Tuesday, August 06, 2013

دراسة في القانون: انفصال النيابة العامة (3/3)

إذا كان لا بد من تعزيز النظام القضائي المغربي بمؤسسة جديدة هي مؤسسة «النائب العام»، يبقى مع ذلك التساؤل قائما حول كيفية اختيار النائب العام المغربي، هل نعتمد في اختياره أسلوب التعيين أم نسلك في ذلك أسلوب الانتخاب؟
كيفية اختيار النائب العام
الحقيقة أننا لا نهتم لأسلوب اختيار النائب العام بقدر ما نهتم للمنظومة التي ستؤطر عمله. فسواء تم تعيينه أو انتخابه، مع ما للأسلوبين من أهمية بالغة، في تحديد درجة استقلاله في القيام بالمهام المسندة إليه، فإننا نرى أن من الضروري وضع مجموعة من الآليات التي تحصن النائب العام، وتحمي مؤسسة النيابة العامة في الوقت نفسه. ومن بين هذه الآليات يمكن أن نذكر:
1 - مدة تولي المهام
مما لا شك فيه أننا نعيش في عالم خاصيته الأساسية التحول والتغير السريعان، مما لم يعد يستقيم مع بقاء الأشخاص لمدد طويلة في مناصب المسؤولية. فهذا المدعي العام الأعلى الكوري الجنوبي ينتخب لمدة عامين اثنين دون أي إمكانية لتجديد انتخابه يتفرغ بعدها للتدريس أو لمزاولة العمل السياسي. وتقدم هذه الطريقة في التعيين ميزة استمرارية مد جهاز النيابة العامة بدماء جديدة وتحصينه من التحكم والمحاباة. غير أن مدة السنتين تبقى مدة قصيرة كما يرى البعض، وربما كان من الأجدى رفعها إلى ثلاث سنوات.
2 - مدى اتساع صلاحيات النائب العام وسلطاته
وهذه مسألة تحدثنا عنها أعلاه.
3 - نوعية وسائل العمل
هل يمكن للنيابة العامة أن تقوم بواجبها في حماية المجتمع والمواطن في غياب ما يلزم من الإمكانيات البشرية الكفؤة والوسائل المادية الكافية؟ الجواب لا يمكن بطبيعة الحال أن يكون إلا بالنفي.  فالنائب العام في حاجة إلى طاقم فني رفيع المستوى يساعده في تصريف شؤون النيابة العامة الداخلية والخارجية، كما يحتاج إلى إمكانيات مادية تسمح له بهامش واسع من الاستقلال في تدبير القضايا دون حاجة إلى المرور بالضرورة عبر مصالح الضابطة القضائية التي تتبع كما نعرف جميعا، على الأقل على المستوى الإداري، لجهات غير قضائية.
بالرجوع إلى التجربة الكورية، سوف نلاحظ أن المدعي العام الأعلى يتوفر في وسط العاصمة سيول على بناية خاصة من سبعة عشر طابقا تحتضن، إلى جانب مكاتب المدعي العام، مختبرات الشرطة العلمية بجميع تخصصاتها يشرف عليها نواب المدعي العام مباشرة، كما تحتضن مكاتب مفتشي النيابة العامة، وهم أعوان يتبعون للنيابة العامة يساعدونها في إجراء التفتيشات والحجوز، وغيرها من الإجراءات المفيدة للأبحاث المفتوحة.
ومن قوة النيابة العامة بدولة كوريا الجنوبية التي تستمدها أساسا من استقلالها ومن ثقة المواطن فيها، أن خرجت علينا وسائل الإعلام الدولية في الآونة الأخيرة بخبر إجرائها، معززة بمفتشيها، لتفتيش بمكاتب الاستعلامات العامة التابعة لوزارة الداخلية على خلفية الأبحاث المفتوحة في تورط هذه المؤسسة في التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة لفائدة أحد المرشحين.
4 - الاستقلال المالي
هل يمكن تصور استقلال مؤسسة ما في غياب استقلالها المالي؟ سؤال لعمري صعب الجواب. فالمؤسسة التي لا تتمتع باستقلال مالي لا تكون مستقلة، من حيث المبدأ، لا في اتخاذ قراراتها ولا في تنفيذ برامجها. والمسألة تأخذ بعدا أكبر في بلادنا التي تواجه صعوبات كبيرة بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعيشها العالم في الآونة الأخيرة، إذ بات من الضروري، وأكثر من أي وقت مضى، ترشيد الإنفاق العمومي.
إن الفكرة هنا هي أنه قد يكون من الأجدى تمكين رئيس النيابة العامة من سلطة رصد حجم الموارد المالية التي سيحتاجها برسم كل سنة لتمويل البرامج وتحقيق الأهداف التي يرسمها لجهاز النيابة العامة تنفيذا للسياسة الجنائية العامة.
5 - المساءلة
لأن المسؤولية هي مرادف الاستقلال، فإنه سيتعين أن يكون النائب العام  مسؤولا عن اختياراته، وعن قراراته، ومدى توفيقه في تنفيذ سياسته في إدارة جهاز النيابة العامة من جهة، وفي توظيف الإمكانيات المالية وغيرها التي رصدت لجهازه في تنفيذ البرنامج الذي خطه لمؤسسته من جهة ثانية. وبعبارة أخرى سيكون على النائب العام إقناع الجهة التي سيكون مسؤولا أمامها بجدوى ومقومات السياسة التي يعتزم تنفيذها في بداية كل سنة من ناحية، وبالحاجة إلى تمكينه من الإمكانيات المادية الضرورية التي يحددها لتنفيذ برامجه من ناحية أخرى، على أن يساءل من جديد عند نهاية السنة لتحديد مدى توفيقه في انجاز الوعود التي قطعها على نفسه، وفي صرف الاعتمادات التي خصصت له. ومن شأن هذه الطريقة في تدبير أسلوب اشتغال جهاز النيابة العامة أن تفيد في تحقيق الأهداف التالية:
- فهي بداية ستساعد في خلق أعضاء النيابة العامة الرواد الذين يتوفرون على تصور حقيقي لما ينبغي أن يكون عليه دور النيابة العامة داخل المجتمع من جهة، وعلى قدرة حقيقية على الإقناع بجدوى ذلك التصور من جهة ثانية، كما يتوفرون على تصور حقيقي لما ينبغي فعله  لترجمة ذلك التصور إلى حقيقة يعيشها المواطن على أرض الواقع من جهة ثالثة.
- وهي إلى جانب ذلك تساعد في ترشيد الإنفاق العمومي على مستوى قطاع العدل. فإذا كانت الإدارات جميعها ملزمة بإتباع أسلوب التدبير بواسطة الأهداف الذي دعا إليه الوزير الأول بواسطة المنشور عدد 2001/12 الصادر بتاريخ 25 دجنبر 2001. وهو أسلوب يقوم على فكرة التعاقد بين الجهة الممولة والجهة المنفذة تتوفر بموجبه الجهة المنفذة على هامش واسع من الحرية في تحديد احتياجاتها وفي تنفيذ برامجها، وتحتفظ في إطاره الجهة الممولة بسلطة مراقبة حسن تنفيذ الجهة المنفذة لالتزاماتها، وبسلطة التدخل لتصحيح الاختلالات فور وقوعها، فإن النيابة العامة تكون ملزمة هي الأخرى بإتباع الأسلوب نفسه، أسوة بما يجري به العمل لدى نظيراتها عبر العالم، ومنها النيابة العامة الفرنسية التي يلزمها القانون التنظيمي حول قانون المالية المعروف ب" LOLF" بسلوك الأسلوب نفسه في ترشيد نفقاتها.
- وهي فوق هذا وذاك، سترفع النيابة العامة المغربية إلى مصاف النيابات العامة الدولية.
يبقى مع ذلك التساؤل مطروحا حول الجهة التي سيكون النائب العام المنتظر مسؤولا أمامها.
القاعدة أن المؤسسات وطنية كانت أو دولية تكون مسؤولة أمام الجهات الممولة. وبالرجوع إلى التجارب الدولية في الموضوع سنجد أن النائب العام البريطاني مسؤول أمام البرلمان. وهو نظام لا تنفرد به بريطانيا وإنما تأخذ به أنظمة قضائية عديدة عبر العالم ذات الأصول الأنجلسكسونية منها على وجه الخصوص. يبقى لنا نحن كذلك أن نحدد الإطار الذي سينظم مسؤولية النائب العام المرتقب وفق النموذج الذي سيجسد فكرة «الاستقلال مرادف المسؤولية».

بقلم: رشيد صادوق, دكتور في الحقوق
جريدة الصباح الجمعة, 26 يوليو 2013

Sunday, August 04, 2013

دراسة في القانون: انفصال النيابة العامة (2/3)

كما أشرنا إلى أن وضع الآليات الكفيلة لحماية استقلال النيابة العامة، تتمثل كما يطالب بذلك الكثيرون في استقلال النيابة العامة العضوي عن وزارة العدل أو ما نسميه بانفصال النيابة العامة، يبقى السؤال ما هي تبعات القول بانفصال النيابة العامة عن وزارة العدل؟ إستراتيجية انفصال النيابة العامة 
عن وزارة العدل
إلى جانب أن الاستقلال بصفة عامة هو مسألة نفسية، فإنه يبقى في كثير من الأحيان قاصرا عن تحقيق الغاية المرجوة منه والمتمثلة في نقل السلطات المتنازع بشأنها من الجهة المستقل عنها إلى الجهة المستقلة. فالتاريخ يقدم الدليل على أن الكثير من الدول ممن أعلن عن استقلالها ليست كذلك، وأن الدول المستعمرة بقيت واضعة يدها على سياسات تلك الدول وعلى مقدراتها الاقتصادية. وفي المقابل يقدم مفهوم الانفصال ميزة انتقال جميع السلطات التي تتمتع بها الجهة المنفصل عنها إلى الجهة المنفصلة. وفي مجالنا هذا فإن النتيجة الطبيعية لانفصال النيابة العامة عن وزارة العدل أو عن استقلالها ينبغي أن تكون هي انتقال جميع الصلاحيات، وما أكثرها، التي كان وزير العدل يتمتع بها إلى الجهة التي ستخلفه في رئاسة النيابة العامة، وذلك إن لم نقل بتوسيع هذه الصلاحيات تماشيا مع التوجه الدولي الحالي الرامي إلى تعزيز سلطات النيابة العامة لمواجهة الجرائم الخطيرة التي تهدد أمن واستقرار المجتمعات الإنسانية مثل جرائم الإرهاب والفساد والتهريب بجميع أشكاله. 
إن الخطر كل الخطر يكمن في عدم نقل سلطات وزير العدل في مجال الرقابة على المال العام وغيره من المجالات الحيوية الأخرى إلى رئيس النيابة العامة المنتظر، ذلك أن من شأن إضعاف رئاسة النيابة العامة إضعاف للمؤسسة كلها، وتقزيم لدورها، وتقويض لضمانة من أهم الضمانات التي تقوم عليها  الديمقراطية في بلادنا فكرا وممارسة. تكفي الإشارة هنا إلى ما تلعبه النيابة العامة من دور أساسي في محاربة جميع أشكال التعسف في استعمال السلطة سياسية كانت بين أيدي أعضاء الحكومة والبرلمان وغيرهما من مؤسسات الدولة، أو اقتصادية بين أيدي رجال المال والأعمال. فما هي عناصر هذه الإستراتيجية التي من شأنها أن تيسر الانتقال السلس لسلطات وزير العدل إلى رئيس النيابة العامة؟ 
عناصر إستراتيجية انفصال النيابة العامة
يمكن تلمس عناصر الجواب على هذا التساؤل على أكثر من مستوى، فعلى مستوى التسلسل الهرمي، سوف يتعين تحديد الجهة التي ستنتقل إليها صلاحيات وزير العدل الإدارية منها والقضائية، ثم تحديد علاقة هذه الجهة مع باقي الجهات المتدخلة في الشأن القضائي. 
لعل أهم حسنة قد يأتي بها انفصال النيابة العامة زوال حالة التشرذم التي تعيش عليها هذه المؤسسة. فواقع الحال أبان على أن التوزيع الجامد، وفي أحسن الأحوال، المبهم للسلطات والاختصاصات بين ممثلي النيابة العامة  بالمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف ومحكمة النقض مع ما يترتب على كل ذلك أحيانا من تشنج في العلاقات بين هؤلاء جميعا، إنما يؤدي إلى إضعاف سلطة النيابة العامة ويحد من فعالية تدخلها. ولعل في توحيد النيابة العامة تحت سلطة واحدة تقوية لعملها وتدعيم لسلطتها.
لأنه لا يكفي في القاضي سواء كان منتسبا للقضاء الجالس أو للقضاء الواقف أن يكون مستقلا على ما استقرت عليه المعايير الدولية، وإنما ينبغي له أن يظهر كذلك بمظهر المستقل، وما دام أن واقع الحال في المحاكم يثبت أن النيابة العامة تعيش عادة، فيما يرجع لتسيير شؤون المحكمة، في ظل الرئاسة، فإن نجاح استقلال النيابة العامة يتوقف من ضمن ما يتوقف عليه، على تأمين بنايات لأعضاء النيابة العامة تكون مستقلة عن البنايات التي تؤوي رئاسة المحكمة. وهذا ينطبق بطبيعة الحال على الجهة التي ستسند إليها رئاسة النيابة العامة، إذ ينبغي هنا كذلك توفير بناية خاصة تليق بهذه الجهة وتكفي لإيواء طاقمها وتلبية احتياجات الأجهزة التي ستعتمد عليها في تدبير شؤون النيابة العامة. فمن عساها تكون هذه الجهة؟
إذا ما تركنا جانبا مسألة التسمية، وإن كنا نحبذ تسمية "النائب العام" تمييزا لها عن الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف أو بمحكمة النقض من جهة، وباعتبارها مشتقة من التسمية الأصل وهي "النيابة العامة" من جهة أخرى، فإن في نقل صلاحيات وزير العدل إلى الوكيل العام للملك بمحكمة النقض، كما يشيعه البعض، بعض الحرج الناتج أساسا عن الاعتبارات التالية:
تعتبر النيابة العامة بمحكمة النقض استثناء من الأصل في النيابة العامة والمتمثل في تحريك الدعوى العمومية ومباشرتها. هذا الاستثناء نابع أساسا من طبيعة الفضاء الذي تشتغل فيه. فمحكمة النقض هي محكمة قانون، ولذلك سمي أعضاء النيابة العامة بها محامين عامين يحضرون مداولات المحكمة، ويشاركون فيها تمييزا لهم عن نواب وكلاء الملك بالمحاكم الابتدائية، وعن نواب الوكلاء العامين للملك بمحاكم الاستئناف الذين يتمتعون بالصفة الضبطية، ولا يشاركون في مداولات محاكمهم. ويترتب عن هذا الاختلاف في الوظائف أنه على خلاف نواب وكلاء الملك ونواب الوكلاء العامين للملك، فإن المحامين العامين بمحكمة النقض لا يتلقون تعليمات من الوكيل العام للملك في القضايا التي يشاركون فيها. فهم أحرار في تقديم المستنتجات الكتابية التي يرونها صالحة للعدالة. صحيح أن الوكيل العام للملك هو ممثل النيابة العامة لدى محكمة النقض، غير أنه لا يمكنه، في ظل سكوت المشرع المغربي عن المقصود بالسلطة التي يعترف له بها على المحامين العامين، أن يرغمهم على تقديم مستنتجات لا يشاطرونه الرأي بخصوصها، فغاية ما يستطيع فعله هو تحويل ملف القضية إلى محام عام آخر أو مخاطبة المحكمة مباشرة باعتباره الممثل الأصلي للنيابة العامة. ذلك على الأقل ما نص عليه قانون التنظيم القضائي الفرنسي.    
ومن ناحية أخرى، فخصوصية النيابة العامة بمحكمة النقض تحول دون نقل صلاحيات وزير العدل_ ومنها صلاحية توجيه تعليمات بالمتابعة أو بنقل رأي الوزير إلى المحكمة، إلى الوكلاء العامين للملك بمحاكم الاستئناف_ إلى الوكيل العام للملك بمحكمة النقض، والذي قد يتحول، فيما لو تم ذلك، إلى خصم وحكم في الوقت ذاته. يتابع أو يأمر بالمتابعة، ويشارك في إصدار الأحكام. كما أن نقل سلطة رئاسة النيابة العامة من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بمعزل عن الصلاحيات المرتبطة بها هو بمثابة إجهاز على جهاز النيابة العامة. الحاصل إذن أنه ينبغي استحداث منصب جديد في السلك القضائي المغربي هو منصب "النائب العام" تسند له رئاسة جهاز النيابة العامة في سائر البلاد، وتنقل إليه جميع صلاحيات وزير العدل فيما تعلق منها بتنفيذ السياسة الجنائية وبالرقابة والإشراف على عمل النيابة العامة. ولعل في تجربة دولة كوريا الجنوبية التي باتت تعرف بالمعجزة الكورية بحكم النجاح السريع والباهر الذي حققته على الصعيدين الاقتصادي والديمقراطي أسوة حسنة.  

بقلم: رشيد صادوق, دكتور في الحقوق
جريدة الصباح الأربعاء, 24 يوليو 2013

دراسة في القانون: في أفق وضع قانون مغربي خاص بالاتجار في البشر (1/3)


لقد أصبح الاتجار في البشر من أعقد وأكثر جرائم العصر الحديث  مساسا وتعديا على الكرامة الإنسانية ، وهو ما يعكسه بجلاء التقرير الدولي الأول حول الاتجار في البشر الذي أصدره مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة UNODOCفي العالم لسنة 2006، والذي توصل إلى نتيجة مفادها أنه  «لا يوجد تقريبا
 بلد محصن ضد هذه الظاهرة ، وأن هناك 127 بلدا تعتبر مصدرا لضحايا الاتجار بالبشر مقابل 137 بلدا كوجهة لهم». تبدل الحكومات ومنظمات المجتمع المدني جهودا حثيثة لمعالجة هذه الظاهرة، وذلك بهدف منع ومكافحة الاتجار بالأشخاص، وإيلائهم العناية الخاصة، وتقديم الرعاية المناسبة لهم واحترام كامل حقوقهم الإنسانية المتأصلة والمتجذرة ليس  فقط في  المواثيق والاتفاقيات الدولية، ولكن أيضا في الشرائع السماوية، سيما الإسلام من خلال مصدرين أساسيين هما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وتعتبر جريمة الاتجار في البشر بمفهومها القانوني الحديث وبصورها المتعددة جريمة حديثة في معظم الدول فقيرها وغنيها، وأن العديد من الجناة أفلتوا من العقاب لغياب الأساس القانوني أو على الأقل لعدم تغطيته سائر صور الاتجار في البشر، والتي عرفت في السنين الأخيرة تطورا مضطردا كان من نتائجه  ظهور أفعال جرمية عبر وطنية من قبيل الاتجار في الأعضاء البشرية، الهجرة غير الشرعية، السياحة الجنسية....
وسنحاول مقاربة هذه الظاهرة الحاضرة واقعا في المجتمع المغربي من خلال التعريف بها وبيان بعض صورها، ومعرفة موقف الشريعة الإسلامية منها، وكيف يتعامل المشرع المغربي مع الظاهرة؟ سيما في غياب نص خاص يزجر الاتجار في البشر على غرار بعض الأنظمة القانونية العربية المقارنة مثل مصر ولبنان والجزائر والإمارات العربية المتحدة والبحرين والعربية السعودية....، علما أن عددا لا يستهان به من ممثلي الأمة بالبرلمان المغربي، عبروا عن رغبتهم في سن قانون خاص يرمي إلى زجر ومعاقبة ظاهرة الاتجار في البشر.
تعريف الاتجار في البشر وأهم صوره في الواقع العملي
لما كان التعريف بالشيء فرع من تصوره، فإن بعض التشريعات العربية  حاولت تعريف الظاهرة باعتبارها جريمة في حق الإنسانية .
وفي هذا الإطار عرف المشرع المصري الاتجار بالأشخاص أو البشر من خلال المادة 2 من القانون رقم 64 لسنة 2010 بالقول :» يعد مرتكبا لجريمة الاتجار في البشر كل من يتعامل بأية صورة في شخص طبيعي بما في ذلك البيع أو العرض للبيع أو الشراء أو الوعد بهما أو الاستخدام أو النقل أو التسليم أو الإيواء أو الاستقبال أو التسلم سواء داخل البلاد أو عبر حدودها الوطنية – إذا تم ذلك باستعمال القوة أو العنف أو التهديد بهما، أو بواسطة الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع، أو استغلال السلطة أو استغلال حالة الضعف أو الحاجة، أو الوعد بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا مقابل الحصول على موافقة شخص على الاتجار بشخص له سيطرة عليه – وذلك كله – إذا كان التعامل بقصد الاستغلال أيا كانت صوره بما في ذلك الاستغلال في أعمال الدعارة وسائر أشكال الاستغلال الجنسي، واستغلال الأطفال في ذلك وفي المواد الإباحية أو السخرة أو الخدمة قسرا، أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد، أو التسول ،أو استئصال الأعضاء أو الأنسجة البشرية، أو جزء منها.
و من جانبه عرف المشرع الجزائري الاتجار في البشر من خلال المادة 303 مكرر4 من القانون الجنائي الجزائري بالقول: «يعد اتجارا بالأشخاص، تجنيد أو نقل أو تنقيل أو إيواء أو استقبال شخص أو أكثر بواسطة التهديد بالقوة أو باستعمالها أو غير ذلك من أشكال الإكراه، أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو إساءة استعمال السلطة أو استغلال حالة استضعاف أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سلطة على شخص آخر بقصد الاستغلال.
ويشمل الاستغلال استغلال دعارة الغير أو سائر إشكال الاستغلال الجنسي أو استغلال الغير في التسول أو السخرة أو الخدمة كرها أو استرقاقا أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو نزع الأعضاء .
وقد حذا المشرع الجزائري حذو نظيره المصري عندما لم يأخذ برضى الضحية في جرائم الاتجار بالبشر، وهو ما نصت عليه المادة 33 مكرر 12 من القانون الجنائي الجزائري التي تقابلها المادة2 من القانون المصري.
والملاحظ أن المشرع المصري لئن أفرد لجرائم الاتجار بالبشر قانونا مستقلا هو القانون 64 لسنة 2010  الذي يتضمن 27 مادة، فإن نظيره الجزائري قد عمد إلى إدخال فقرات  في شكل مواد مكررة  للمادة 303 بلغت حوالي 37  مادة تنظم الظاهرة في صلب القانون الجنائي الجزائري وتحديدا في الكتاب الثالث الخاص بالجنايات والجنح وعقوباتها.
ومعلوم أن ظاهرة الاتجار في البشر والتي تستهدف النساء والأطفال بالأساس، سبق أن كانت موضوع اهتمام مجموعة من الفاعلين السياسيين ومنظمات المجتمع المدني وطنيا ودوليا .....، بحيث عقدت عدة ورشات وأيام دراسية في هذا المجال منها على سبيل المثال لا الحصر ورشة عمل تدريبية حول التحقيق في قضايا المهاجرين وملاحقتهم قضائيا بمدينة الرباط منتصف أكتوبر 2011، منظمة من قبل مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة   بشراكة مع المعهد العالي للقضاء، وورشة عمل تدريبية إقليمية للبرلمانيين وصائغي التشريعات في مجال مكافحة جرائم الاتجار في البشر  المنظمة من قبل  نفس الجهة، والتي احتضنتها القاهرة في أكتوبر من سنة 2011 وهما الورشتان التي تشرفنا بالمشاركة في أشغالهما .
 وقد توج اهتمام مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة  بهذه الظاهرة بإصدار مجموعة من التوصيات لمحاربة الظاهرة،وبإصدار كتيب إرشادي للبرلمانيين ،وهو مجهود مشترك بين المكتب المذكور والاتحاد البرلماني الدولي أنتج في إطار مبادرة الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الاتجار في البشر، هذا فضلا عن إصدار قانون نموذجي لمكافحة الاتجار بالأشخاص يمكن الاهتداء به في وضع قوانين خاصة في هذا المجال.

بقلم:    يونس العياشي, قاض ملحق بوزارة العدل والحريات - دكتور في الحقوق
جريدة الصباح الخميس, 01 أغسطس 2013

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا