نظرية الدولة واساس نشأة السلطة السياسية فيها
نظرية الدولة عند ابن خلدون
يعتبر عبد الرحمن بن خلدون من الشخصيات الإسلامية الفذة في العصور الوسيطة ، وهو مغاربي الميلاد والنشأة والثقافة ، فقد ولد في تونس سنة 732هـ (1332م)، وأقام في الجزائر و المغرب حتى عام 784هـ ، حيث انتقل إلى مصر ، ومكث بها ما يناهز ربع قرن( 784 - 808هـ) حيث توفي ودفن في مقابرها سنة 1406م.
لقد كانت شخصية ابن خلدون ولا تزال جذابة من كل جوانبها ، ولكن جانبيْن إثنيْن منها قد جذبا أنظار القدامى والمحدثين من الباحثين ، وهما الجانب الفكري والثقافي ، والجانب السياسي. وتتميز نظرياته بأنَّها على الغالب صالحة لكل زمان ومكان لأنَّها مستقاة من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، فهذا المؤرخ العلامة حفظ أول ما حفظ القرآن الكريم ،ثُمَّ الحديث النبوي الشريف ، ودرس التفسير والفقه ، واللغة العربية والأدب، ثُمَّ غاص في أعماق معاني القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة ، واستقى منهما نظرياته في العمران ، والدولة والإقتصاد ، والتاريخ ، والتربية ، وعلم الإجتماع.
وعندما أقدم للقاريء الكريم فكر عبد الرحمن بن خلدون السياسي والاإقتصادي والإجتماعي إنَّما أقدمه ليدرك أنَّ العقلية العربية والإسلامية قادرة على الفكر والإستنباط والتحليل، واستحداث نظريات علمية، أي أنَّنا أمة قادرة على التنظير ، وأنَّ مفتاح عقولنا، ومرشدها القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية الشريفة وهما السلاح الذي يجب أن نتسلح به لصالح دنيانا ومعاشنا وآخرتنا.
كما نجد في نظريات ابن خلدون السياسية والإقتصادية والإجتماعية، طريقاً نستدل بها على الطرق المثلى للإصلاح السياسي والإقتصادي والإجتماعي الذي تسعى إليه حكوماتنا وشعوبنا.
يرصد لنا ابن خلدون خبراته وإمكاناته العلمية والعملية كافة ليقدم لنا دراسة جديدة عملية تنطبق فيها فكرة التاريخ الجديد على المجتمعات البشرية ، وفي هذه الدراسة تنطبق على الدولة ، فالشريحة أو النموذج الذي طبَّق عليه ابن خلدون قوانينه العامة وآراءه العامة كانت على الدولة الإسلامية ،هذا التطبيق لم يخل من تجربة ابن خلدون العملية للحياة العملية من تدرجه في المناصب السياسية ، كل هذا أثَّر بشكل مباشر وغير مباشر على أفكاره السياسية ، وعلى إعماله لهذه الأفكار تطبيقاً على الدولة الإسلامية بوحداتها السياسية المختلفة ومستوياتها الثقافية المتنوعة .
وابن خلدون يمثل نقطة تحول في كتابة التاريخ الإنساني ، وفي تأسيسه لعلم الإجتماع ، ومن الظلم أن نقارنه بمفكري أوربا في عصر النهضة كدانتي مثلاً ، فإن كان دانتي قد هزَّ الفكر الإنساني في أوربا ، فإنَّ ابن خلدون قد هزَّ الفكر الإنساني العالمي ،لأنَّ ابن خلدون وضع خطة جديدة وآراء جديدة ،بل وضع قوانين جديدة يمكن تطبيقها ، وتنسحب على كل المجتمعات البشرية ، إنطلاقاً من أنَّ الإنسان لا يعيش إلاَّ في مجتمع ،وإذا عاش في مجتمع، فلابد أن يعيش مع شعب ،وإذا عاش مع شعب لابد أن يعيش على أرض ، ولكي تظل العلاقة قائمة بين هؤلاء الناس أو القبائل أو الشعب، أو هذه المجموعة البشرية لابد من أن ينظمها حاكم ،وأنواع الحاكم تدرجت من حاكم بسيط «شيخ قبيلة» إلى حاكم مطلق ،إستطاع أن يستخدم كل الوسائل التي هيأها له هذا التجمع البشري ،أو هذا العمران ، واستطاع أن يستغل هذا ويصبح هو الحاكم المطلق ، وإذا أصبح حاكماً مطلقاً استطاع أن يؤسس دولة ، فإذا أسَّس الدولة التي طبَّق عليها ابن خلدون نظريته ، مرَّت الدولة بمراحل مختلفة ، هذه المراحل وجدت صحة في التطبيق عندما ننظر إلى أية دولة الآن نجد أنَّها تمر بنفس المراحل التي وضعها ابن خلدون في مقدمته.
ويقول ابن خلدون إنَّ هناك للدولة خمسة أطوار ، وأربعة أجيال أسرية : فالأطوار (مرحلة البداية والتأسيس ، توطيد الحاكم نفوذه إلى أن يصبح حاكماً مطلقاً ، يبعد نفسه عن عصبيته ، يعتمد على المرتزقة في الدفاع عن الدولة ، المرتزقة تقضي على الملك .
تعريف ابن خلدون للدولة.
يُعرِّف ابن خلدون الدولة بأنَّها « كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية ، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية ، وهي أيضاً وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلاَّ بها.
قانون السببية عند ابن خلدون :
مفاده أنَّ الوقائع الإجتماعية والأحداث التاريخية خاضعة للحتمية، وليست بفعل المصادفة لارتباط الأسباب بالمسببات،والسبب عند ابن خلدون النظر في الأسباب ، كما استخدمها القرآن الكريم للوصول إلى الحكم دون البحث في ماهية الشيء أو وجوده ، كما يفعل الفلاسفة الذين يبحثون في ماهية الله ،وهذا منهي عنه في الإسلام.
قانون التشابه عند ابن خلدون :
هو التشابه بين الماضي والحاضر ، وأنَّ المجتمعات البشرية تتشابه من بعض الوجوه، ويرجع هذا التشابه إلى :
1 -الوحدة العقلية للجنس البشري .
2-ميل الإنسان إلى التقليد، ويتجلى هذا التقليد في:
أ- تقليد الناس لأصحاب السلطة .
ب - تقليد أصحاب السلطة لأصحاب السلطة السابقة.
ج - أنَّ المغلوبين أصحاب الدولة التي زالت وانتهت يقلِّدون أصحاب الدولة الجديدة.
والتقليد عند ابن خلدون قانون عام يدفع بحركة التطور إلى الأمام ،لأنَّ التقليد يكون للأفضل.
قانون التباين عند ابن خلدون .
يرى ابن خلدون أنَّ المجتمعات ليست متماثلة بصفة مطلقة ، بل توجد بينها فروق يجب أن يلاحظها المؤرخ ، ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المؤرخين عدم إدراكهم لهذه الفروق.
ضرورة الدولة:
يرى ابن خلدون أنَّ حاجة الإنسان للغذاء والكساء والمأوى والدفاع عن النفس هي التي تدفعه إلى الإنتظام في مجتمع إنساني، فالإنسان لا يستطيع أن يسد حاجته للغذاء بمفرده،لأنَّ ذلك يتطلب أعمالاً كثيرة لا يستطيع أن يقوم بها بمفرده ،فلابد من تعاونه مع رفاقه.
والإنسان معرض للخطر ليس من جانب الحيوانات المفترسة فحسب ،بل من جانب أخيه الإنسان ،لذا لابد من وجود سلطة تحول دون اعتداء الناس بعضهم على البعض الآخر،وهذا ما أسماه ابن خلدون بـ «الوازع»، أو «وازع حاكم ،وعبَّر عنها المستشرق «أرين روزنتال2» بـ «السلطة الرادعة» ، ولها القوة الرادعة في منع الناس من قتل أو إيذاء بعضهم البعض ،حيث إنَّ العداوة والعنف سائدتان في طبيعتهم الحيوانية ،وهذه السلطة تكون في يد الملك أو السلطان.
أسس الدولة عند ابن خلدون:
ويرى ابن خلدون أنَّ الدولة لا تقوم إلاَّ على أساسيْن :
أولهما : الشوكة والعصبية المعبر عنهما بالجند.
وثانيهما : المال الذي هو قوام أولئك الجند ، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال.
فالدولة في أولها تكون بدوية ،حيث يكون الإنفاق معقولاً ،ولذا يكون هناك إمعان في الجباية والإسراف ، وإذا عظم المال انتشر الترف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة ، فإنَّ نفقات السلطان وأصحاب الدولة تتضاعف ، وينتشر الإسراف بين الرعايا ، وتمتد أيديهم إلى أموال الدولة من جهة ، ومن جهة أخرى يبدأ الجند في التجاسر على السلطة ، فيضطر السلطان إلى مضاعفة الضرائب ، فيختل اقتصاد البلاد ، ولكن الجباية مقدارها محدود، كما لا يستطيع رفع الضرائب إلى ما لا نهاية ،ولذا يضطر إلى الإستغناء عن عدد من الجند حتى يوفر مرتباتهم ،فتضعف حمايته، وتتجاسر عليه الدول المجاورة أو القبائل التي ما تزال محتفظة بعصبيتها.
مفهوم العصبية عند ابن خلدون:
إنَّ العصبية عند ابن خلدون لا تشمل أبناء الأسرة الواحدة الذين تربطهم بعضهم بالبعض الآخر صلة الرحم فحسب ، بل هي تتسع لتشمل أهل الولاء والحلف ، وفي مواقع أخرى نجد ابن خلدون يضم الرق والمرتزقة، وهم من يُطلق عليهم اسم «المصطنعين إلى العصبية،أمَّا النسب فيعتبره أمراً وهمياً فائدته هو الترابط الذي يوجده ، وبهذا يكون معنى العصبية عند ابن خلدون مرادفا لمفهوم العصبية ، وبهذا لم يخرج عن المفهوم الإسلامي الذي نبذ العصبية القبلية .
أنظمة الحكم عند ابن خلدون:
لقد حدَّد ابن خلدون أنظمة الحكم بثلاثة هي :
1-حكم يستند إلى شرع الله «الخلافة.
-2 سياسة عقلية ، وهي تضطلع بمصالح الدنيا فقط ،واستشهد بحكومة الفرس.
3-سياسة مدنية، وهي مثالية مفترضة مثل المدن الفاضلة عند الفلاسفة ، وهي بعيدة الوقوع.
ويقرر ابن خلدون في صراحة كاملة أنَّ الحكومة التي يجب أن تسوس شؤون مجتمع العمران ،هي الحكومة الإسلامية لما فيها من حفاظ على مصالح الناس في دنياهم وسلامة مصيرهم في آخرتهم ، فيقول : «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي على مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ ترجع أحوال الدنيا كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ،فهي في الحقيقة خلافة عند صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به .
ويبين ابن خلدون أنَّ وظيفة الخلافة دينية اجتماعية سياسية ، وذمَّ الملك القائم على العصبية ،لأنَّه يؤدي إلى القهر ، ورفض المُلك القائم على السياسة وحدها لأنَّه مجرد من الصبغة الدينية التي نظَّمتها شريعة السماء في حراسة نور الله ، ويستشهد ابن خلدون بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ،فيذكر قوله تعالى : (ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «إنَّما هي أعمالكم تُرد إليكم».
وبيَّن ابن خلدون سبب تسمية الخليفة بذلك بأنَّه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ الإنسان خليفة الله في الأرض لقوله تعالى : (إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ، فالله جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمورعباده ليحملهم على مصالحهم ،ويردهم عن مضارهم.
وبذلك يتفق مع الإمام الماوردي في توصيف الخلافة بأنَّها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.
نظرية الدولة عند ابن خلدون:
لقد نظر ابن خلدون للدولة على أنَّها كائن حي يولد وينمو ، ثُمَّ يهرم ليفنى.فللدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تماماً ،وقد حدَّد ابن خلدون عمر الدولة بمائة وعشرين عاماً ،لأنَّه يرى أنَّ العمر الطبيعي للأشخاص كما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرين عاماً ، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر إلاّ إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب مستشهداً بقوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ) ، وذكر أنَّها تتكون من ثلاثة أجيال كل جيل عمره أربعون سنة ، وذلك لأنَّه اعتبر متوسط عمر الشخص أربعين سنة ، حيث يبلغ النضج إلى غايته مستشهداً بقوله تعالى : (حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
ولهذا بيَّن أنَّ متوسط عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل ، ويؤيد ذلك في حكمة التيه الذي وقع لبني إسرائيل في أربعين سنة ، والمقصود بالأربعين سنة فيه فناء الجيل لإحياء ونشأة جيل آخر لم يعهد الذل ولا عرفه.
وقد ضرب ابن خلدون أمثلة لأعمار الدولة على بعض الدول مثل : المرابطين والموحدين والمرينيين في المغرب ، وملوك الطوائف في الأندلس ،والحمدانيين في حلب .
أجيال الدولة:
الجيل الأول : يعيش في الريف والبوادي حياة بدوية خشنة بعيدة عن الترف ، وتتميز بقوة العصبية والبسالة والافتراس( العنف ) ، والإشتراك في المجد، ويكون جانبهم مرهوبا ، والناس لهم غالبون.
الجيل الثاني : هو الذي يتحقق على يديه الملك ويؤسس الدولة ، وفيه ينتقل من البداوة إلى الحضارة، ومن سكنى البوادي والريف إلى المدن ، ومن شظف العيش إلى ترفه ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به ، وكسل الباقين عن السعي فيه ، ومن عز الاستطالة إلى ذل الإستكانة ، وتنكسر فيه سورة العصبية بعض الشيء ،ويعيش على ذكريات الجيل الأول.
الجيل الثالث: ينسون عهد البداوة والخشونة كأنَّها لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية، بما فيهم من ملكه القهر ، ويبلغ فيهم الترف غايته ، ويصيرون فيه عيالاً على الدولة ، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، وتسقط العصبية تماماً ، ويضطر صاحب الدولة إلى الإستظهار بسواهم من أهل النجدة ،ويستكثر بالموالي.
الجيل الرابع: لا يكاد يذكره لأنَّه فقد الإحترام والسلطة.
أطوار الدولة:
الطور الأول : هو طور التأسيس ،وفيه يكون السلطان جديد العهد بالملك.لذا فهو لا يستغني عن العصبية ، وإنَّما يعتمد عليها لإرساء قواعد ملكه، فيكون الحكم في هذه المرحلة مشتركاً نوعاً ما بين الملك وبين قومه وعشيرته، ويتميز هذا الطور ببداوة المعيشة ،وبانخفاض مستواها ،فلم يعرف الغزاة الجدد بعد الترف.ويشترك الجميع في الدفاع عن الدولة لوجود الشجاعة والقوة البدنية.
الطور الثاني : هو الإنفراد بالملك ،ويرى ابن خلدون أنَّ الإنفراد بالسلطة ميل طبيعي وفطري لدى البشر ،ولذا فإنَّ السلطان عندما يرى ملكه قد استقر يعمل على قمع العصبية ، كما يعمل على الإنفراد بالحكم ، واستبعاد أهل عصبيته من ممارسة الحكم ، وعندئذ يتحول من رئيس عصبية إلى ملك .وقد يفعل ذلك أوَّل من أسَّس الدولة ، وقد لا يفعل ، فلا تدخل الدولة في هذا الطور الثاني إلاَّ مع ثاني زعيم أو ثالث ، ويتوقف ذلك على قوة صمود العصبية.
ويضطر السلطان إلى الاستعانة بالموالي للتغلب على أصحاب العصبية ،أي أنَّه يبدأ في هذه المرحلة الإعتماد على جيش منظم من أجل المحافظة على المُلك.
الطور الثالث: وهو طور الفراغ والدعة: وفي هذا الطور يتم تحصيل ثمرات الملك وتخليد الآثار وبُعد الصيت ، فالدولة في هذا الطور تبلغ قمة قوتها ، ويتفرغ السلطان لشؤون الجباية ، وإحصاء النفقات والقصد فيها ،ولتخليد ملكه بأن يبني المباني العظيمة الشاهدة على عظمته ، وفي هذه المرحلة يستمتع الجميع : السلطان بمجده ، وحاشيته بما يغدقه عليها السلطان.
الطور الرابع: هو طور القنوع والمسالمة : وفي هذا الطور يكون صاحب الدولة قانعاً بما بناه أسلافه مقلداً لهم قدر ما يستطيع ، والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة تجمد فلا شيء جديد يحدث ، وتغير يطرأ ، كأن الدولة تنتظر بداية النهاية.
الطور الخامس : هو طور الإسراف والتبذير ، ويكون صاحب الدولة في هذا الدور متلفاً لما جمعه أسلافه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته ، فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون ، وهادماً لما كانوا يبنون.
وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم ، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا برء منه إلى أن تنقرض.
ويرى ابن خلدون أنَّ بداية انحلال الدولة يرجع إلى عنصرين هما: انحلال العصبية ، والإنحلال المالي نتيجة تبذير السلطان ، ولهذا تنهار الدولة سياسياً واقتصادياً.
الأسس الإسلامية في نظرية الدولة عند ابن خلدون:
بنى ابن خلدون نظريته على أنَّ للدولة أعماراً مثل أعمار البشر على الأسس القرآنية ، فالقرآن الكريم ينص على أنَّ للدولة أعماراً ينتهي كيانها بنهايتها ،ثُمَّ تخلفها دولٌ أخرى أكثر نظاماً ،وأشد قوة ،وأوفر صلاحاً، من ذلك قوله تعالى : (وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ). والقرية هنا ، وفي آيات أخرى هي الدولة أو الدول ،والقرية الظالمة هنا هي الدولة الفاسدة ،فالظلم هو أشد ألوان الفساد .
والمرحلة الثانية في حياة الدولة ، وعمرها هي مرحلة القوة والنماء ،ورغد العيش ،ولين الحياة مع الحفاظ على نعم الله ،والإمتثال لأوامره ونواهيه ،وهذه المرحلة تستمد من الآية الكريمة (وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ،فإذا مالت إلى البطر والظلم انتهى الأمر بها إلى الإنحلال والضياع فتدخل في المرحلة الثالثة ،وهي مرحلة السقوط ،ويتمثل ذلك في الآية الكريمة( وتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً )على هذه الأسس القرآنية استمد ابن خلدون هذه الأطوار الثلاثة ، وهي طور النشأة والميلاد ،وطور القوة والإرتقاء ، وطور التفتت والسقوط ،أمَّا الطور الثاني في الدولة عند ابن خلدون ، فهو مرحلة انتقالية للطور الثالث ، والطور الرابع مرحلة انتقالية للطور الخامس ، وقد استمد هذين الطورين من الواقع التاريخي للعالم الإسلامي،ومن القرآن الكريم استقى فصله بعنوان «الظلم مؤذن بخراب العمران.
يعتبر عبد الرحمن بن خلدون من الشخصيات الإسلامية الفذة في العصور الوسيطة ، وهو مغاربي الميلاد والنشأة والثقافة ، فقد ولد في تونس سنة 732هـ (1332م)، وأقام في الجزائر و المغرب حتى عام 784هـ ، حيث انتقل إلى مصر ، ومكث بها ما يناهز ربع قرن( 784 - 808هـ) حيث توفي ودفن في مقابرها سنة 1406م.
لقد كانت شخصية ابن خلدون ولا تزال جذابة من كل جوانبها ، ولكن جانبيْن إثنيْن منها قد جذبا أنظار القدامى والمحدثين من الباحثين ، وهما الجانب الفكري والثقافي ، والجانب السياسي. وتتميز نظرياته بأنَّها على الغالب صالحة لكل زمان ومكان لأنَّها مستقاة من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، فهذا المؤرخ العلامة حفظ أول ما حفظ القرآن الكريم ،ثُمَّ الحديث النبوي الشريف ، ودرس التفسير والفقه ، واللغة العربية والأدب، ثُمَّ غاص في أعماق معاني القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة ، واستقى منهما نظرياته في العمران ، والدولة والإقتصاد ، والتاريخ ، والتربية ، وعلم الإجتماع.
وعندما أقدم للقارئ الكريم فكر عبد الرحمن بن خلدون السياسي والاقتصادي والاجتماعي إنَّما أقدمه ليدرك أنَّ العقلية العربية والإسلامية قادرة على الفكر والإستنباط والتحليل، واستحداث نظريات علمية، أي أنَّنا أمة قادرة على التنظير ، وأنَّ مفتاح عقولنا، ومرشدها القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية الشريفة وهما السلاح الذي يجب أن نتسلح به لصالح دنيانا ومعاشنا وآخرتنا.
كما نجد في نظريات ابن خلدون السياسية والإقتصادية والإجتماعية، طريقاً نستدل بها على الطرق المثلى للإصلاح السياسي والإقتصادي والإجتماعي الذي تسعى إليه حكوماتنا وشعوبنا.
يرصد لنا ابن خلدون خبراته وإمكاناته العلمية والعملية كافة ليقدم لنا دراسة جديدة عملية تنطبق فيها فكرة التاريخ الجديد على المجتمعات البشرية ، وفي هذه الدراسة تنطبق على الدولة ، فالشريحة أو النموذج الذي طبَّق عليه ابن خلدون قوانينه العامة وآراءه العامة كانت على الدولة الإسلامية ،هذا التطبيق لم يخل من تجربة ابن خلدون العملية للحياة العملية من تدرجه في المناصب السياسية ، كل هذا أثَّر بشكل مباشر وغير مباشر على أفكاره السياسية ، وعلى إعماله لهذه الأفكار تطبيقاً على الدولة الإسلامية بوحداتها السياسية المختلفة ومستوياتها الثقافية المتنوعة .
وابن خلدون يمثل نقطة تحول في كتابة التاريخ الإنساني ، وفي تأسيسه لعلم الإجتماع ، ومن الظلم أن نقارنه بمفكري أوربا في عصر النهضة كدانتي مثلاً ، فإن كان دانتي قد هزَّ الفكر الإنساني في أوربا ، فإنَّ ابن خلدون قد هزَّ الفكر الإنساني العالمي ،لأنَّ ابن خلدون وضع خطة جديدة وآراء جديدة ،بل وضع قوانين جديدة يمكن تطبيقها ، وتنسحب على كل المجتمعات البشرية ، إنطلاقاً من أنَّ الإنسان لا يعيش إلاَّ في مجتمع ،وإذا عاش في مجتمع، فلابد أن يعيش مع شعب ،وإذا عاش مع شعب لابد أن يعيش على أرض ، ولكي تظل العلاقة قائمة بين هؤلاء الناس أو القبائل أو الشعب، أو هذه المجموعة البشرية لابد من أن ينظمها حاكم ،وأنواع الحاكم تدرجت من حاكم بسيط «شيخ قبيلة» إلى حاكم مطلق ،إستطاع أن يستخدم كل الوسائل التي هيأها له هذا التجمع البشري ،أو هذا العمران ، واستطاع أن يستغل هذا ويصبح هو الحاكم المطلق ، وإذا أصبح حاكماً مطلقاً استطاع أن يؤسس دولة ، فإذا أسَّس الدولة التي طبَّق عليها ابن خلدون نظريته ، مرَّت الدولة بمراحل مختلفة ، هذه المراحل وجدت صحة في التطبيق عندما ننظر إلى أية دولة الآن نجد أنَّها تمر بنفس المراحل التي وضعها ابن خلدون في مقدمته.
ويقول ابن خلدون إنَّ هناك للدولة خمسة أطوار ، وأربعة أجيال أسرية : فالأطوار (مرحلة البداية والتأسيس ، توطيد الحاكم نفوذه إلى أن يصبح حاكماً مطلقاً ، يبعد نفسه عن عصبيته ، يعتمد على المرتزقة في الدفاع عن الدولة ، المرتزقة تقضي على الملك .
تعريف ابن خلدون للدولة.
يُعرِّف ابن خلدون الدولة بأنَّها « كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية ، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية ، وهي أيضاً وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلاَّ بها.
قانون السببية عند ابن خلدون :
مفاده أنَّ الوقائع الإجتماعية والأحداث التاريخية خاضعة للحتمية، وليست بفعل المصادفة لارتباط الأسباب بالمسببات،والسبب عند ابن خلدون النظر في الأسباب ، كما استخدمها القرآن الكريم للوصول إلى الحكم دون البحث في ماهية الشيء أو وجوده ، كما يفعل الفلاسفة الذين يبحثون في ماهية الله ،وهذا منهي عنه في الإسلام.
قانون التشابه عند ابن خلدون :
هو التشابه بين الماضي والحاضر ، وأنَّ المجتمعات البشرية تتشابه من بعض الوجوه، ويرجع هذا التشابه إلى :
1 -الوحدة العقلية للجنس البشري .
2-ميل الإنسان إلى التقليد، ويتجلى هذا التقليد في:
أ- تقليد الناس لأصحاب السلطة .
ب - تقليد أصحاب السلطة لأصحاب السلطة السابقة.
ج - أنَّ المغلوبين أصحاب الدولة التي زالت وانتهت يقلِّدون أصحاب الدولة الجديدة.
والتقليد عند ابن خلدون قانون عام يدفع بحركة التطور إلى الأمام ،لأنَّ التقليد يكون للأفضل.
قانون التباين عند ابن خلدون .
يرى ابن خلدون أنَّ المجتمعات ليست متماثلة بصفة مطلقة ، بل توجد بينها فروق يجب أن يلاحظها المؤرخ ، ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المؤرخين عدم إدراكهم لهذه الفروق.
ضرورة الدولة:
يرى ابن خلدون أنَّ حاجة الإنسان للغذاء والكساء والمأوى والدفاع عن النفس هي التي تدفعه إلى الإنتظام في مجتمع إنساني، فالإنسان لا يستطيع أن يسد حاجته للغذاء بمفرده،لأنَّ ذلك يتطلب أعمالاً كثيرة لا يستطيع أن يقوم بها بمفرده ،فلابد من تعاونه مع رفاقه.
والإنسان معرض للخطر ليس من جانب الحيوانات المفترسة فحسب ،بل من جانب أخيه الإنسان ،لذا لابد من وجود سلطة تحول دون اعتداء الناس بعضهم على البعض الآخر،وهذا ما أسماه ابن خلدون بـ «الوازع»، أو «وازع حاكم ،وعبَّر عنها المستشرق «أرين روزنتال2» بـ «السلطة الرادعة» ، ولها القوة الرادعة في منع الناس من قتل أو إيذاء بعضهم البعض ،حيث إنَّ العداوة والعنف سائدتان في طبيعتهم الحيوانية ،وهذه السلطة تكون في يد الملك أو السلطان.
أسس الدولة عند ابن خلدون:
ويرى ابن خلدون أنَّ الدولة لا تقوم إلاَّ على أساسيْن :
أولهما : الشوكة والعصبية المعبر عنهما بالجند.
وثانيهما : المال الذي هو قوام أولئك الجند ، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال.
فالدولة في أولها تكون بدوية ،حيث يكون الإنفاق معقولاً ،ولذا يكون هناك إمعان في الجباية والإسراف ، وإذا عظم المال انتشر الترف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة ، فإنَّ نفقات السلطان وأصحاب الدولة تتضاعف ، وينتشر الإسراف بين الرعايا ، وتمتد أيديهم إلى أموال الدولة من جهة ، ومن جهة أخرى يبدأ الجند في التجاسر على السلطة ، فيضطر السلطان إلى مضاعفة الضرائب ، فيختل اقتصاد البلاد ، ولكن الجباية مقدارها محدود، كما لا يستطيع رفع الضرائب إلى ما لا نهاية ،ولذا يضطر إلى الإستغناء عن عدد من الجند حتى يوفر مرتباتهم ،فتضعف حمايته، وتتجاسر عليه الدول المجاورة أو القبائل التي ما تزال محتفظة بعصبيتها.
مفهوم العصبية عند ابن خلدون:
إنَّ العصبية عند ابن خلدون لا تشمل أبناء الأسرة الواحدة الذين تربطهم بعضهم بالبعض الآخر صلة الرحم فحسب ، بل هي تتسع لتشمل أهل الولاء والحلف ، وفي مواقع أخرى نجد ابن خلدون يضم الرق والمرتزقة، وهم من يُطلق عليهم اسم «المصطنعين إلى العصبية،أمَّا النسب فيعتبره أمراً وهمياً فائدته هو الترابط الذي يوجده ، وبهذا يكون معنى العصبية عند ابن خلدون مرادفا لمفهوم العصبية ، وبهذا لم يخرج عن المفهوم الإسلامي الذي نبذ العصبية القبلية .
أنظمة الحكم عند ابن خلدون:
لقد حدَّد ابن خلدون أنظمة الحكم بثلاثة هي :
1-حكم يستند إلى شرع الله «الخلافة.
-2 سياسة عقلية ، وهي تضطلع بمصالح الدنيا فقط ،واستشهد بحكومة الفرس.
3-سياسة مدنية، وهي مثالية مفترضة مثل المدن الفاضلة عند الفلاسفة ، وهي بعيدة الوقوع.
ويقرر ابن خلدون في صراحة كاملة أنَّ الحكومة التي يجب أن تسوس شؤون مجتمع العمران ،هي الحكومة الإسلامية لما فيها من حفاظ على مصالح الناس في دنياهم وسلامة مصيرهم في آخرتهم ، فيقول : «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي على مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ ترجع أحوال الدنيا كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ،فهي في الحقيقة خلافة عند صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به .
ويبين ابن خلدون أنَّ وظيفة الخلافة دينية اجتماعية سياسية ، وذمَّ الملك القائم على العصبية ،لأنَّه يؤدي إلى القهر ، ورفض المُلك القائم على السياسة وحدها لأنَّه مجرد من الصبغة الدينية التي نظَّمتها شريعة السماء في حراسة نور الله ، ويستشهد ابن خلدون بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ،فيذكر قوله تعالى : (ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «إنَّما هي أعمالكم تُرد إليكم».
وبيَّن ابن خلدون سبب تسمية الخليفة بذلك بأنَّه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ الإنسان خليفة الله في الأرض لقوله تعالى : (إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ، فالله جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمورعباده ليحملهم على مصالحهم ،ويردهم عن مضارهم.
وبذلك يتفق مع الإمام الماوردي في توصيف الخلافة بأنَّها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.
نظرية الدولة عند ابن خلدون:
لقد نظر ابن خلدون للدولة على أنَّها كائن حي يولد وينمو ، ثُمَّ يهرم ليفنى.فللدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تماماً ،وقد حدَّد ابن خلدون عمر الدولة بمائة وعشرين عاماً ،لأنَّه يرى أنَّ العمر الطبيعي للأشخاص كما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرين عاماً ، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر إلاّ إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب مستشهداً بقوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ) ، وذكر أنَّها تتكون من ثلاثة أجيال كل جيل عمره أربعون سنة ، وذلك لأنَّه اعتبر متوسط عمر الشخص أربعين سنة ، حيث يبلغ النضج إلى غايته مستشهداً بقوله تعالى : (حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
ولهذا بيَّن أنَّ متوسط عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل ، ويؤيد ذلك في حكمة التيه الذي وقع لبني إسرائيل في أربعين سنة ، والمقصود بالأربعين سنة فيه فناء الجيل لإحياء ونشأة جيل آخر لم يعهد الذل ولا عرفه.
وقد ضرب ابن خلدون أمثلة لأعمار الدولة على بعض الدول مثل : المرابطين والموحدين والمرينيين في المغرب ، وملوك الطوائف في الأندلس ،والحمدانيين في حلب .
أجيال الدولة:
الجيل الأول : يعيش في الريف والبوادي حياة بدوية خشنة بعيدة عن الترف ، وتتميز بقوة العصبية والبسالة والافتراس( العنف ) ، والإشتراك في المجد، ويكون جانبهم مرهوبا ، والناس لهم غالبون.
الجيل الثاني : هو الذي يتحقق على يديه الملك ويؤسس الدولة ، وفيه ينتقل من البداوة إلى الحضارة، ومن سكنى البوادي والريف إلى المدن ، ومن شظف العيش إلى ترفه ومن الإشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به ، وكسل الباقين عن السعي فيه ، ومن عز الإستطالة إلى ذل الإستكانة ، وتنكسر فيه سورة العصبية بعض الشيء ،ويعيش على ذكريات الجيل الأول.
الجيل الثالث: ينسون عهد البداوة والخشونة كأنَّها لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية، بما فيهم من ملكه القهر ، ويبلغ فيهم الترف غايته ، ويصيرون فيه عيالاً على الدولة ، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، وتسقط العصبية تماماً ، ويضطر صاحب الدولة إلى الإستظهار بسواهم من أهل النجدة ،ويستكثر بالموالي.
الجيل الرابع: لا يكاد يذكره لأنَّه فقد الإحترام والسلطة.
أطوار الدولة:
الطور الأول : هو طور التأسيس ،وفيه يكون السلطان جديد العهد بالملك.لذا فهو لا يستغني عن العصبية ، وإنَّما يعتمد عليها لإرساء قواعد ملكه، فيكون الحكم في هذه المرحلة مشتركاً نوعاً ما بين الملك وبين قومه وعشيرته، ويتميز هذا الطور ببداوة المعيشة ،وبانخفاض مستواها ،فلم يعرف الغزاة الجدد بعد الترف.ويشترك الجميع في الدفاع عن الدولة لوجود الشجاعة والقوة البدنية.
الطور الثاني : هو الإنفراد بالملك ،ويرى ابن خلدون أنَّ الإنفراد بالسلطة ميل طبيعي وفطري لدى البشر ،ولذا فإنَّ السلطان عندما يرى ملكه قد استقر يعمل على قمع العصبية ، كما يعمل على الإنفراد بالحكم ، واستبعاد أهل عصبيته من ممارسة الحكم ، وعندئذ يتحول من رئيس عصبية إلى ملك .وقد يفعل ذلك أوَّل من أسَّس الدولة ، وقد لا يفعل ، فلا تدخل الدولة في هذا الطور الثاني إلاَّ مع ثاني زعيم أو ثالث ، ويتوقف ذلك على قوة صمود العصبية.
ويضطر السلطان إلى الإستعانة بالموالي للتغلب على أصحاب العصبية ،أي أنَّه يبدأ في هذه المرحلة الإعتماد على جيش منظم من أجل المحافظة على المُلك.
الطور الثالث: وهو طور الفراغ والدعة: وفي هذا الطور يتم تحصيل ثمرات الملك وتخليد الآثار وبُعد الصيت ، فالدولة في هذا الطور تبلغ قمة قوتها ، ويتفرغ السلطان لشؤون الجباية ، وإحصاء النفقات والقصد فيها ،ولتخليد ملكه بأن يبني المباني العظيمة الشاهدة على عظمته ، وفي هذه المرحلة يستمتع الجميع : السلطان بمجده ، وحاشيته بما يغدقه عليها السلطان.
الطور الرابع: هو طور القنوع والمسالمة : وفي هذا الطور يكون صاحب الدولة قانعاً بما بناه أسلافه مقلداً لهم قدر ما يستطيع ، والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة تجمد فلا شيء جديد يحدث ، وتغير يطرأ ، كأن الدولة تنتظر بداية النهاية.
الطور الخامس : هو طور الإسراف والتبذير ، ويكون صاحب الدولة في هذا الدور متلفاً لما جمعه أسلافه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته ، فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون ، وهادماً لما كانوا يبنون.
وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم ، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا برء منه إلى أن تنقرض.
ويرى ابن خلدون أنَّ بداية انحلال الدولة يرجع إلى عنصرين هما: انحلال العصبية ، والإنحلال المالي نتيجة تبذير السلطان ، ولهذا تنهار الدولة سياسياً واقتصادياً.
الأسس الإسلامية في نظرية الدولة عند ابن خلدون:
بنى ابن خلدون نظريته على أنَّ للدولة أعماراً مثل أعمار البشر على الأسس القرآنية ، فالقرآن الكريم ينص على أنَّ للدولة أعماراً ينتهي كيانها بنهايتها ،ثُمَّ تخلفها دولٌ أخرى أكثر نظاماً ،وأشد قوة ،وأوفر صلاحاً، من ذلك قوله تعالى : (وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ). والقرية هنا ، وفي آيات أخرى هي الدولة أو الدول ،والقرية الظالمة هنا هي الدولة الفاسدة ،فالظلم هو أشد ألوان الفساد .
والمرحلة الثانية في حياة الدولة ، وعمرها هي مرحلة القوة والنماء ،ورغد العيش ،ولين الحياة مع الحفاظ على نعم الله ،والإمتثال لأوامره ونواهيه ،وهذه المرحلة تستمد من الآية الكريمة (وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ،فإذا مالت إلى البطر والظلم انتهى الأمر بها إلى الإنحلال والضياع فتدخل في المرحلة الثالثة ،وهي مرحلة السقوط ،ويتمثل ذلك في الآية الكريمة( وتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً )على هذه الأسس القرآنية استمد ابن خلدون هذه الأطوار الثلاثة ، وهي طور النشأة والميلاد ،وطور القوة والإرتقاء ، وطور التفتت والسقوط ،أمَّا الطور الثاني في الدولة عند ابن خلدون ، فهو مرحلة انتقالية للطور الثالث ، والطور الرابع مرحلة انتقالية للطور الخامس ، وقد استمد هذين الطورين من الواقع التاريخي للعالم الإسلامي،ومن القرآن الكريم استقى فصله بعنوان «الظلم مؤذن بخراب العمران.
أمثلة أطوار الدولة من واقع الدولة الإسلامية:
طور التأسيس: وقد ضرب ابن خلدون مثلاً بالدولة الإسلامية في طور تأسيسها ، وهو عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعهد الخلفاء الراشدين ، والذي قضى فيه الإسلام على العصبية القبلية القائمة على التفاخر بالآباء والأنساب ،وحلَّ محلها الأخوة في الدين لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وقوله تعالى : (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) ،فآخى بين الأوس والخزرج وسمَّاهم بالأنصار ،وآخى بينهم وبين المهاجرين .
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قامت الخلافة ولم يقم ملك ، وكانوا محافظين على حياة البداوة من خشونة العيش والبعد عن الترف بالرغم من أنَّ المال الذي جاءهم من فتوحات الشام والعراق وفارس لا يحصر ،وقد بلغ نصيب الفارس الواحد في بعض الغزوات ثلاثين ألفاً من الذهب ،ومع ذلك كان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يرقع ثوبه بالجلد.وبالرغم ممَّا جاءهم من مال حلال من الفيء والغنائم ،لم يكن [/justify]صرفهم فيها بإسراف ،وإنَّما كانوا على قصد في أحوالهم .
ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والإجتهاد ، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل على حق ، وإنَّما اختلف اجتهادهم في الحق واقتتلوا عليه ، وإن كان المُصيب علياً كرَّم الله وجهه ، فلم يكن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قائماً فيها بقصد الباطل ، وإنَّما قصد الحق وأخطأ.
طور الإنفراد بالمجد : يمثله قيام الدولة الأموية إلى سقوط الدولة العباسية : كان خلفاء بني أمية يسيرون على الحق حتى نهاية عصر عمر بن عبد العزيز ، ثُمَّ بعد ذلك استعمل خلفاؤهم طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ، ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق ، فانصرف الناس عنهم وأيَّدوا الدعوة العباسية ،وصرف العباسيون الملك في وجوه الحق ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد فكان منهم الصالح ومنهم الطالح ، ثُمّ أفضى الأمر إلى بنيهم ، فأعطوا الملك والترف حقه ، وانغمسوا في الدنيا وباطلها ، ونبذوا الدين وراءهم فأذن الله بحربهم ، وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة.
هذا ولو طبقنا باقي أطوار الدولة على الدولة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي نجد أنَّ الدولة الأموية لمَّا قرَّب بعض الخلفاء عرب الشمال «المضرية» على عرب الجنوب القيسية» أصبح هناك تناحر بين العرب .
وفي عصر الدولة العباسية أدخل الموالي ، وأدخل السودان والأتراك والصقالبة والأرمن ،وعناصر أخرى كثيرة دخلت في الدولة الإسلامية ،تناحرت هذه العناصر ،كل يتعصب لبني جلدته ،وكل يتعصب لتركيز سلطانه ،وبذلك ضعف الخلفاء ،وظهرت إمرة الأمراء ، وأصبح الخليفة لا حول له ولا قوة، وقوي جند المرتزقة ، واستولوا على كل ما في خزانة الدولة ، وأصبح الخليفة يسترضي الجند المرتزقة لأنَّهم هم عدته وسلاحه بعد أن أبعد عصبيته ،وأهله ، فلمَّا تخْلوُ الخزينة ، ويشغب الجند يصبح الخليفة لا قيمة له ، ويمشي حافي القدميْن ، وتُسمل عينه ، ويمكن أن تصبح مدة وزارة شخص يوما أو ثلاثة أيام ،أو شهرا ،وتضعف الدولة ،وينقض عليها العداء من كل جانب ، كما حدث مع المغول والصليبيين ، وينقض المماليك على الحكم كما حدث في مصر ،ثُمّ بعد ذلك تنهار الدولة تماماً.
والدرس الذي نستقيه من تاريخنا أنَّ أية دولة أياً كانت تنهار من الدعة و الترف .
النظرية الإقتصادية:
ممَّا يميز نظريات ابن خلدون السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية والتربوية أنَّ أكثرها قابل للتطبيق في كل زمان ومكان.
كما يعد ابن خلدون أول مفكر عالمي يرى أهمية الإقتصاد للسياسة، ففي الفصل الذي بعنوان « نقصان الدفع يؤدي إلى نقصان الإيراد» يقول :السبب في ذلك أنَّ الدولة والسلطان هما السوق الأعظم في العالم... إذا حجب السلطان البضائع والأموال والإيراد، أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قلَّ حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية ، وقلَّت نفقاتهم ، وهم معظم المشترين (السواد) وهجرت الأسواق ( يقع الكساد) وتضعف أرباح المنتجات ،فتقل الجبايات لأنَّ الجبايات والضرائب تأتي من الزراعة والتجارة والتبادل التجاري الجيد والمعاملات التجارية ،وطلب الناس للفوائد والأرباح ،ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة الجبايات الناتجة عن نقصان ثروة الحاكم أو الدولة ... فالمال إنَّما هو متردد بين الحاكم والرعية منه إليهم ومنهم إليه ،فإذا منعه (حبسه عنده) فقدته الرعية.
فهنا نجد ابن خلدون قد اعتبر الدولة هي السوق الأعظم أو قوة إنتاجية أو سوق منتجة ،فإن كسدت وقلَّت مصارفها لحِقَ الكساد بقية السوق ، وما توصل إليه ابن خلدون في هذا يعتبر اليوم من مفاخر علم الإقتصاد .
فقد اعتبر الدولة منتجة بحمايتها لمصادر الإنتاج ، وتأخذ الضرائب مقابل حمايتها لهذه الثروات ، ويرى أنَّ قلة الضرائب تؤدي إلى زيادة الإعتماد لتزايد الإغتباط بقلة المغرم ،وبزيادة الضرائب يحدث العكس.
نظرية القيمة والأثمان عند ابن خلدون:
لقد سبق ابن خلدون آدم سميث في وضع أسس نظرية القيمة والأثمان وهي من أدق الأمور في الإقتصاد، وبذلك يعد ابن خلدون رائدا عظيما في علم الإقتصاد.
نظرية النقود عند ابن خلدون :
للنقود في نظر ابن خلدون خاصية ترتبت عليها وظيفتان : أمَّا الخاصية فهي الثبات النقدي.
وأمَّا الوظيفتان فهما : اتخاذ النقود أداة مبادلة ،وفي الوقت نفسه اتخاذها أداة ادخار.
وفي الإشارة إلى خاصية الثبات النقدي ، يقول : « وإن اقتنى سواهما -أي الذهب والفضة- في بعض الأحيان ـ فإنَّما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعماوال .
ثُمَّ هي أداة مبادلة عند ابن خلدون لأنَّها «قيمة لكل متمول» ،أو «مستودع القيمة» ، وإلاَّ لم يحصل أحد من اقتنائها على شيء ،وهي عنده أيضاً أداة ادخار حيث يقول : «إنَّ الذهب والفضة هما الذخيرة والقنية لأهل العالم غالباً.
وممَّا لاشك فيه أنَّ ظاهرة الثبات النقدي كانت السبب الأول في صيرورة الذهب والفضة مستودع القيمة ،وفي اتخاذها أداة للإدخَّار والمبادلة.
وكون الذهب والفضة بمعماوال عن حوالة الأسواق التي تحدث لغيرهما عند ابن خلدون يرجع إلى أنَّ الإنتاج منهما ليس مضموناً ،حيثُ إنَّ نتيجة استغلال أي منجم منهما تخضع لعدة عوامل مختلفة ، حتى إنَّ النتيجة قد تكون معاكسة ، ومن ثَمَّ فقد كان للطابع الإحتمالي للإنتاج ،بالإضافة إلى ضآلة القدر المنتج بالفعل بالنسبة للموجود في الأسواق ،الأثر الكبير في جعل عرض الذهب والفضة في الأسواق يكاد يكون ثابتاً بصورة منتظمة دائماً .
العلاقة بين النقود وبين القدرة الإنتاجية للدولة:
لقد اكتشف ابن خلدون أنَّ قوة الدولة وتقدمها العمراني «الحضاري» لا يُقاس بمقدار ما يتوافر لها من معادن كالذهب والفضة، وإنَّما يكون نتيجة لقدرتها على الإنتاج الذي يجلب لها الذهب والفضة ، فيقول : «إنَّ الأموال من الذهب والفضة ، والجواهر والأمتعة ،إنَّما هي معادن ومكاسب كالحديد والنحاس والرصاص ،وسائر العقارات والمعادن ،والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانية،ويزيد فيها أو ينقصها ،وما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث ،وربما انتقل من قُطرٍ إلى قُطر ،ومن دولة إلى دولة أخرى بحسب أغراضه ،والعمران الذي يستدعى له ،فالنقود يوفرها أو ينقصها العُمران
ويضرب مثلاً لذلك : «أقطار المشرق مثل:مصر والشَّام وعراق العجم والهند والصين ،وناحية الشمال ،وأقطار ما وراء البحر الرومي لما كثر عمرانها ،كيف كثر المال فيها وعظمت دولها ،وتعددت مدنها وحواضرها ،وعظمت متاجرها وأحوالها ... فإنَّه يبلغنا في باب الغنى والرفاهية غرائب تسير الركبان بحديثها ،وربما تتلقى بالإنكار ،ويحسب من يسمعها من العامة أنَّ ذلك لزيادة أموالهم ،أو لأنَّ المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم، أو لأنَّ ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم ،وليس كذلك ،فمعدن الذهب إنَّما هو من بلاد السودان،وجميع ما في أرضهم من البضاعة ،فإنَّما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة ،فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال ،ولاستغنوا عن أموال الناس بالجملة.
وهذا الكلام من ابن خلدون في توضيح العلاقة بين كمية النقود وبين القدرة الإنتاجية في الدولة ،وأثر هذه القدرة على عمرانها يوضح مدى تفوق ابن خلدون على التجاريين في تحليل وظيفة النقود ،كما يظهر أيضاً تفوقه على آدم سميث الذي كان يرى أنَّ التجارة الخارجية إنَّما هي تصريف الفائض عن الإستهلاك المحلي ،حيث بيَّن ابن خلدون أنَّها تكون لتبادل المنفعة وللحصول على الذهب والفضة ابتغاء الحصول بهما على السلع الأخرى.
العلاقة بين الرخاء وبين سرعة تداول النقود في « نظرية ابن خلدون:
يرى ابن خلدون أنَّ النقود يوفرها أو ينقصها العمران ،فالعمران بما يحققه من رخاء نتيجة للنقود التي يجلبها للبلاد الغنية يؤدي إلى سرعة تداول النقود ، وكثرة التعامل فينتج عن ذلك ارتفاع كمية النقود المتبادلة ، فهو يقول : «إنَّ المصر يؤدي إلى كثرة التعامل ،واستفحال العمران وتأثر الثروات الكبيرة» كما يقول : «إنَّ العمران يظهر النقود بالأعمال الإنسانية ،ويزيد فيها أو ينقصها .
وهكذا يقرر ابن خلدون أهمية سرعة التداول للمال وأثرها على : زيادة العمران ،وزيادة الأموال بينهما ،بينما يحل الكساد إذا كان هناك إبطاء في حركة التداول.
الإحتكار عند ابن خلدون:
تحدث ابن خلدون عن الإحتكار ،وبيَّن أنَّه أعظم ألوان الظلم الذي يؤدي إلى إفساد العمران والدولة ،وعرَّفه بأنه التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أموالهم بأبخس الأثمان ،ثُمَّ فرض البضائع عليهم بأعلى الأثمان على وهم الغصب والإكراه في الشراء والبيع ،وبيَّن أنَّ نتيجة ذلك يؤدي إلى كساد الأسواق ،وتوقف معاش الرعايا ، وبيَّن سبب لجوء الدولة أو السلطان إلى الإحتكار هو حاجتهم إلى الإكثار من المال بأخذهم بأسباب الترف ،فتكثر نفقاتهم ،فيرفعون الجبايات ،ولا يزال الترف يزيد والجبايات تزيد وتشتد حاجة الدولة إلى المال فتدخل في مزاحمة الناس في نشاطاتهم الإقتصادية وتجنح للإحتكار .
حكم الشرع للإحتكار :
وبيَّن ابن خلدون حكم الشرع للإحتكار بتحريمه، وقد استند في ذلك على قول النبي صلى الله عليه وسلم ( المحتكر عاص وملعون) ،وذلك لرفع الضر عن الناس ووقايتهم من المحتكرين في حبس الأقوات وغيرها من ضروريات الحياة.
نظرية (تجارة السلطان مضرة للرعايا مفسدة للجباية:
وقبل أن أشرح هذه النظرية ،وتطبيقها على بعض أنظمة الحكم المعاصرة أريد أن أوضح للقاريء الكريم معنى السلطان» ،و «الجباية» وفق المفهوم المعاصر ،فالسلطان يُفهم منه السلطان الحاكم ،ويُفهم منه أيضاً نظام الحكم أو الحكومة .
أمَّا الجباية ،فهي دخل الدولة من الأموال أو ميزانيتها طبقاً لاصطلاح عصرنا.
لقد جرى بعض الحكَّام في الماضي ،وفي الحاضر غير البعيد على الإتجار وممارسة الزراعة ـ وبعضهم في وقتنا الحالي يتاجر في البترول مثل الرئيس الأمريكي الحالي «جورج بوش»؛إذ يملك شركات للبترول ، ويذكر ابن خلدون ذلك في مقام محاولة السلطان تعويض النقص في جبايته ،فيعمد حيناً إلى فرض المكوس على مبيعات التجار للرعايا وعلى الأسواق ،أو بزيادة المكوس إذ كانت قد استحدثت من قبل ،أو بمقاسمة العمال والجباة ، وامتكاك (أي امتصاص) عظامهم طبقاً لعبارة ابن خلدون،وأخيراً يعمد السلطان إلى ممارسة التجارة والزراعة ،وهو ما لا يجمل به ،ولا يستقيم معه رخاء الدولة ومصالح الرعية ،ولا الوفاء بما يحتاج إليه
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى