إن استقلال القضاء يمكن مقاربته من خلال بعدين، الأول مؤسساتي يتمثل في استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية تماما
كما عبر عنه الفقيه منتسكيو، وكرسه الدستور الجديد للمملكة ، والثاني ذاتي يهم القاضي نفسه، الذي يفترض فيه أن يكون مستقلا،
نزيها، محايدا، متجردا، شجاعا...حتى يتسنى له أداء رسالته على الوجه المطلوب. كانت السلطة القضائية بيد السلطان، لأنه صاحب القوة والنفوذ، ويعتبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من فصل منصب القضاء عن الولاية العامة/ وكان كتابه لأبي موسى الأشعري من أهم الكتب وأشملها حتى سمي هذا الكتاب بدستور القضاء في الإسلام، الذي جاء فيه:"أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة...، آس الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع الشريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ...، لا يمنعك قضاء قضيته في اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ...، إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة أو الخصوم ، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر" .
ولم نجد فقيها مسلما واحدا من القدامى تناول موضوع النزاهة بشكل مستقل ومباشر، وإنما تناولوها ضمن مفهوم العدالة كشرط من شروط تولي القضاء، إلى جانب كمال النفس والإسلام والعلم بالأحكام الشرعية.
النزاهة من خلال المواثيق الدولية
هناك مجموعة من الصكوك التي تعنى بمبدأ استقلال القضاء، سواء ذات الطبيعية العالمية، كالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أو ذات الطبيعة الإقليمية كالميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لسنة 1981 والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لسنة 1969 والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لسنة 1950.
وتجمع هذه المواثيق على أن القضاء المستقل هو وحده القادر على إقامة العدل بشكل نزيه بالاستناد إلى القانون، ومن تم يحمي حقوق الإنسان والحريات الأساسية للفرد.
وهكذا جاء في المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: "من حق كل فرد أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة وحيادية منشأة بحكم القانون "، وقد أكدت اللجنة الأوربية المعنية بحقوق الإنسان أن حق الفرد في أن يحاكم من طرف محكمة مستقلة ومحايدة حق مطلق ولا يخضع لأي استثناء.
أما المادة 7 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، فتنص على أن لكل فرد الحق في أن ينظر في دعواه وهو حق يشمل بوجه خاص، الحق في أن يفترض بريئا إلى أن تثبت التهمة الموجهة إليه من قبل محكمة مختصة، وأن يحاكم في غضون فترة معقولة من قبل محكمة محايدة.
وفي نفس الإطار، جاء في المادة 8 من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، أن لكل إنسان الحق في أن ينظر في دعواه مع توفير الضمانات اللازمة له وفي غضون فترة معقولة من قبل محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة.
وأخيرا تنص المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، على أنه يحق لكل فرد أن ينظر في دعواه على نحو منصف وبشكل علني في غضون فترة معقولة من الزمن من قبل محكمة مستقلة ومحايدة منشأة بمقتضى القانون.
وبالرغم من أن بعض الدول لم تصادق على أي من اتفاقيات حقوق الإنسان، فإنها تظل ملتزمة بالقواعد العرفية من القانون الدولي وبالمبادئ العامة للقانون ومنها مبدأ استقلال الهيأة القضائية ونزاهتها.
والملاحظ من خلال دراستنا لأهم الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالموضوع، أن هناك ترابطا وثيقا بين مفهومي الاستقلال والنزاهة، وأن أجهزة الرصد الدولية عالجت هذين المفهومين معالجة مشتركة.
فإذا كان مفهوم الاستقلال، كما عبرت عنه المحكمة العليا بكندا هو تعبير عن القيمة الدستورية لاستقلال القضاء، فإن نفس المحكمة وصفت مفهوم نزاهة الهيأة القضائية بكونه حالة ذهنية أو عقلية أو موقف تقفه المحكمة بالنظر إلى القضايا والأطراف في دعوى بعينها.
وقد أكدت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان بكون مفهوم النزاهة الوارد في المادة 14، يعني أنه يجب على القضاة أن يكونوا مجردين من جميع الأفكار المسبقة بشأن المسألة التي تطرح عليهم، وأنه لا ينبغي لهم أن يتصرفوا على النحو الذي يخدم مصالح طرف من الأطراف.
أما في ما يتعلق بالمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، فهي ترى أن مفهوم النزاهة يتضمن عنصرين أحدهما ذاتي والآخر موضوعي، ذلك أن المحكمة لا يجب أن تكون محايدة فقط من حيث أن أي عضو فيها ينبغي ألا يكون لديه أي فكرة مسبقة أو تحيز شخصي، وإنما يجب أيضا أن تكون نزيهة من وجهة نظر موضوعية من حيث وجوب تقديم ضمانات تدرأ أي شك مشروع يثور في هذا الصدد.
النزاهة من خلال النظام الأساسي العالمي للقاضي لسنة 1999.
النظام الأساسي العالمي للقاضي من أبرز النصوص ذات البعد الدولي التي تتصل بنظام القضاء واستقلالية السلطة القضائية، وقد تمت صياغته من قبل الاتحاد العالمي للقضاة بوصفه أكبر تجمع لمنظمات وجمعيات القضاة على المستوى العالمي.
والوثيقة المرجعية لهذا النظام تضمنت 15 فصلا، ترجمت لخمس لغات هي الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الألمانية، والإيطالية.
وأهمية هذه الوثيقة، تكمن في كونها نتاج وتصور أغلب قضاة العالم عبر جمعياتهم ومنظماتهم المنتخبة.
ومعلوم أن الودادية الحسنية للقضاة المغاربة كانت حاضرة ضمن الوفود العالمية التي كان لها شرف المصادقة والتصويت على الصياغة النهائية لهذا النص.
وقد حاول الدكتور المهدي شبو ترجمة هذه الوثيقة إلى اللغة العربية، ثم نشرها كملحق بمجلة محاكمة العدد 2، بحيث تحدثت الفصول الأولى على أهم المبادئ المدعمة لاستقلال القضاء ومن ذلك ما جاء في الفصل1: "يضمن القضاء للجميع الحق في محاكمة عادلة ، ويجب عليهم تسخير كافة الوسائل التي يتوفرون عليها من أجل ضمان البت في القضايا في جلسة عمومية داخل أجل معقول وأمام محكمة مستقلة ومحايدة منشأة بموجب القانون، ويعتبر استقلال القاضي ضروريا لممارسة عدالة محايدة في إطار احترام القانون، وهو مبدأ غير قابل للتجزئة ويجب على جميع المؤسسات و السلط سواء كانت وطنية أو دولية احترامه والذود عنه".
ويضيف الفصل 2 من نفس النظام : "يجب أن يؤمن استقلال القاضي بواسطة قانون خاص يضمن له استقلالية حقيقية وفعلية في مواجهة سلطات الدولة، ويجب أن يتمكن القاضي باعتباره مجسدا للسلطة القضائية من ممارسة وظائفه باستقلالية تامة عن جميع القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعن القضاة الآخرين واتجاه إدارة العدل" .
بقلم:د/ يونس العياشي, قاض ملحق بوزارة العدل والحريات
دكتور في الحقوق
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى