Friday, February 08, 2013

دراسة في القانون: النيابة العامة ومدى خضوعها لوزير العدل؟ (2/2)


إذا كان من المسلم به في التشريعات الحديثة، أن النيابة العامة هيأة قضائية، مثلها مثل قضاء الحكم، فإنها تمتاز عنه بما يسميه الفقه الجنائي
 «خصائص النيابة العامة «، وهي : التبعية التدرجية، والوحدة، والاستقلال بيد أن هذا الاستقلال، وإن كان مكفولا لقضاة النيابة العامة
 في ما يخص تعيينهم وترقيتهم وتأديبهم كغيرهم من قضاة الأحكام، فإن استقلال أولئك يختلف عن استقلال هؤلاء،
في ما يخص علاقات النيابة العامة بغيرها من السلطات التي يتصل عملها بها.

سبقت الإشارة إلى أن للنيابة العامة خصائص ثلاث تميزها عن قضاء الأحكام، وأن إحدى هذه الخصائص هي التبعية التدرجية، التي تعنى خضوع كل عضو من أعضاء النيابة العامة – في ممارسة عمله – لرئيسه بما يوجهه إليه من تعليمات، وبما له عليه من رقابة في تنفيذها، تحقيقا لوحدتها، كما تعني خضوع جميع أعضاء النيابة العامة لوزير العدل الذي أناط به القانون الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية، والذي يعتبر وحده، ودون غيره، صلة الوصل بين السلطة التنفيذية والنيابة العامة، حفاظا على أمن المواطنين واستقرارهم وحرياتهم ، وذلك طبقا للمواد 48.39 و51 من ق.م.ج.

استقلال النيابة العامة في الدستور الجديد
بقراءة بسيطة للفصول المتعلقة بدسترة السلطة القضائية، واستقلالها، يتبين، وبكل وضوح - وفي انتظار القانون التنظيمي الذي يحدد النظام الأساسي للقضاء- أن الدستور ركز على الضمانات الممنوحة للقضاة دون تمييز بين قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة، في ما يخص التعيين والترقية، والتقاعد...إلخ، وأناط تطبيقها والسهر عليها بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وأنه خص قضاة الأحكام كونهم لا يعزلون ولا ينقلون إلا بمقتضى القانون، ومنع كل تدخل لديهم في القضايا المعروضة عليهم، أو توجيه أوامر أو تعليمات لهم بشأن مهمتهم القضائية، أو ممارسة أي ضغط عليهم، أو محاولة التأثير عليهم بكيفية غير مشروعة، واعتبر ذلك جريمة يعاقبها القانون، بينما أوجب على قضاة النيابة العامة الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها، حسبما جاء في الفصول 108-109 و110و116 من الدستور.
إن هذه المقتضيات تطرح عدة تساؤلات، ما هي مسطرة عزل أو نقل قضاة النيابة العامة الذين أخرجهم الفصل 108 بالمفهوم المخالف من حمايته؟.  سؤال سيجيب عنه النظام الأساسي للقضاة، مع ما ينبغي أن يوفر لهم من ضمانات قانونية.
 ما هي السلطة التي يتبعون لها والتي يلتزمون بتعليماتها الكتابية القانونية؟ أعضاء النيابة العامة حسب تدرجهم ؟ أو هم وعلى رأسهم وزير العدل ؟.
إن طبيعة عمل النيابة العامة الأساسي، وهو ممارسة سلطة الاتهام، يستوجب الخضوع للتعليمات الداخلية التي يوجهها بعضهم إلى بعض، أي تلك التي يوجهها رؤساؤهم إلى مرؤوسيهم بحكم التبعية، كما تستلزم خضوعهم لوزير العدل وإشرافه، باعتباره المسؤول عن تنفيذ السياسة الحكومية في قطاع العدل، طبقا للفصل 93 من الدستور. وغير خاف أن السياسة الجنائية، هي إحدى سياسات الحكومة التي تحاسب عنها من طرف البرلمان، وذلك ما يؤكده الفصل 110/2 – من الدستور: الذي جاء فيه : "... كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها "، و في الفصل 116 : " يراعى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، في القضايا التي تهم قضاة النيابة العامة تقارير التقييم المقدمة من قبل السلطة التي يتبعون لها "، والمادة 741-1 منه  تنص في فقرتها الثالثة على أنه " لا يمكن للوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف منح الإذن بالتسليم المراقب، إلا بعد موافقة وزير العدل ".
لقد أثار إشراف وزير العدل، بصفته الرئيس الإداري الأعلى وعضوا في السلطة التنفيذية خلافا فقهيا، لا سيما في فرنسا – التي يرجح الفقه الجنائي أنها منشأ النيابة العامة، - حول مداه في ما يخص الاتهام، حيث يكون له أن يأمر رئيس النيابة العامة بتحريك الدعوى العمومية، أو بعدم تحريكها، إذ يرى البعض، أن لوزير العدل أن يصدر الأمر برفع الدعوى أو عدم رفعها، بينما يرى البعض الآخر، أن أعضاء النيابة العامة يلتزمون بتنفيذ هذه الأوامر متى كانت صادرة برفع الدعوى، ولا يلتزمون بتنفيذها إذا كانت صادرة بعدم رفعها، لأن الأصل في عمل النيابة العامة هو أن ترفع الدعوى العمومية، وأن عدم رفعها إجراء سلبي لا يصح أن يؤمر به، وهذا الرأي هو ما يأخذ به قانون مسطرتنا الجنائية بنصه في المادة 51 على أنه  " يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية، ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها، وله أن يبلغ إلى الوكيل العام للملك، ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي، وأن يأمره كتابة بمتابعة مرتكبيها، أو يكلف من يقوم بذلك، أو أن يرفع إلى المحكمة المختصة ما يراه الوزير، ملائما من ملتمسات كتابية ".
 فهذه المادة، وإن كانت تقرر إشراف وزير العدل على النيابة العامة، فإنها تقيده بمتابعة مرتكبي المخالفات للقانون الجنائي، أي بتحريك الدعوى العمومية فقط. مع العلم بأن الأمر الكتابي الذي يرفع إلى المحكمة.
خلال المرافعة في الجلسة لا يمنع عضو النيابة الذي عهد إليه بتنفيذه، من إبداء رأيه بما يمليه عليه ضميره، عملا بالمثل المشهور " إذا كان القلم مقيدا فالكلام حر"، (Si la plume est serve la parole est libre)  . وهو ما تقرره المادة 38 من قانون المسطرة الجنائية.
وخلاصة القول: إن النيابة العامة هيأة قضائية، تمارس سلطة الاتهام نيابة عن المجتمع، بما تقيمه من دعاو عمومية، ضد كل من يرتكب فعلا يجرمه القانون ويعاقب عليه، وأن طبيعة عملها الذي تحكمه مبادئ فصل سلطة الاتهام عن سلطة الحكم، وعن سلطة التحقيق، والملاءمة، يجعلها مستقلة عن كل هذه الجهات، وخاضعة فقط، ومن الداخل، لأعضائها حسب تسلسلهم الرئاسي، ومن الخارج، لوزير العدل والحريات وحده، دون غيره من الوزراء الأخيرين، كأعضاء في السلطة التنفيذية، أو غيرهم من رجال الإدارة، كالولاة والعمال، وبصفته مسؤولا عن تنفيذ السياسة الجنائية، وهي جزء من السياسة العامة للدولة التي تحاسب عنها الحكومة، طبقا للفصول 92و93و100 من الدستور، ولا يمكن للحكومة كسلطة تنفيذية، أن تحاسب عن السياسة الجنائية، إذا لم تكن خاضعة لإشرافها عن طريق وزيرها في العدل والحريات، إذ لا محاسبة بدون مسؤولية، لبناء مغرب العدل، وترسيخ دولة الحق والقانون.
والله الموفق للصواب


بقلم: أبــو مسلـم الحطــاب, دكتور في الحقوق الإجازة في الشريعة رئيس غرفة سابق بمحكمة النقض, قاض شرفي من الدرجة الاستثنائية
محام بهيئة الدار البيضاء

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا