Sunday, February 03, 2013

المواكبة الدستورية للإنتقال للديمقراطية -حالتا إسبانيا وأوروبا الشرقية‏


المواكبة الدستورية للإنتقال للديمقراطية [‏ حالتا إسبانيا وأوروبا الشرقية‏]‏
2012/05/12 - ‏بقلم: د‏.‏ المومني ندير*
بداية نطرح التساؤل كيف تواكب عملية الدسترة التعرف عبر دراسة الحلول الدستورية علي لحظة أساسية وحرجة في الزمن السياسي , هي لحظة الخروج من نظام سياسي إلي آخر , تلك اللحظة التي تعني في آن واحد وضع شرعية 'Legitimacy س للنظام السياسي موضع تساؤل , بتزامن مع بروز حدود النسق القانوني الذي يشرعن 'Legitimise س سلطة الحاكمين في ظل النظام السياسي المزمع الخروج منه (1). وهكذا فإن الهدف الأساسي من هذه الدراسة هو تقديم إطار تحليلي لميكانيزمات عملية الدسترة التي تتيح وتواكب الخروج من سياق سلطوي 'AuthoritarianContext سوالانتقال نحو الديمقراطية علي المستوي المنهجي تتطلب دراسة المواكبة الدستورية للانتقالات السياسية نحو الديمقراطية اتخاذ مسافة ضرورية إزاء التصورات الدستورية المعيارية ز Normative سوالوضعانية 'Positivist س , إذ أن هذه الدراسة تفترض مبدئيا تحديد إنتاج - تأويل وحتي تعديل القاعدة الدستورية بعلاقات القوة والمعني السائدة في المرحلة الانتقالية والتي تتسم - كما يتفق علي ذلك مختلف الباحثين في علم الانتقالات 'Transitology س بدرجة كبيرة من التغير , واللايقين 'Uncertainty س .

إن أحدي المكاسب المنهجية التي قد تتحقق من هذا الخيار تتمثل في التمكن من دراسة تكلفة التغييرات والتعديلات الدستورية في السياقات الانتقالية , ولماذا تم اللجوء إلي حلول متنوعة , لتحقيق الانتقالات السياسية والدستورية بأقل كلفة , كما هو الأمر في الحالة الإسبانية مثلا . وكيف تتم ترجمة جدلية الإصلاح - القطيعة (2) علي المستوي الدستوري في السياقات الانتقالية .
إن بعض عناصر الإجابة عن هذه التساؤلات - وبالنظر للمسعي المقارن المعتمد في هذه الدراسة - يمكن تقديمها من خلال محاولة تحديد التصنيف Typology لقضايا ومشاكل الهندسة الدستورية في السياق الانتقالي ثم التعرف علي مجموعة من الحلول الدستورية التي اعتمدتها البلدان موضوع المقارنة من أجل تدبير السياقات الانتقالية .

(I)- قضايا ومشاكل الهندسة الدستورية في السياق الانتقالي :
يمكن صياغة بعض قضايا ومشاكل الهندسة الدستورية في السياق الانتقالي عبر محاور متعددة , إذ يتعين أولا تحديد الفاعلين من إنتاج وتعديل القواعد الدستورية في السياقات الانتقالية المتعلقة بالخروج من السلطوية أو الكليانية , وبعبارة أخري التساؤل حول رهانات الفاعلين المتعلقة بالانخراط في مشروع دسترة النتائج السياسية المتوصل إليها في السياق الانتقالي .
ولما كان الأمر يتعلق بتغييرات دستورية سيتم إجراؤها , فمن الضروري دراسة وضعية الناخبين في السياقات الانتقالية , والتعرف علي العوامل المحددة للسلوك التصويتي للناخبين في اللحظات التأسيسية والاستفتائية تحديدا .

كما أن عددا من الأسئلة تتخذ طابعا خاصا بمناسبة التكريس الدستوري للانتقال نحو الديمقراطية وهي أسئلة تتعلق باللحظة التأسيسية وتعبر عن مواقف وانشغالات الفاعلين إزاء موضوعات التوازنات الأساسية للسلطة , واستراتيجيات استيراد التجارب الدستورية الأجنبية .

1- انتظارات الفاعلين من إنتاج وتعديل القواعد الدستورية :
بالرغم من الطابع الخاص بكل سياق انتقالي يمكن اكتشاف مجموعة من الانتظارات التي يعلقها الفاعلون السياسيون علي إنتاج وتعديل القواعد الدستورية , إن جانبا من الانتظارات يرتبط بالعقلنة القانونية (3)'LegalRationalisation س : تتخذ الانتظارات المرتبطة بالعقلنة القانونية أشكالا مختلفة حسب طبيعة السياق السابق علي الانتقال نحوالديمقراطية , ففي سياق سلطوي حديث أوحتي سلطاني 'Sultanist س يتخذ هذا الانتظار شكل تقليص مساحة الإستبداد 'arbitrary س المرتبط بالقيادة الفردية , شخصنة السلطة , بضعف التمايز بين المؤسسات والحاكمين , وبالأشكال المختلفة من الميراثية 'Patrimanialism س والرئاسية , كما في الحالة الإسبانية قبل 1975 علي سبيل المثال .

أما في سياق كلياني , فإن الانتظارات الخاصة بالعقلنة القانونية تتخذ الشكل المتمثل في فك الارتباط بين الحزب الوحيد والدولة , وتحسين القدرات التوقعية للنظام السياسي , وتندرج حالة دول المعسكر الشرقي السابق في هذا الإطار .
ومن ثم فإن منطق الهندسة الدستورية المواكبة للانتقالات الديمقراطية مبني علي ترسيم التوازنات المتوصل إليها في السياق الانتقالي والتقليص من عدم اليقين 'Uncertainty س الذي يرافقه , علي ضوء ذلك يمكن فهم القرار الواعي للنخب أطراف الانتقال بالاتفاق حول قواعد دنيا , ودسترة الانتقالات كجزء من مرحلة التثبيت ز Consolidationphase سالتي تتسم بتعلم وتمثل وقبول قواعد العمل السياسي في إطار نظام دستوري ديمقراطي .

وسواء تعلق الأمر بسياقات لاحقة علي أنظمة سلطوية أوكليانية فإن هناك انتظارا مشتركا يتمثل في تقوية وظيفة ضمان الحقوق والحريات الأساسية من خلال الدستور باعتباره ضمانة معيارية أسمي لهذه الحقوق والحريات , وهنا يبدوأن تقوية ودعم وظيفة الضمان من شأنها تقليص احتمالات العودة إلي سياقات ما قبل انتقالية .
ينتظر أيضا من إنتاج وتعديل القواعد الدستورية في السياقات الانتقالية , المساهمة في استكمال مسار اندماج (4) القوي السياسية والاجتماعية إذا تعلق الأمر بأنظمة لاحقة علي السلطوية , أوإعادة تحديد وتأسيس رابط اجتماعي وسياسي جديد في حالة الأنظمة اللاحقة علي الكليانية 'Post-totalitarian س . ومن هنا أهمية توافق النخبة وغالبية السكان علي جدوي الانتقال الديموقراطي , بوصف هذا التوافق شرطا أساسيا لتقليص الكلفة الاجتماعية والسياسية للانتقال (5). ومن الناحية المبدئية ينتظر من الدستور أن يرسم ويضمن استدامة نتائج هذا التوافق (6).

2- التغييرات الدستورية ودور الناخبين في السياقات الانتقالية :
يرتبط سؤال السلطة التأسيسية , بشكل وثيق بالناخبين الذين يفترض أن ينتخبوا جمعية تأسيسية , أوأن يصادقوا أويرفضوا عبر الطريق الاستفتائية علي مشروع الدستور الذي سيكرس النتائج المتوصل إليها في مرحلة الانتقال السياسي .

من هذا المنظور يمكن طرح الإشكالية علي مستويين :
* أولا : مستوي السياقات الانتقالية , حيث يلج النقاش حول المسألة الدستورية بقوة إلي المجال العمومي , مع تعدد للخيارات وانتشار النقاش حول الشأن العام خارج الحزب الوحيد , وهوما لم يكن بالإمكان تصوره في الأنظمة السلطوية والكليانية السابقة , ويتزامن ذلك مع مشاركة الناخبين (7) الذين سيلجأون لأول مرة إلي سوق سياسي مفتوح في ظل التعددية السياسية . كما أن أحد الجوانب الخاصة للسياقات الانتقالية تكمن في تزامن مساهمة الناخب في السياسات العادية ( انتخابات تشريعية وبلدية ...) وفي التغييرات الدستورية (8) في آن واحد أوفي فترات زمنية قصيرة نسبيا , وهنا يطرح مشكل الولوج إلي المعلومات الضرورية لاتخاذ الناخب لقراره التصويتي لحظة الاستفتاء علي الدستور , في حين أنه لا توجد ضمانة تؤكد أن الناخبين سيلجأون بالضرورة إلي المعلومات الضرورية التي ستمكنهم من تقييم نظام دستوري جديد لم يعيشوه سابقا . وعلي المستوي الإجرائي يمكن التساؤل عن أفضلية الطريقة البرلمانية أوالاستفتائية للتغيير الدستوري , أخذا بعين الاعتبار المتغير المتعلق بمدي إدراك الناخب للآثار طويلة المدي للتغيير الدستوري ومدي اتخاذ قراره التصويتي عل هذا الأساس .

* ثانيا : مستوي تزامن الانتقالات : إذ أن الانتقال نحوالديمقراطية يتزامن عادة مع الانتقال نحواقتصاد السوق , وهوانتقال يتم بكلفة اجتماعية باهظة , وهنا تظهر مخاطر ربط الناخب قراره التصويتي في استفتاء دستوري مثلا , بظرفية أزمة اقتصادية واجتماعية (9), ففي عدد من دول أوروبا الشرقية هناك مخاطر تتعلق بإعادة إنتاج السلطوية , أو الاتجاه نحو الرئاسية 'Presidentialism س , حيث يمكن لقوي سياسية خاصة تلك المنبثقة عن الأحزاب الشيوعية السابقة أن تستغل سياق الأزمة للدفع باتجاه تغييرات دستورية توسع من مجال تدخل السلطة التنفيذية باستعمال حجة حل الأزمة .

3- أسئلة تتعلق بالتكريس الدستوري للانتقال نحو الديمقراطية :
يطرح الانتقال نحوالتعددية والديمقراطية عبر الطريق الدستوري عددا من الأسئلة الحاسمة التي يمكن أن تؤول في نهاية المطاف إلي السؤال المركزي : من هم الحائزون علي السلطة السياسية في المرحلة الانتقالية وكيف يمكن أن تترجم الهندسة الدستورية بترجمة التوازنات الهشة في المرحلة الانتقالية , في أفق تحويلها إلي قاعدة عمل مشتركة بين مختلف الفرقاء السياسيين في فترة ما بعد الانتقال , وبعبارة أخري كيف يمكن استخراج عناصر استدامة 'Sustainability س من سياق ظرفي , وهكذا فإن ترجمة هذا السؤال بلغة دستورية يمكن أن يتفرع عنه عدد من الأسئلة الهامة :

أ - سؤال السلطة التأسيسية :
يكتسي سؤال السلطة التأسيسية طابعا خاصا في سياقات الانتقال من سياق سلطوي أوكلياني نحوالديمقراطية , فإذا كانت النظريات الدستورية الكلاسيكية تتفق علي اعتبار السلطة التأسيسية بوصفها مصدر إنتاج المعايير 'Norms س الدستورية وتحديد القواعد الأساسية المنظمة للسلطة داخل الدولة , كما تعتبرها فعلا آمرا 'Imperativeact س صادرا عن الأمة من أجل تنظيم تراتبية السلطة (10), فإن الطابع الخاص للسياقات الانتقالية يطرح بشكل ما بعض التحديات علي هذا التعريف , وذلك علي المستويين النظري والوقائعي , إذ تشهد النظرية الدستورية الكلاسيكية تمييزا بين الآراء الفقهية (GeorgJellinek) التي تعتبر السلطة التأسيسية مصدرا متعاليا وسابقا علي وضع النظام الدستوريوهي من ثم تنتمي إلي مجال الوقائعي 'Factual س أكثر من انتمائها إلي مجال المعياري 'Normative س , وبين الآراء التي تعتبر السلطة التأسيسية جزءا من نظام قانوني ينتج ذاتيا معاييره , وأنه لا يمكن تصور جانبها الوقائعي دون أن يكون متضمنا في نظام قانوني ما 'HansKelsen س (11), غير أن الطابع الخاص للسياقات الانتقالية تسائل هذا الاختلاف الفقهي الدستوري , بالنظر إلي علاقة السلطة التأسيسية في السياق الانتقالي بالنظام الدستوري السابق , بدءا لا يمكن القول بأن سياق الخروج من السلطوية أو الكليانية يطابق سياقا ثوريا , كما أن الانتقالات موضوع الدراسة لم يتم إنجازها باستعمال معمم وواسع النطاق للعنف المادي كوسيلة أساسية وحصرية من أجل تغيير النظام السياسي , بالرغم من الاحتجاجات الجماعية التي قد تميز الحياة السياسية في المرحلة الانتقالية ( مظاهرات أو حتي أعمال عنف محدودة مثلا ) كما في حالة دول أوروبا الشرقية . وفي الحالة الإسبانية نجد أن اللحظة الأساسية لمسار الانتقال نحو الديمقراطية وجدت منطلقها داخل النظام القانوني الفرانكاوي 'Francoistlegality س , فإنجاز الخروج من الديكتاتورية في الحالة الإسبانية تم بطريقة سلمية بالنسبة للقوي السياسية التي كانت تساند النظام السلطوي , حيث مر الملك والطبقة السياسية الفرانكاوية إلي الشرعية الديمقراطية بفضل مشاركة ممثليهم في العمل القانوني للانتقال (12), بوصفه عملا تأسيسيا , ضمن منطق مؤسس في آن علي القطيعة والاستمرارية . وفي حالة دول أوروبا الشرقية ستجد الطبقات السياسية التي خدمت العهد الكلياني حياة ثانية في السياق الانتقالي , حيث ستعمل تحت هويات سياسية أخري في أجهزة الدولة الإدارية والسياسية وستكون حاضرة في المؤسسات التمثيلية .

إذن يمكن استنتاج أن طبيعة السلطة التأسيسية في السياق الانتقالي , تختلف عن صورة السلطة التأسيسية التي يمارسها جسم سياسي جديد يتسلم السلطة السياسية لأول مرة عقب حدث بتسم باستعمال معمم وواسع النطاق للعنف المادي ( ثورة , حرب ), وبالمقابل يبدوأن السياقات الانتقالية تغدوأكثر ملاءمة للجمع والتركيب بين صيغ متعددة لوضع الدستور , فالدستور الإسباني لسنة 1978 هو نتاج الجمع بين مسطرتي ( اجراءات ) الجمعية التأسيسية ومسطرة لجنة الخبراء (13), وقد تمثل الهدف الأساسي لهذا التركيب في إتاحة بروز توافق توافق سياسي واجتماعي واسع والاعتماد علي صياغة تقنية جيدة من أجل ترسيم التوافق الذي تم التوصل إليه , في أفق عرض مشروع الدستور علي الاستفتاء (14). كما أن المدة الزمنية الطويلة نسبيا لهذه الاجراءات المختلطة التي قد تستغرق عدة شهور من شأنها تسهيل التفاوض والوصول إلي نتائج توافقية بين القوي السياسية الأساسية للمرحلة الانتقالية , وهنا مرة أخري تعتبر الحالة الإسبانية نموذجية في هذا الصدد , باعتبار أن التوافق حول الصيغة شبه النهائية للدستور الإسباني كانت محددا بشكل كبير بنتيجة المحادثات غير الرسمية بين ممثلي أهم قوتين سياسيتين في المرحلة الانتقالية خلال 1978, وهما اتحاد الوسط الديموقراطي والحزب الاشتراكي العمالي الإسباني . وتبدو أهمية النتائج التوافقية المتوصل إليها إذا ما تم استحضار عامل بنيوي أساسي يتمثل في أن المسار الانتقالي الإسباني برمته وعلي عكس نماذج أوربا الشرقية - تم إطلاقه وإنجاز جزء منه في ظل النسق القانوني للنظام الفرانكاوي نفسه (15). وهنا يمثل اختيار هذا الأخير لشكل الحكم الملكي (16) ضمانة للقوي المحافظة وبرمجة لاستمرارية النظام السياسي بعد وفاة فرانكو , لكن هذا الاختيار شكل في الآن نفسه فرصة للانتقال نحو الديمقراطية باعتبار أن ولاء الملك المزدوج للتاج وللمؤسسات السياسية (17) قد يمكنه من نوع من الاستقلالية السياسية 'Politicalautonomy س علي المؤسسات السياسية للنظام الفرانكاوي , ويتيح له أن يساهم في دعم الانتقال .

ب - السؤال المتعلق بالاستلهام من التجارب الدستورية الأجنبية :
في اللحظات الدستورية المرتبطة بالانتقال نحوالديمقراطية تتعدد الخيارات الدستورية , المبنية علي تنويعات مبدأ فصل السلطات ( برلمانية معقلنة , برلمانية علي النمط البريطاني , نظام شبه رئاسي علي غرار دستور الجمهورية الخامسة الفرنسي , نظام رئاسي علي النمط الأمريكي ..)(18), وهو ما يعني أن الأسئلة الدستورية المتعلقة بالانتقال نحوالديمقراطية يتم التفكير فيها من قبل الفاعلين من منظور مقارن , وفي كثير من الأحيان بمساعدة واقتراحات أجنبية , يمكن في هذا الصدد استحضار تجارب بعض القانونيين الأمريكيين مثلا في إقناع الوزير الأول البلغاري وعدد من المسؤولين الرسميين البلغار بجدوي اعتماد النموذج الأمريكي للنظام الرئاسي (19). كما عرفت جميع بلدان أوروبا الوسطي والشرقية , بعد تفكك الأنظمة الكليانية , منافسة قوية بين القانونيين الأمريكيين والفرنسيين والألمان , في ' تسويق ' تجارب بلدانهم الدستورية بوصفها نماذج (20).
ولذا فإن سؤال الاستلهام من تجارب دستورية أجنبية يعبر عن وضعية صعبة , تستدعي التحكيم والبحث عن توازنات بين خيارات متعددة :

يمكن للقوي السياسية المستفيدة من السياق السلطوي أو الكلياني السابق أن تتذرع بحجة الخصوصية من أجل عرقلة الترسيم الدستوري لمجمل المكاسب الديمقراطية التي تم الحصول عليها في المرحلة الانتقالية (21), وهنا يمكن تصور هذا السيناريو لو تبني ممثلو الحركة الوطنية الفرانكاوية موقفا مضادا للمسار الانتقالي , في حين أن ذلك لم يحدث , بل إن الغرف 'Lescorts س التي كانت تشكل الهيئات التمثيلية في العهد الفرانكاوي صادقت علي القانون الأساسي للإصلاحات السياسية , الذي سيلغي هذه الغرف نفسها (22).
غير أن هذه الحالة التي تقبل فيها النخب السياسية للفترة السلطوية أو الكليانية السابقة بالانخراط في سياق الانتقال نحو الديمقراطية , لا تحدث بشكل دائم , ففي صربيا مثلا , تم استعمال حجج ترتكز علي الخصوصية الوطنية من أجل إنتاج شكل جديد من السلطوية 'Neo-authoritarianism س خلال فترة حكم ميلوزوفيتش .

وبالمقابل فإن تملك 'Ownership س وتثبيت 'Consolidation س مكتسبات الانتقال , يفترض توفر المشرع الدستوري علي درجة من الابتكار والقدرة علي تقديم حلول ملائمة لمشاكل خاصة بالدولة المعنية , وهكذا لأن تعدد المكونات الثقافية والإقليمية والطابع الخاص لبناء الدولة في إسبانيا أدي إلي ابتكار نظام من الجهوية الموسعة لفائدة الجماعات المستقلة 'LesCommunautsAutonomes سالمنصوص عليها في الباب الثامن من دستور 1978 والمخصص للتنظيم الترابي للدولة ( المواد 137 إلي 158)(23).
بالنظر لصعوبة إيجاد شكل من التوازن الدقيق بين توفير حيز من إمكانيات الابتكار علي المستوي الدستوري والحيلولة في نفس الوقت دون استعمال حجة الخصوصية من قبل القوي المحافظة للعودة إلي سياقات ما قبل الانتقال الديموقراطي , فإن جزءا من مضامين الدستور غالبا ما يتوفر علي حماية خاصة , يتعلق الأمر بنوع من الثوابت المبنية والمتوافق بشأنها خلال المرحلة الانتقالية , والتي تتطلب حماية دستورية خاصة .

من زاوية الهندسة الدستورية يمكن حماية هذه الثوابت بتقنيات متعددة , فالدستور الإسباني مثلا يميز بين نمطين من التعديلات الدستورية , إذ أن المقتضيات الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية المتضمنة في الباب الافتتاحي لا سيما الفصل الثاني منه ( المواد من 15 إلي 29) وكذا المواد المتضمنة في الباب الثاني ( التاج ), يعتبر أي اقتراح لتعديلها بمثابة مقترح تعديل لمجموع الدستور , ومن ثم تتطلب اجراءات خاصة ومعقدة لتعديلها ترتكز علي المصادقة المزدوجة لكل من الكورتيس بوصفه سلطة تأسيسية في هذه الحالة , ثم المصادقة الشعبية بواسطة الاستفتاء (24). في حين أن تعديل باقي المواد يتطلب مصادقة كل من مجلس الشيوخ والغرفة السفلي ( الكورتيس ) بأغلبيات تتراوح بين ثلاثة أخماس والثلثين حسب الحالات , ولا يتم إجراء استفتاء بخصوص هذه التعديلات إلا في حالة طلب عشر أعضاء إحدي الغرفتين ذلك (25).
ولذلك يمكن استنتاج أن التطبيع الدستوري 'Constitutionalnormalisation س يمثل أحد التجليات الدستورية للانتقال الديمقراطي , وتبرز مقارنة عدد من الدساتير الانتقالية أن هناك عددا من خطوط القوة التي تميز هذا التطبيع الدستوري , كتقوي الضمانات الدستورية للحقوق والحريات , وتناقص الطابع البرنامجي للدساتير لفائدة الطابع التقني ( خاصة بالنسبة لدول المعسكر الشرقي السابق ) كما يبدومن خلال التحولات التي تطرأ علي الديباجات , ومن المظاهر الأساسية أيضا لهذا التطبيع الدستوري إرساء آليات دستورية متفاوتة التقدم لإعمال مبدأ فصل السلطات بموازاة التأكيد علي المبدأ نفسه (26), واعتماد نظام لمراقبة دستورية القوانين مؤسس علي نظرية لتراتبية القوانين (27).

تتطابق هذه الخطوط الأساسية مع ما يمكن تسميته بـ ' النواة المعيارية الصلبة ' التي تتضمنها مختلف دساتير الأنظمة الديمقراطية , وهي النواة التي حددها 'GeorgeVedel س (28) مكوناتها كما يلي :
* وجود دستور واحترامه

* اقتراع عام حر وحقيقي

* عدم الخلط بين السلطات

* الاعتراف وضمان حقوق وحريات الأفراد والجماعات

* دولة القانون

غير أن بعض الباحثين (29) يعتبرون أن الهندسة الدستورية في سياقات الانتقال , وبالنظر إلي أنها ستقوم بترسيم الاختيارات المؤسساتية التي تم التوصل إليها , يتعين أن تتوفر علي خواص شكلية ومنطقية إضافية كالكتابة , وضمان نوع من الاستدامة عبر اشتراط اجراءات خاصة للتعديل ( عكس قطاع واسع من النظرية الدستورية الاشتراكية التي لم تكن تعترف باختلاف اجراء سن القانون العادي عن إجراء وضع وتعديل الدستور ) والتوفر علي درجة عالية من الدقة , وتأكيد سموالدستور والتلاؤم مع القيم الجديدة المتوافق عليها وتقديم ضمانات كافية في مجال حماية الحقوق والحريات الأساسية بشكل يحول دون تراجع محتمل .

جـ - التوافق والسؤال المتعلق بشكل النظام السياسي :
إن جدلية معقدة تتداخل فيها كل من التوافقات المتوصل إليها بين الفاعلين , والطابع الخاص لمسار الانتقال تبعا لكل دولة , وكذا تعدد النماذج الدستورية الأجنبية المقترحة , أدي في حالة دول أوروبا الشرقية - إلي إنتاج ما سمي بـ ' الدساتير المختلطة '(30).
علي مستوي الاختيارات الدستورية الأساسية تبدو هذه الدساتير المختلطة وكأنها حصيلة لعدم الحسم بين الاختيارين البرلماني أو الرئاسي , بالنظر للطابع الخاص للتوازنات المتوصل إليها في المرحلة الانتقالية , كما يمكن اعتبار هذه الدساتير امتدادا لما يمكن اعتباره ' السابقة الإسبانية ' التي تمثلت في تكييف النموذج الدستوري الألماني مع تجربتها الانتقالية الخاصة للخروج من الفرانكاوية .

وبالنظر للطابع الخاص للتوازنات المشار إليها في الفقرة السابقة , فإن العرض الدستوري المرتكز علي نماذج دستورية مختلطة , هو الذي يتوفر علي فرص أكبر للبقاء من بين الخيارات الدستورية الأخري , يتضح هذا في الحالة البولونية التي عرفت في بداية التسعينيات منافسة بين نماذج دستورية مختلفة , ففي 1991 قدمت الغرفة الثانية 'Upperhouse س التي تتوفر فيها نقابة ' تضامن ' علي الأغلبية مشروعا للدستور الجديد مستلهما من النموذج شبه الرئاسي الفرنسي , في حين أن الغرفة السفلي 'Lowerhouse س التي يتوفر فيها الشيوعيون السابقون علي الأغلبية دافعت عن نموذج برلماني مستلهم من التجربة الألمانية , وقد أدت حصيلة التوازنات بين الغرفتين إلي صدور ما يسمي بـ ' الدستور الصغير ' سنة 1992, ثم دستور دائم سنة 1997 أقرب إلي النموذج الفرنسي الذي شكل أساس العرض الدستوري للغرفة الثانية (31). وهكذا ففي الحالة البولونية يعتبر النسق الدستوري محددا بالتسويات السياسية , أكثر منه مدفوعا بالحرص علي توزانات دستورية , ينبغي التذكير هنا بأن اتفاق المائدة المستديرة 'Theroundtablepact س لسنة 1989 يشكل لحظة انطلاق مسار الانتقال الديمقراطي (32).
إذن يعتبر تحدد السياقات الانتقالية بالتوافق بين مختلف القوي السياسية والاجتماعية أمرا بديهيا , ومن المثير للانتباه أن نجاح الانتقالات نحوالديمقراطية في عدد من التجارب ارتبط باعتماد النظام البرلماني أوفي بعض الحالات بالنظام شبه الرئاسي , سواء في الحالة الإسبانية أو في حالة عدد من دول أوروبا الوسطي والشرقية كبولونيا والمجر مثلا . إن عددا من التبريرات تقدم من أجل تفضيل الخيار البرلماني علي الخيار الرئاسي في مجال تسهيل الانتقال نحو الديمقراطية , من قبيل التذكير بارتباط السلطوية بـ ' الانحراف الرئاسوي Presidentialism', أو أهمية فرص التوافق والحوار , بل وحتي الاستقرار (33) التي يتيحها النظام البرلماني مقارنة بالنظام الرئاسي , وفي مختلف تجارب أمريكا اللاتينية عرفت البرازيل في نهاية الثمانينات نقاشا دستوريا انصب علي انتقاد استيراد النموذج الرئاسي الأمريكي , باعتباره لم يحل دون الانحراف نحو الرئاسوية وإقامة الديكتاتوريات العسكرية في دول أمريكا اللاتينية خلال القرن العشرين وحتي نهاية الثمانينات (34).

بالرغم من ذلك فإن عوامل ثقافية تتعلق بالدور التاريخي لسلطة تنفيذية قوية , خاصة في دول أوروبا الوسطي الشرقية دفعت بعدد من الدول إلي التفضيل المبدئي لصيغة النظام شبه الرئاسي . ففي حالة النظام الدستوري الجديد في روسيا مثلا , غالبا ما يستحضر النموذج الرئاسي الأمريكي لتبرير تركز السلطة المتزايد في يد رئاسة الدولة بشكل يتجاوز إلي حد كبير الصلاحيات الدستورية المخولة للرئيس الأمريكي في النموذج الرئاسي الأصلي , وتكمن مخاطر استراتيجية التبرير هذه التي تنهجها القوي السياسية الداعمة لرئاسة الدولة في روسيا في كونها قد تقود إلي شرعنة 'Legitimisation س الرئاسوية , وربما إنتاج أشكال جديدة من السلطوية (35).
بشكل عام , وفي حالة دول أوروبا الشرقية علي الأقل , تعتبر مخاطر الانزلاق نحو تجارب سلطوية ذات ارتباط باعتماد أنظمة دستورية مستقاة من النموذج الرئاسي , غير أن هذا المعطي ينبغي تدقيقه من خلال مقارنة اختصاصات رئيس الدولة في كل دولة علي حدة , فمن بين حوالي 25 بلدا تشكل حاليا أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي السابق , هناك دول قليلة كالمجر , والتشيك , وسلوفاكيا , وبلغاريا (36) اختارت النظام البرلماني (37). ويمكن من خلال المقارنة بين اختصاصات رئيس الدولة التي تحددها النظم الدستورية لمختلف بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي الأخري أن نلاحظ وجود تمييز أساسي : إذ أن الديموقراطيات الجديدة لأوروبا الشرقية أعطت لمؤسسة الرئيس سلطات أقل مقارنة بالدول المنبثقة عن الاتحاد السوفياتي السابق (38), لكن بالرغم من تفاوت مساحة الاختصاصات الدستورية المخولة لرئيس الدولة تبعا لمختلف دساتير المنطقة , فإن عددا من الدراسات (39) أظهرت أن تأثير رؤساء الدولة في أوروبا الشرقية كفاعلين سياسيين يفوق بكثير تأثير نظرائهم في أوروبا الغربية , ويبدو أن الأمر سيستمر لمدة طويلة , بالنظر للتوازنات المتوصل إليها في الحالة الانتقالية من جهة , وأيضا لعوامل ثقافية من جهة ثانية .

ينعكس الطابع الخاص لتوازنات السياق الانتقالي علي الهندسة الدستورية , وبشكل خاص علي الحلول المعتمدة لتحديد النظام الدستوري , حيث يمكن تقديم بعض ' الصيغ المختلطة ' التي اعتمدتها بعض دساتير دول أوروبا الشرقية , ويمكن أن نفترض أن هناك عددا من محاور الهندسة الدستورية التي تظهر فيها خصائص الصياغة المختلطة أكثر من غيرها كالعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية , وضعية واختصاصات رئيس الدولة , وخاصة العلاقة بين قطبي السلطة التنفيذية ( رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء أو الوزير الأول ).

* الحالة البلغارية :
يمكن اعتبار الدستور البلغاري لعام 1991 بمثابة توليفة 'Combination س بين نماذج دستورية أصلية متعددة , فالمادة 84( فقرة 6) من هذا الدستور تعطي للجمعية الوطنية اختصاص انتخاب وإقالة الوزير الأول , وكذا اقتراح مجلس الوزراء , كما يمكن للجمعية الوطنية أن تقوم بإجراء تعديلات علي تركيبة الحكومة باقتراح من الوزير الأول . وهنا يبدوأن اختصاصات الجمعية الوطنية بهذا الصدد تذكر بقوة بنظام الجمعية rgimed'assemble.
بالمقابل يحيل الدستور البلغاري علي عدد من مظاهر العقلنة البرلمانية حيث يعود حق المبادرة التشريعية إلي كل نائب وإلي مجلس الوزراء ( المادة 87 فقرة 1), كما أن مشروع القانون حول الميزانية يصاغ ويعرض من قبل مجلس الوزراء ( المادة 87 فقرة 2).

وفيما يبدوأنه مقتبس من النموذج شبه الرئاسي الفرنسي ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر لمدة 5 سنوات ( المادة 93 فقرة 1), لمدة ولايتين علي الأكثر ( المادة 95), كما يبدو أن طريقة انتخاب رئيس الجمهورية تمنحه شرعية قوية 'Legitimacy س خاصة ما يتعلق بمتطلبات مشاركة الناخبين , فحسب المادة 93( فقرة 3) ينتخب من حصل علي أكثر من نصف الأصوات المعبر عنها إذا شارك في الانتخابات أكثر من نصف الناخبين , مع إمكانية إجراء دورتين .
في نفس السياق يملك رئيس الجمهورية اختصاصات قوية نسبيا ناتجة منطقيا عن انتخابه بالاقتراع المباشر , حيث يملك مثلا صلاحية تعيين وإقالة موظفي الدولة ( المادة 98 فقرة 7), وقيادة القوات المسلحة ( المادة 100), وإمكانية قراءة طلب قراءة ثانية من الجمعية الوطنية ( المادة 101 فقرة 1) مع توفره علي إمكانية التقدم بمبادرة تعديل الدستور ( المادة 154 فقرة 1).

بالمقابل , فإن رئيس مجلس الوزراء لديه نوع من الاستقلالية إزاء الرئيس ( المواد من 108 إلي 115) ويحتفظ بعلاقة متوازنة مع الجمعية الوطنية , وفي هذه النقطة الأخيرة يبدوأن الدستور البلغاري متأثر بإحدي الحلول الأساسية المعتمدة في النموذج الأصلي للنظام البرلماني .

* الحالة البولندية :
في دستور جمهورية بولندا عام 1997, وبالرغم من كون الرئيس ينتخب بالاقتراع العام المباشر ( المادة 127), ورغم أن الرئيس لديه عدد من الصلاحيات , منها إمكانية طلب القراءة الثانية ( المادة 122 فقرة 5), فإن سلطات الرئيس تبقي أقل مقارنة بنظرائه في بلغاريا أورومانيا مثلا , كما يبدوأن المشرع الدستوري حرص علي نوع من التوازن بين قطبي السلطة التنفيذية ( رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء ) فالمادة 146 من الدستور تنص علي أن مجلس الوزراء هوالذي يسير السياسة الداخلية والخارجية للجمهورية , وإذا كان بإمكان الرئيس أن يحضر جلسات مجلس الوزراء ويترأسها , فإن مجلس الوزراء يأخذ اسما آخر هو 'Conseildecabinet س ( المادة 141) ويفقد اختصاصات مجلس الوزراء , وبعبارة أخري فإن حضور رئيس الجمهورية وترؤسه لمجلس الوزراء أمر ممكن , لكنه يجعل المجلس مجرد هيئة استشارية , إذ أن الصبغة التقريرية للمجلس ترتبط بترؤسه من قبل رئيس مجلس الوزراء .
رغم ذلك فإن عددا من الباحثين (40), يعتبرون أن تداخل الاختصاصات بين قطبي السلطة التنفيذية ( الرئيس والوزير الأول ) هوبمثابة اختلال في التوازن بدأ منذ فترة ' الدستور المؤقت ' لعام 1992 واستمر بعد المصادقة علي الدستور الدائم لعام 1997, ويبدو أن اختلال التوازن هذا هو أحد المظاهر النموذجية للايقين 'Uncertainty س وهشاشة التسويات التي تميز المرحلة الانتقالية .

* الحالة الرومانية :
حسب دستور حمهورية رومانيا 1991 كما عدل بتاريخ 31 أكتوبر 2003, ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام المباشر ( المادة 81), لكن علي عكس الحالة البولندية يمكن لرئيس الجمهورية المشاركة في جلسات الحكومة التي يتم فيها تداول القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية , الدفاع وحماية النظام العام ( المادة 87), كما أنه يترأس جلسات الحكومة التي يشارك فيها علاوة علي هذا المعطي , يمكن استحضار مؤشر آخر علي قوة الوضع الدستوري للرئيس الروماني , ما دام يقوم بالتعيين في الوظائف العمومية حسب الشروط المحددة قانونا ( المادة 94). بالمقابل فإن علاقة البرلمان والحكومة ( المواد 111 إلي 115) تحيل علي نوع من البرلمانية المعقلنة .
يمكن استنتاج أن دساتير الانتقال الديموقراطي في دول أوروبا الشرقية تتسم بسلطة تنفيذية قوية , مع اختلال التوازن بين قطبي السلطة التنفيذية لصالح رئيس الدولة (41), مع استثناءات قليلة كالنموذج المجري باستقراره وبالقرب من النموذج الدستوري الألماني , حيث إن الرئيس المنتخب من طرف الجمعية الوطنية ( وليس عن طريق الاقتراع العام المباشر ) ليست لديه صلاحيات وبمعني آخر يمتلك اختصاصات محدودة لا يحتاج فيها إلي التوقيع بالعطف من قبل الوزير الأول ( تمثيل الدولة , إجراء انتخابات , المشاركة في دورات الجمعية الوطنية , المبادرة بالاستفتاء )(42).

كما أن الربط الميكانيكي بين النظام الرئاسي ومخاطر الانزلاق السلطوي أوالعودة لسياقات ما قبل الديمقراطية لا يبدو متسما بالدقة , ففي الحالة البولندية ورغم التعديل الدستوري عام 2001 والذي أرسي نظاما برلمانيا , فإن صعود الحزب الشيوعي بعد انتخابات 2001 حمل مخاطر جدية للانحراف السلطوي (43). فالواقع أن هذه المخاطر ترتبط بنوعية القوي السياسية الحائزة علي الأغلبية أكثر من الخصائص الذاتية 'Intrinsic س لشكل النظام السياسي , فتعثر سياق الانتقال نحوالديمقراطية في مولدافيا تزامنت مع عودة الحزب الشيوعي بعد انتخابات فبراير 2001, قبل حصول التغييرات الحالية (44).

(II) بعض ' الحلول الدستورية ' الخاصة بالسياقات الانتقالية :
تتيح المقارنة بين الحالات موضوع الدراسة , وخاصة الحالات المتعلقة بدول أوربا الشرقية , أن هناك قواسم مشتركة للحلول الدستورية المعتمدة لتدبير السياقات الانتقالية . ذلك أن هذه الحلول تشكل إجابة من بين إجابات أخري - عن الانتظارات والأسئلة التي تتخذ طابعا خاصا في السياق الانتقالي والتي سبقت الإشارة إليها في القسم الأول من هذه الدراسة . وهكذا تتضمن الحلول الدستورية المعتمدة لتدبير السياق الانتقالي عددا من المراحل يجب تحقيقها .

1- إعادة تحديد العلاقة بدولة القانون :
تستلزم الهندسة الدستورية المواكبة للانتقالات نحو الديمقراطية , إعادة تحديد العلاقة بدولة القانون وإعادة الربط بين وجود نظام قانوني تراتبي وبين محتوي ديموقراطي - ليبرالي واضح , وهي العلاقة التي تم تفكيكها سابقا في الأنظمة السلطوية , حيث عرفت هذه الأنظمة وجود نظام قانوني شكلاني 'Formalist س ووضعي 'Positivist س (45) دون أن يحتوي معايير الديمقراطية الليبرالية أويقدم ضمانة لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية . ذلك أن النظام الدستوري والقانوني السابق في دول أوربا الشرقية , كان يضع تراتبية المعايير في إطار مبدأ ' الشرعية الاشتراكية Socialistlegality'(46).
وهكذا ستتم إعادة تأويل مفهوم دولة القانون , فعلاوة علي تراتبية المعايير 'Hierarchyofnorms س , سيحيل المفهوم في الانتقال نحوالديمقراطية بشكل واضح علي الديمقراطية الليبرالية وعلي حقوق الإنسان , كما سيستخدم علي نطاق واسع من قبل الفاعلين السياسيين في نقد النظام الدستوري والقانوني للدولة الكليانية والسلطوية (47).

إن عددا من الصيغ الدستورية تكرس هذا التحول : فالمادة الأولي من الدستور الروسي المصدق عليه باستفتاء تنص علي أن فيديرالية روسيا ' دولة ديمقراطية , فيديرالية , دولة قانون , وشكل الحكم فيها جمهوري '(48) أما المادة 4 من الدستور البلغاري فتنص علي أن جمهورية بلغاريا دولة قانون , في حين تربط المادة 2 من دستور جمهورية بولندا السالف الاشارة إليه بشكل واضح بين مفهوم دولة القانون والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بالصيغة التالية :' جمهورية بولندا دولة قانون تقوم بإعمال مبدأ مبادئ العدالة الاجتماعية ', وشبه هذه الصيغة توجد في المادة 1 من دستور جمهورية رومانيا التي تنص علي أن ' رومانيا دولة قانون ديموقراطية واجتماعية '.
يمكن إذن تقديم اقتراح يتمثل في أن لإعادة تحديد العلاقة بمفهوم دولة القانون وإعطائه مضمونا ليبراليا ديموقراطيا واضحا عددا من الانعكاسات علي مستوي اقتراب الصياغة الدستورية للدول التي تعيش انتقالا نحوالديمقراطية , مع الصياغة الدستورية لعدد من الأنظمة الدستورية الأسبق تاريخيا من جهة , وعلي مستوي دور القضاء الدستوري (49) الذي لن يقوم فقط بدور ضمان الحقوق والحريات الأساسية وإنما ستناط به أيضا ' وظيفة ضمنية ' تتمثل في حماية التسويات التي تم التوصل إليها في المرحلة الانتقالية .

2- بعض مظاهر التطبيع الدستوري :
تبرز دساتير الانتقال الديموقراطي مظاهر مشتركة لما يمكن تسميته ' تطبيعا دستوريا ConstitutionalNormalisation' أي الاتجاه نحوالتلاؤم مع الخصائص الأساسية للأنظمة الدستورية الديمقراطية ذات الأسبقية التاريخية , ويمكن ملاحظة هذا التطبيع بصفة أوضح في الجوانب التي كانت تشكل في السابق مجال ' خصوصية واختلاف ' النظريات الدستورية الاشتراكية عن النظريات الدستورية الديمقراطية الليبرالية : يتعلق الأمر بشكل خاص بتأكيد الارتباط بالقيم الكونية وتأكيد مبدأ سموالاتفاقيات , وكذا فك الارتباط بين الحزب الوحيد والدولة الذي يواكب الانتقال إلي الديمقراطية التمثيلية .

أ - الارتباط بالقيم الكونية وسموالاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان : تشترك عدد من دساتير الانتقال الديموقراطي في الحالات التي هي موضوع المقارنة في هذا البحث في التكريس الدستوري للقيم الكونية في ديباجاتها , وهوما يشكل قطيعة مع الوظيفة القيمية السابقة للديباجات في الدساتير الاشتراكية ذات الطابع البرنامجي 'Programmatic س بالأساس حيث كانت الديباجة مخصصة للتذكير بالمبادئ الأساسية للإيديولوجيا الرسمية للدولة . فالدستور البلغاري الحالي لسنة 1991 يعلن ' الوفاء للقيم الكونية : الحرية , السلم , الإنسية 'Humanism س , المساواة , الإنصاف والتسامح ' كما تعتبر الديباجة حقوق الفرد وكرامته وأمنه بمثابة المبدأ الأعلي , كما أنه علي غرار الدساتير الأخري سيكرس دستوريا الانتقال ' الاقتصادي ' نحواقتصاد السوق حيث تنص المادة 19( فقرة 1) علي أن ' اقتصاد جمهورية بلغاريا مؤسس علي حرية المبادرة الاقتصادية ', لكن بالنظر إلي ' الحلول الوسطي ' التي يتم التوصل إليها في السياقات الانتقالية فإن الصياغة الدستورية للخيارات الاقتصادية المتفق عليها تحاول الجمع بين الترسيم الدستوري لاقتصاد السوق , والإعلان عن نوع من حماية ' المكاسب الاجتماعية ', مثال ذلك الصيغة التي يحدد بها الدستور البولوني لسنة 1997 طبيعة النظام الاقتصادي , إذ أن المادة 20 منه تصف أساس النظام الاقتصادي بكونه ' اقتصادا اجتماعيا للسوق يرتكز علي حرية النشاط الاقتصادي , الملكية الخاصة , التضامن , الحوار والتعاون بين الشركاء الاجتماعيين '.

في مجال الإعلان الدستوري عن الحقوق والحريات الأساسية , تتسم دساتير الانتقال نحو الديمقراطية في الحالات موضوع الدراسة بطابع تراكمي , بحيث تتضمن متونها تنصيصا علي ' الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان ' بما في ذلك الحقوق المدنية , السياسية , الاقتصادية , الاجتماعية , الثقافية , وفي بعض الأحيان الحق في بيئة سليمة , فالباب الثاني من الدستور البلغاري لسنة 1991 والمعنون ' حقوق وواجبات المواطنين ' ينص في مختلف فصوله ( من 25 إلي 61) علي ' مجال من الحقوق والحريات الأساسية ' يبدأ من الحقوق المدنية والسياسية إلي الحق في بيئة سليمة , وهو نفس الخيار المعتمد في الدستور الروماني لسنة 1991(50) الذي يضم مجالا مشابها من الحقوق في الباب الثاني المعنون ' الحقوق , الحريات والواجبات الأساسية '( من الفصل 15 إلي 53). يمكن اقتراح عدة تفسيرات متكاملة لذلك أبسطها أن دساتير الانتقال نحو الديمقراطية تعتبر أحدث منتجات الموجات التاريخية للدسترة 'Constitutionnalisation س , كما يمكن اعتبار ذلك محاولة لاستدراك ' تأخر تاريخي ' في المجال الحقوقي بفعل السياقات الكليانية والسلطوية هذا دون نسيان تأثير المشروطية السياسية 'PoliticalConditionality س الممارسة من قبل الاتحاد الأوروبي علي دول منخرطة آنذاك في مسلسل الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي , ويمكن أيضا قراءة هذا التنصيص الدستوري علي ' الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان ' بوصفه استجابة لانتظارات أوسع فئات المجتمع التي ساهمت في مسار تفكيك الأنظمة الكليانية في أوروبا الوسطي والشرقية أواخر الثمانينات . بالرغم من تكامل اقتراحات التفسير هذه , فإن ما يمنح نوعا من القوة لهذا التفسير الأخير هو الحيز الذي تحتله الفصول المتعلقة بحماية الحقوق والحريات الأساسية من مجموع النص الدستوري , فالباب الثاني من الدستور البولندي المعنون ' حريات , حقوق وواجبات الإنسان والمواطن ' يضم حوالي 51 فصلا ( من الفصل 30 إلي 81) أي نسبة 25% من مجموع متن الدستور .
أحد المظاهر الأساسية للتطبيع الدستوري تتمثل في ملاءمة القوانين الداخلية مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية , في هذا المجال تتفق الدساتير موضوع الدراسة علي الاعتراف الدستوري بأولوية الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان علي القانون الداخلي سواء علي مستوي التطبيق أو التأويل . فالفقرة 1 من المادة 20 من الدستور الروماني لسنة 1991 تنص علي أن ' المقتضيات الدستورية الخاصة بحقوق وحريات المواطنين سيتم تأويلها وتطبيقها بتلاؤم مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومع الاتفاقيات والمعاهدات التي تعتبر رومانيا طرفا فيها ' في حين تؤكد الفقرة الثانية من نفس المادة علي أولوية المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان علي القانون الداخلي '. وفي صيغة مشابهة تنص المادة 5( الفقرة 4) من الدستور البلغاري لسنة 1991 علي أن ' الاتفاقيات الدولية , المصادق عليها , المنشورة والداخلة حيز التنفيذ في جمهورية بلغاريا , تعتبر جزءا من القانون الداخلي للدولة ولديها الأولوية علي التشريع الداخلي في حالة تنازعهما '.

ب - فك الارتباط بين الحزب والدولة والانتقال نحوالديمقراطية التمثيلية : من النتائج السياسية المباشرة لمسار تفكيك الأنظمة السلطوية والكليانية , تفكيك العلاقة العضوية بين الحزب الوحيد والدولة , يعتبر الأمر أبعد من مجرد تكريس دستوري للتعددية السياسية بوصفها أحد مكونات النواة الصلبة 'Hardcore س للنظام الديموقراطي , إذ يعبر فك الارتباط هذا علي تحول عميق وأساسي في طبيعة الدولة , حيث انتقلت في حالة دول أوروبا الشرقية مثلا من التمثيل الحصريس Exclusive س لطبقة البروليتاريا إلي تمثيل جسم سياسي يسمي أمة 'Nation س مكون من فئات اجتماعية وسياسية ذات مصالح متعارضة . وهوما يفترض حسب النظرية السياسية والدستورية الديمقراطية الليبرالية ' حياد الدولة '. بهذا المعني يمكن فهم التنصيص الدستوري علي فك الارتباط بين الحزب والدولة , حيث تمنع المادة 11( فقرة 1) من دستور الجمهورية البلغارية لسنة 1991 إعلان حزب أو إيديولوجيا ما بوصفهما حزبا أو إيديولوجيا للدولة . وعلي ضوء نفس المنطق أيضا يمكن إدراك التنصيص المتوازي في الدستور البولندي في الفصل 13 علي التعددية الحزبية مع منع تأسيس الأحزاب السياسية والتنظيمات ' التي تلجأ في برامجها إلي المناهج والممارسات الكليانية للنازية والفاشستية والشيوعية ', باعتبار أن المشاريع السياسية المؤسسة علي الإيديولوجيات الثلاث المشار تقوم بالتمثيل الحصري لطبقة أو عرق .

يعتبر الانتقال إلي الديمقراطية التمثيلية إحدي أهم مظاهر ' التطبيع الدستوري ', ذلك أن تفضيل ' النظرية الدستورية الاشتراكية ' لمبدأ السيادة الشعبية , وخاصة للصيغة التي ابتكرها جان جاك روسو أدي منطقيا إلي اعتماد صيغ أقرب إلي الديمقراطية المباشرة , بما في ذلك اعتماد الوكالة الأمرية 'ImperativeMandate س حيث يتلقي المنتخب تعليمات مباشرة من الناخبين عكس الوكالة التمثيلية 'RepresentativeMandate س التي تشكل أساس التمثيل في أغلب الديمقراطيات الليبرالية , لذا ألغت دساتير الانتقال نحوالديمقراطية في أوروبا الوسطي والشرقية الوكالة الأمرية بنص دستوري صريح , فالفصل 69 من الدستور الروماني ألغي الوكالة الأمرية , كما أن هناك صيغا أكثر تفصيلا لإلغاء الوكالة الأمرية حيث إن الفصل 104 من الدستور البولندي ينص علي أن ' النواب هم ممثلوالأمة , وهم لا يخضعون لتعليمات الناخبين ', وفي نفس السياق نص الفصل 67( فقرة 1) من الدستور البلغاري علي بطلان الوكالة الأمرية , مع التأكيد علي كون النواب لا يمثلون ناخبيهم وإنما الشعب بأكمله .
وإذن لا يتعلق الأمر بمجرد استبدال تقنية للتمثيل , وإنما يدل إلغاء الوكالة الأمرية علي تحول أساسي في الوحدة الأساسية للتمثيل السياسي التي أصبحت الأمة عوض الطبقة .

أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري , جامعة محمد الخامس - الرباط , المغرب

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا