيابة العامة من حيث السلطة الرئاسية لوزير العدل لا تتناقض ومبدأ استقلالها، وذلك لعدة اعتبارات نذكر من أهمها:
أ) تقرر القاعدة المتأصلة في فقه القضاء على أنه « إذا كان القلم أسيرا، فاللسان حر « وعليه فإذا كان ممثل النيابة العامة يتقيد مبدئيا بالتعليمات الموجهة إليه، فإنه يسترجع حريته داخل الجلسة كاملة، وله أن يبسط أمام المحكمة من الملتمسات الشفوية ما يراه مفيدا لمصلحة العدالة. لا يقيده في ذلك إلا ضميره و حكم القانون .
ب) إن التبعية لوزير العدل ليست تبعية مطلقة. فتعليمات وزير العدل ينبغي أن تكون مشروعة غير مخالفة للقانون إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما قال صلى الله عليه وسلم. ثم إن الدفع بتنفيذ أمر القانون لا يعفي من المسؤولية الجنائية. كما أن تلك التعليمات يجب أن تكون مكتوبة و أن توضع في ملف القضية حتى يتمكن الجميع من الاطلاع عليها تحقيقا للشفافية، وحتى يتمكن الجميع من المساهمة في الرقابة على مشروعيتها. و في ذلك ضمانة إضافية تعزز استقلال النيابة العامة. لكن بأي التعليمات يتعلق الأمر ؟
بالرجوع إلى مقتضيات قانون المسطرة الجنائية التي تنظم الصلاحيات التي يتمتع بها وزير العدل بصفته رئيسا للنيابة العامة نسجل الملاحظات التالية:
1 -  إذا كان بإمكان وزير العدل إعطاء تعليمات بتحريك الدعوى العمومية أو بالمتابعة، فإنه لا يستطيع إعطاء تعليمات بالحفظ أو بعدم المتابعة و ذلك لعدم وجود مقتضى في القانون يسمح له بذلك.
2 -  إن تعليمات وزير العدل يجب أن تكون مكتوبة سواء تعلقت بأمر بالمتابعة أو بوجهة نظر يرغب الوزير في عرضها على المحكمة لتنوير جانب من جوانب القضية من شأنه أن يساعدها على الوصول إلى الحقيقة. وهذه التعليمات الكتابية يجب أن تودع بملف القضية وتشهد المحكمة على النيابة العامة بتقديمها لملتمساتها الكتابية المتضمنة لرأي الوزير، وذلك بالرغم من سكوت النص القانوني عن ذلك.
3 - إن سلطة توجيه تعليمات للنيابة العامة بمتابعة مرتكبي الجرائم أو برفع ما يراه وزير العدل ملائما إلى المحكمة والتي أقرتها المادة 51 في فقرتها الثانية من قانون المسطرة الجنائية لفائدة هذا الأخير، تعطيه الحق في التدخل في الملفات الفردية. وهذه مسألة أثارت جدلا كبيرا في الأوساط القانونية والحقوقية الفرنسية بالنظر إلى أن النص القانوني الفرنسي كان يعطي لوزير العدل الصلاحية نفسها.
4 -  تنص المادة 40 من قانون المسطرة الجنائية في معرض تعدادها لصلاحيات وكيل الملك على أنه :».. يطالب بتطبيق العقوبات المقررة في القانون، ويقدم باسم القانون جميع المطالب التي يراها صالحة، وعلى المحكمة أن تشهد بها عليه بتضمينها في محضرها و أن تبت في شأنها ....»
 إن هذه الفقرة، في اعتقادي، تجسد روح استقلال النيابة العامة. فوفاء قاضي النيابة العامة هو أولا وأخيرا لحكم القانون وليس لجهة إدارية معينة، والتزامه هذا يجد أساسه في اليمين العظيمة التي يؤديها عند تعيينه لأول مرة في سلك القضاء حين يقول : « أقسم بالله العظيم أن أقوم بمهامي بوفاء..» . وفي ذلك تجسيد مادي لفكرة أن الاستقلال هو بالدرجة الأولى مسألة نفسية لا يدرك كنهها إلا من جبل عليها، ولا يحد من مداها إلا قيد فرض قانونا أو عرف كان بين الناس مشهورا، مما لا تبقى معه للحديث عن استقلال النيابة العامة عن وزير العدل من عدمه إلا فائدة قليلة.
ومع ذلك فقد علمتنا التجربة أن ميزان القوى بين وزير العدل والهيأة القضائية لم يكن دائما في مصلحة هذه الأخيرة، وأن السلطة قد يساء استعمالها، وأن استقلال النيابة العامة يظل مع ذلك استقلالا محدودا وغير مقنع ما دام أنه يفسح المجال لتدخل السلطة التنفيذية ممثلة في شخص وزير العدل في شؤون القضاء، مما يتعارض مع مبدأ فصل السلط الذي تقوم عليه فكرة الديمقراطية من جهة ويتعارض مع روح الدستور المغربي الجديد الذي رفع القضاء من درجة السلطة Autorité  إلى درجة Pouvoir إمعانا في ترسيخ هذا المبدأ من جهة ثانية، وهو ما يفرض وضع الآليات الكفيلة بحماية هذا الاستقلال، والتي تتمثل كما يطالب بذلك الكثيرون في استقلال النيابة العامة العضوي عن وزارة العدل أو ما نسميه بانفصال النيابة العامة.

بقلم: رشيد صادوق, دكتور في الحقوق
جريدة الصباح الأربعاء, 24 يوليو 2013

Tuesday, July 23, 2013

دراسة في القانون: قرينة البراءة بين "الفكر الحقوقي" و"التعسف السياسي"

يعتبر مبدأ «قرينة البراءة»، في ظل الأنظمة الديمقراطية المعاصرة، من أهم المبادئ التي تؤصل لفكر حقوق الإنسان
بمفهومه الكوني والدولي، فضلا عن أنها بمثابة القطب من رحى المحاكمة العادلة.

يتأدى مبدأ «قرينة البراءة»، أساسا، في ضرورة تعامل القضاء، وبقوة القانون، مع المتهم باعتباره بريئا في كل مراحل المحاكمة إلا إذا قام الدليل على نسبة ارتكاب الجريمة إليه، وذلك بمقتضى حكم قضائي غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن، أو ما يصطلح عليه قانونا بـ»حيازته لقوة الشيء المقضي به». وترتد بعض إرهاصات هذا المبدأ إلى عصور قديمة خلت، إلى أن أخذت به الشريعة الإسلامية تحقيقا للعدالة وضمانا لمصلحة المتهمين، وقد جسده الرسول الكريم (ص) في قوله: «ادْرَؤُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مَخْرَجًا فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» (رواه البيهقي في السنن الكبرى)، أو كما روي في شرح المختصر لابن حجر:»ادرؤوا الحدود بالشبهات».
وقد تكرس هذا المبدأ في الفكر القانوني والحقوقي الحديث استجابة لصيحات المفكر الإيطاليCesare Beccaria في القرن الثامن عشر، بعد أن تلقفه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1789 (الفصل 9)، فميثاق الأمم المتحدة لسنة 1948 (الفصل 11)، ثم العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 (المادة 14).
 ولما كان مبدأ «قرينة البراءة» ذا حمولة حقوقية كونية، فإن مشرع قانون المسطرة الجنائية الملغى لسنة 1959، كان قد أحجم عن تكريسه صراحة دونما أي اعتبار للمرجعيات المشار إليها أعلاه، مما دبت معه روح النضال في شرايين الحركات الحقوقية المغربية مطالبة بتكريسه قانونا، الأمر الذي استجيب له بمقتضى قانون المسطرة الجنائية لسنة 2003.
ولعل أجل ما تمظهر به نضال تلك الحركات، هو إقرار هيأة الإنصاف والمصالحة بضرورة التنصيص عليه دستوريا، وذلك بتوصيتها التالية: «دعم التأصيل الدستوري لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وذلك عبر ترسيخ مبادئ سمو القانون الدولي على القانون الوطني، وقرينة البراءة، والحق في محاكمة عادلة». وهو ما انتصر له الفصل 119 من الدستور الجديد، الذي جاء فيه: «يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا، إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به». 
غير أن ما حَيَّر الرأي العام القضائي والحقوقي، وما زال، هو ما قد يتعرض له هذا المبدأ، بين الفينة والأخرى، من ضربات إعلامية وسياسية تكاد تعدمه بالمرة، لاسيما إذا ما صدرت ممن يفترض فيهم احترامه وتوقيره. ولا يخرج عن هذا الإطار، ما صرح به رئيس الحكومة خلال جلسة مساءلته الشهرية أمام مجلس النواب، يوم 26 أبريل، عندما قال: «إنه تألم لضبط شخص متلبس بالرشوة، ولكن عندما متعه القضاء بالسراح المؤقت استقبله رفاقه في المهنة استقبال الأبطال»، وهو ما ارتأينا إبداء بعض الملاحظات حوله علنا ندفع بعضا مما طال مبدأ «قرينة البراءة» وقيمة العدالة المؤسسة عليه من جور وتعسف، وذلك كالتالي:
الملاحظة الأولى: إن رئيس الحكومة غير مؤهل من الناحية الدستورية والقانونية لتحديد عناصر حالة التلبس من عدمها في ملف معروض على السلطة القضائية، إذ تختص هذه الأخيرة بذلك، أصالة وحصرا، دون غيرها، مما يكون معه قد تجاوز حدود عمل سلطته ليمتد إلى عمل سلطة أخرى، خلاف ما يقتضيه الفصل 107 من الدستور.
الملاحظة الثانية: إن السيد رئيس الحكومة، وبمجرد تقريره –تجاوزا- لحالة التلبس في التصريح المذكور، يكون قد أدان مسبقا المتهم المعني بالأمر، وهو ما لم يتقرر بعد من قبل القضاء باعتباره الجهة المختصة؛ مما يكون معه قد هدم مبدأ «قرينة البراءة» بكل حمولته الحقوقية والكونية، فضلا عما قد يسفر عن ذلك من ارتدادات حقوقية لا تتواءم ومتطلبات مرحلة ما بعد الخطاب السامي لـ 9 مارس والدستور الجديد. ناهيك عن مخالفته للمذكرة التي تقدم بها حزبه أثناء صياغة الدستور الجديد، مقترحا من خلالها ضرورة:»حماية الحريات العامة والأساسية في العمل القضائي، وخاصة بالتأكيد الدستوري على تعزيز ضمانات احترام قرينة البراءة».
الملاحظة الثالثة: غير خاف على ذي حس حقوقي في هذا الصدد، أن أي تعليق على قضية موضوعة بيد السلطة القضائية من لدن إحدى السلطتين الأخريين بما فيهم رئيس الحكومة، والتلميح بإدانة متهم ما قبل القول القضائي الفصل، إنما هو، وبتعبير الدستور الجديد، محاولة «للتأثير على القضاء بكيفية غير مشروعة» (الفصل 109 من الدستور المغربي الجديد)، الأمر الذي ينبئ لا محالة باقتراب ساعة «الفوضى المؤسساتية»، نظرا لغياب يكاد يكون تاما لثقافة «احترام سلطة القضاء».
وتأسيسا على ما كل ما سلف، يمكن القول إن أكثر ما يهدد «قرينة البراءة» وقيمة العدالة المؤسسة عليها، هي السياسة: فالسياسة والعدالة ضدان لا يجتمعان، وأن العدالة تتلمس الحق، والسياسية تبغي المصلحة، سواء كانت حقا أم باطلا.

بقلم:  عبد الرزاق الجباري, عضو بنادي قضاة المغرب
الأربعاء, 17 يو ليو 2013 جريدة الصباح المغربية

Saturday, July 13, 2013

دراسة في القانون: دور النيابة العامة في القانون المنظم لمهنة التوثيق

تعرف المجتمعات باختلافها تطورا مستمرا، نتيجة تطور الإعلاميات والتكنولوجيا بصفة عامة، الشيء الذي جعل المسافة بين الأفراد والمجتمعات صغيرة جدا، مما أصبح معه إمكانية تصادم المصالح تزداد سواء بين الأفراد أو المجتمعات. وهكذا، فكل دولة تسعى إلى ضمان السلم الاجتماعي الداخلي، عبر تعاقد الدولة مع أفراد المجتمع من جهة وإعطاء حجية وضمانة للعقود التي يبرمها الأفراد في ما بينهم داخل المجتمع
 من جهة ثانية وكذا على الصعيد الإقليمي والدولي، عبر  الاتفاقيات والمواثيق الدولية. يمكن القول بأن المشرع أعطى للنيابة العامة تحريك المتابعات التأديبية للموثقين من خلال المادة 70 التي تنص على أنه: «يمكن أن تخضع مكاتب الموثقين لعمليات تفتيش تتعلق إما بموضوع معين أو بمجموع النشاط المهني للموثق». وما يزكي هذا الطرح، ما جاءت به المادة 71 التي تنص على أنه:» يجب عند نهاية كل عملية رفع تقرير إلى الوكيل العام للملك ما لم يكن هو الذي قام بالعملية...» ونعتقد أن اعتماد المشرع مصطلح العملية فيه دليل على اختلاف المراقبة عن البحث والتفتيش والإطلاع الواسع والمراجعة، وهكذا يتم رفع تقرير إلى الوكيل العام للملك كيف ما كانت نتيجة العملية، بمعنى سواء ارتكب مخالفة أم لا، أما المجالس الجهوية في شخص رئيسها ورئيس المجلس الوطني عند الاقتضاء فلا يتم إشعارهما إلا إذا تبين من التفتيش وجود مخالفات خطيرة أو وضعيات من شأنها المس بأمن المحفوظات والودائع. على اعتبار أن التفتيش لا يحضره رئيس المجلس الجهوي حسب مقتضيات المادة 69 في فقرتها الثانية، على عكس المراقبة التي يمكنه حضورها كما يمكنه القيام بها بمفرده أي بدون حضور النيابة العامة، حسب مقتضيات المادة 65.
ومن خلال ما سبق، يمكن القول إن النيابة العامة ممثلة في الوكيل العام للملك أو من ينوب عنه تكون حاضرة في أي مراقبة يخضع لها مكتب الموثق، فإن لم تكن حاضرة حضورا ماديا، فإنها تكون كذلك معنويا عبر التقارير التي ترفع إليها. على اعتبار أنها الجهة التي منحها المشرع سلطة الملاءمة لاتخاذ ما تراه مناسبا على ضوء هذه التقارير.
ثانيا: دور النيابة العامة في تأديب الموثقين.
ليس من المنطقي دراسة دور النيابة العامة في الشق المتعلق بتأديب الموثقين، على اعتبار أن مسألة إصدار المقررات التأديبية تبقى من اختصاص المجالس التأديبية بالنسبة للمخالفات التأديبية وللمحكمة بالنسبة للمتابعات الزجرية، في حين يكون للنيابة العامة الدور الأساسي في تحريك الدعوى العمومية، ولا تحول المتابعات التأديبية دون ذلك، كما أنها تكون حاضرة في المجلس التأديبي المتمثل في اللجنة المشار إليها في المادة 11 بواسطة الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف أو نائبه. كما أن النيابة العامة هي المحرك للمتابعات التأديبية بواسطة الوكيل العام للملك لمحكمة الاستئناف المعين بدائرتها الموثق، وهو يقوم بذلك إما بشكل تلقائي حسب ما يبلغ إلى عمله من مخالفات، أو بناء على ملتمس مقدم من قبل رئيس المجلس الجهوي. وإن كانت هذه المقتضيات لا تثير إشكالا، فإن ما يثير بعض النقاش ما جاءت به المادة 78 التي تنص على أنه يمكن للوكيل العام للملك كلما فتحت متابعة تأديبية أو جنحية أو جنائية ضد موثق، إما لأسباب مهنية أو عند اعتقاله بسبب يمس الشرف أن يوقفه مؤقتا من عمله بإذن من وزير العدل. في هذه الفقرة تحتاج النيابة العامة لإذن الإدارة المركزية، غير أنه يمكن الاستغناء عن الأخير بتطبيق الفقرة الثانية التي تنص على أنه يمكن وفق الكيفية نفسها الأمر بالإيقاف المؤقت ولو قبل إجراء المتابعات الجنائية أو التأديبية، إذا ثبت من أي مراقبة أو تفتيش وجود خطورة على أصول العقود والمحفوظات والأموال والسندات والقيم المؤتمن عليها. وفي هذه الحالة يقوم الوكيل العام للملك بتبليغ الأمر بالإيقاف المؤقت إلى المعني بالأمر وإلى المجلس الجهوي للموثقين ويسهر على تنفيذه. وهو الإجراء المنتقد من قبل الفقه،
على اعتبار أن النيابة العامة تجمع بين صفة الخصم والحكم في آن واحد، وإن كان الأمر يتعلق بتدبير احترازي ومؤقت. كما أن الموثق المعني بالأمر يمكنه الطعن في ذلك القرار أمام اللجنة المشار إليها في المادة 11 التي يتعين عليها البحث في أقرب أجل ممكن قصد تسوية وضعيته، وما يزيد من حدة الانتقاد هو أن مدة التوقيف يمكن أن تصل إلى ثلاثة أشهر إذا لم يصدر قرار بالمتابعة وفي هذه الحالة يستأنف الموثق مهامه تلقائيا وبقوة القانون، بعد الإدلاء بشهادة من رئيس اللجنة المشار إليها في المادة 11 وهي مدة طويلة جدا بالنسبة لمهنة حرة رأسمال صاحبها هو سمعته وسط زبنائه، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤثر كثيرا على مساره المهني، ودليل ذلك هو أن العقوبة التأديبية التي يمكن أن يتعرض لها الموثق بعد ثبوت إدانته المتعلقة بالإيقاف عن ممارسة المهنة فإنها لا تتجاوز سنة، وهي أخطر عقوبة يمكن أن تصدر في حقه بعد عقوبة العزل، وبالتالي يتضح أن المشرع يعي جيدا مدى خطورة الإيقاف المؤقت عن ممارسة الموثق لمهامه، وبالتالي كان عليه ومراعاة للفلسفة نفسها، أن يقلل من هذه المدة أو بالأحرى أن يمنح حق الإيقاف المؤقت لجهة أخرى غير النيابة العامة مؤسسة رئيس محكمة الاستئناف أو المجلس الجهوي، وذلك بناء على ملتمس من الوكيل العام للملك وبذلك يحقق الأهداف الاحترازية من الإيقاف المؤقت، ويتفادى كثرة الانتقادات الموجهة في هذا الإطار، وإن كان هذا الدور ليس حكرا على مهنة التوثيق بل إن النيابة العامة تمارسه في إطار بعض المهن القضائية الأخرى.
 ختام هذه القراءة المتواضعة لهذا القانون٬ على ضوء الدور المنوط بالنيابة العامة هذه الأخيرة التي يحددها المشرع في  الوكيل العام للملك أو من ينوب عنه وفي بعض المواد في الوكيل العام للملك٬ دون الإشارة إلى من ينوب عنه كأن الإجراء يقتصر على شخصه فقط٬ غير أن هذا الأمر لا يمكننا أن نستصيغه على اعتبار أن من شأن هذه القراءة، أن تأخر تفعيل الإجراءات نظرا للمسؤوليات الملقاة على عاتقه٬ ونظرا لكثرة التزاماته٬ مما سيكون معه ذلك عائقا في خدمة مؤسسة التوثيق أكثر من كونه تشريف لها، ومادام هذا القانون لا يزال في المراحل الأولى من تفعيله فإننا لن نمد أيدينا إلى المشرع لمطالبته بالتدخل لإعادة صياغة النصوص القانونية التي يبدو لنا أنها تثير بعض اللبس٬ ولكن بالمقابل سنمدها إلى الجهات المعنية بتطبيقها وأخص بالذكر مؤسسة النيابة العامة والمجالس الجهوية للموثقين٬
ومطالبتها بتوحيد الرؤى والاجتهاد في تطبيق النصوص القانونية، عبر البحث المشترك عن فلسفة المشرع وأهدافه الحقيقية والأخذ بعين الاعتبار أن الأمن التعاقدي، يعتبر رقم أساسي في معادلة السلم الاجتماعي، كما أن النجاعة في تطبيق النصوص القانونية لا تعود لجودة النصوص القانونية من حيث صياغتها٬ بل لجودة تطبيقها فالتطبيق السليم والمرن للنصوص القانونية هو الكفيل بسد النقائص والثغرات الموجودة بها.

بقلم:  يوسف أقصبي : باحث في العلوم القانونية
جريدة الصباح لثلاثاء, 09 يوليو 2013

دراسة في القانون : قراءة في قرار توظيف عاطلي 20 يوليوز

قضى قسم قضاء الإلغاء، بالمحكمة الإدارية بالرباط، في 23 ماي الماضي، في قضية  مدعية من موقعي «محضر 20 يوليوز» ضد الدولة المغربية في شخص رئيس الحكومة ومن معها، في الشكل بقبول الطلب، وفي الموضوع بالحكم على الدولة في شخص رئيس الحكومة باتخاذ إجراءات تسوية الوضعية الإدارية
 والمالية للمدعية، وذلك بإدماجها في سلك الوظيفة العمومية ، مع ما يترتب عن ذلك من آثار قانونية وفقا للمرسوم الوزاري 
رقم 2.11.100 الصادر بتاريخ 8-4- 2011 وتنفيذا لمحضر 20 يوليوز 2011،مع الصائر.

تتلخص وقائع النازلة في أن المدعية، كانت مرشحة للتوظيف المباشر بحسب ما تتوفر  عليه من  شهادات عليا المطلوبة في الأطر وذلك بناء على ما جاء في محضر 20 يوليوز 2011 المشهور بتوقيع ممثل عن الإدارة يجسد مظاهر السلطة العامة وأنجز المحضر المذكور في عهد الوزير الأول السابق عباس الفاسي، وبعد دستور 1/7/2011 ولما تم تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة السيد عبد الإله بنكيران رفضت هذه الحكومة تنفيذ المحضر المذكور، ورفعت إثر ذلك المدعية دعوى تطلب فيها تسوية وضعيتها الفردية المالية بإدماجها في سلك الوظيفة العمومية، وأجابت على ذلك الدولة بواسطة الوكيل القضائي للمملكة بأن الدعوى رفعت خارج الأجل، ولا يجوز للقضاء توجيه أوامر إلى الإدارة والمحضر المحتج به( 20 يوليوز) تشوبه عدة عيوب ولم يوقعه رئيس الحكومة فضلا عن تعارض طلب التوظيف المباشر مع مسطرة المباراة و المساواة وتكافؤ الفرص والاستحقاق المنصوص عليها في الفصل 22، وبعد الانتهاء من إجراءات المسطرة القضائية، ارتأت المحكمة الإدارية بالرباط أن تستجيب لطلب المدعية بموجب حكمها الصادر في 13 ماي 2013 وهو الحكم موضوع التعليق والذي حرر في حوالي 10 صفحات، مما يدل على الجهد الكبير الذي بذلته المحكمة في دراسة هذا الملف وبغية الإحاطة بجميع عناصر الموضوع الواقعية والقانونية وهو ما تطلب منها أجلا معقولا لم يتعد 5 أشهر لإصدار حكم من هذا الحجم والأهمية، وهو الحكم الذي لم يحرك مياها راكدة فحسب، بل أحدث نوعا من « تسونامي» التعليقات الصحفية  السياسية وكان موضوع برامج تلفزيونية، كما جاء الحكم على لسان أكثر من وزير وداخل وخارج البرلمان، واهتم بالحكم كذلك حتى المواطنون العاديون، ففي استطلاع للرأي أجرته إحدى الجرائد تبين أن 1562 من المواطنين المستجوبين عبروا عن رأيهم لصالح الحكم، وطالبوا الحكومة بتنفيذه فورا، بينما عبر حوالي 200 من المواطنين المستجوبين عن حق الدولة في استئناف الحكم وانتظار قرار محكمة  الاستئناف، في حين أن 16 مواطنا لم يكن لهم رأي في المسألة .
وبالتالي فالقضية ليست عادية لأن المدعية - ومن هو في وضعها - باحتجاجها على الحكومة» بمحضر 20 يوليوز» الشهير، كأنها تتمسك بالمبدأ المعروف في قانون الالتزامات والعقود «العقد شريعة المتعاقدين» (الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود)، وهو ما ردت عليه الحكومة الائتلافية برئاسة السيد عبد الإله بنكيران بما معناه أنه « إذا كان المبدأ الشرعي في مدونة علال الفاسي للأحوال الشخصية ينص على أن:(( الخطبة وعد بالزواج وليست بزواج، فإن» محضر 20 يوليوز « يظل وعدا بالتوظيف  وليس بتوظيف)) لأنه هناك مستجدات جديدة دستورية وأخرى سياسية طرأت منذ 1 يوليوز 2011تخول لها حق إعادة النظر فيما سبق أن التزمت به حكومة عباس شفويا أو كتابيا، إن كان هناك التزام حقا وفعلا، ولكن حكومة السيد بنكيران خلال مناقشات علنية بجلسة برلمانية، أقرت بأنه إذا صدر ضدها حكم حول هذه القضية ستنفذه بعد أن يصبح نهائيا بطبيعة الحال، فصدر حكم في 23/5/2013.

فـي قـيمـة الحـكــم:

هو حكم تضمن نمطين مختلفين من التعليل :1- تعليل عاد أو مألوف قضاء وفقها مستمد من القواعد المسطرية الشكلية والقواعد القانونية الموضوعية، وخاصة الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية ، 2- وتعليل غير عاد أو غير مألوف يرتكز على قواعد مستمدة من : الاتفاقيات الدولية ،ومبادئ حقوق الإنسان،  والدستور، ومبادئ الحكامة الجيدة...الخ.
والملاحظ أنه في تاريخ القضاء المغربي- وحتى في القضاء المقارن -  كلما شعر القاضي بأنه بين يديه ملف ملتهب كالجمر  أو غير عادي بحكم طبيعة الوقائع المعروضة عليه وأن القاعدة التشريعية لا تسعفه، كلما لجأ هذا القاضي إلى تعليل من النوع نفسه أو غير مألوف يستمد جذوره من: الشريعة الإسلامية، أو المعايير الدولية، أو الدستور، أو خطاب ملكي سامي لتبرير موقفه وحكمه في هذا الاتجاه أو ذاك  تحسبا منه وترقبا لسؤال ما قد يطرحه عليه في أي لحظة الفقه أو غير الفقه عقب إصداره لهذه النوعية من الأحكام التي تشغل بال الرأي العام والطبقة السياسية، وبالتالي فهو يفعل ذلك من أجل إقناع الأطراف المعنية أو المهتمة بعدالة أو سلامة حكمه من الناحيتين القانونية والقضائية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: في قضية  بنسودة والتي أثيرت فيها مسألة عدم قابلية الظهائر الملكية للطعن فيها إداريا (المجلس الأعلى  قرار رقم 93 باتاريخ 18/6/1960)، وكذالك  قضية منع الحزب الشيوعي المغربي بقرار لمحكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 10 فبراير 1960 بناء على خطاب ملكي لتعارض تأسيس هذا الحزب مع النظام العام المغربي، وكذا تصريح القضاء الاجتماعي ببطلان شرط العزوبة في قضية المضيفة الجوية بطيسطا هيليلنا لمخالفته للنظام العام و مبادئ الشرع الإسلامي، وإن كان لا الأجيرة ولا المشغل شركة الخطوط الجوية الملكية المغربية لا علاقة لهما بالدين الإسلامي والمستدل بفقهه في النازلة (المحكمة الابتدائية بالدر البيضاء، حكم اجتماعي عدد 155في 19/2/1979)، وهناك أيضا قضية الاعتداء المادي التي أسس لها لأول مرة القاضي الاستعجالي بالمحكمة الإدارية الدار البيضاء( محكمة السيال سابقا) سنة 1994 والتي اعتمد فيها هذا القاضي على خطاب ملكي مشهور ومرتبط بملف حقوق الإنسان بالمغرب آنذاك - (خطاب 8ماي 1990) نهى فيه الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله عن تجاوزات الإدارة لحقوق المواطن -  لكي يعلن هذا القاضي الإداري عن اختصاصه بالبت في الاعتداء المادي، وكذلك في قضية العربي السعدي ((حكم المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 13ماي 2005)) الذي طالب بتوظيفه في سلك الشرطة بناء على توصية من سمو الأمير وأمام تلكؤ الإدارة المعنية لجأ إلى القضاء الإداري (المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية عدد48و49،ص.139) ...، والأمثلة على ذالك كثيرة وطنيا ودوليا ، وفي السياق نفسه نلاحظ اهتمام بعض الفقه برصد المرجعية الإسلامية في أحكام القضاء الإداري.
بقلم:  إدريس فــجــر , قاض بمحكـمة النـقض دكتور في الحقوق
جريدة الصباح الجمعة, 12 يوليو 2013

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا