إن ما ذهبت إليه بعض المقتضيات الدستورية يدل على القوة الدستورية لحمولة مفهوم القاضي، و لنأخذ على ذلك مثالا مما جاء في الفصل 67 من الدستور، التي تنص على عمل لجان تقصي الحقائق، حيث جاء في الفصل المذكور ما يلي : « للوزراء أن يحضروا جلسات كلا المجلسين واجتماعات لجانهما، ويمكنهم أن يستعينوا بمندوبين يعينونهم لهذا الغرض، علاوة على اللجان الدائمة المشار إليها في الفقرة السابقة، يجوز أن تشكل بمبادرة من الملك، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب، أو ثلث أعضاء مجلس المستشارين، لجان نيابية لتقصي الحقائق، يُناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة، أو بتدبير المصالح أو المؤسسات والمقاولات العمومية، وإطلاع المجلس الذي شكلها على نتائج أعمالها.
لا يجوز تقصي الحقائق في ملفات أمام القضاء
ولا يجوز تكوين لجان لتقصي الحقائق، في وقائع تكون موضوع متابعات قضائية، ما دامت هذه المتابعات جارية، وتنتهي مهمة كل لجنة لتقصي الحقائق، سبق تكوينها، فور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي اقتضت تشكيلها. لجان تقصي الحقائق مؤقتة بطبيعتها، وتنتهي أعمالها بإيداع تقريرها لدى مكتب المجلس المعني، وعند الاقتضاء، بإحالته على القضاء من قبل رئيس هذا المجلس، وتخصص جلسة عمومية داخل المجلس المعني لمناقشة تقارير لجان تقصي الحقائق . يحدد قانون تنظيمي طريقة تسيير هذه اللجان. «
فمن خلال هذا الفصل يتبين لنا أن المشرع قصر عمل لجان تقضي الحقائق بمجرد وضع القضاء يده على الوقائع موضوع تقصي الحقائق، وهو ما يعني أن المشرع استعمل لفظ القضاء للدلالة على القضاء الواقف وكذا على القضاء الجالس، ولم يفرق بينهما ، لأن العبرة بالسلطة التي وضعت يدها على الوقائع موضوع التحقيق أهي السلطة التشريعية أو السلطة القضائية . و من ثمة يتضح أن المشرع الدستوري استعمل لفظ القاضي بدلالة واحدة لا تفريق و لاتمييز فيها بين قضاة الحكم و قضاة النيابة العامة.
و لعل إرادة المشرع الدستوري الرامية إلى عدم التمييز بين الأفراد العاملين بكل من قضاء الحكم و قضاء النيابة العامة ، يكمن في طريقة تعيينهم إذ أنه بموجب الفصل 57 من الدستور و الذي ينص على أنه : يوافق الملك بظهير على تعيين القضاة من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية « إذ أن المستفاد من هذا المقتضى هو أن المسار المهني للقضاة يبتدئ واحدا، و لا فرق بين قضاة طرفي السلطة القضائية ، وهو الأمر نفسه بالنسبة لتدبير الوضعية الفردية و المسار المهني للقضاة من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، فكل لفظة في الدستور جاءت في هذا الخصوص إنما تدل على دلالة واحدة ألا و هي اتحاد صفة القاضي في كل من القضاة العاملين بالنيابة العامة أو الذين يعتلون منصة الحكم .
انطلاقا مما ذكر يتبين بما لا يدع مجالا للشك بأن إرادة المشرع الدستوري اتجهت إلى جعل الأفراد العاملين بالسلطة القضائية بشقيها قضاة بالمفهوم المتعارف عليه دوليا و كما تعبر عن ذلك العهود والاتفاقيات الدولية ، ولعل تفسير ذلك يرجع إلى استحضار اللجنة المكلفة بوضع مسودة الدستور للخطاب الملكي السامي الذي دعا إلى دسترة الالتزامات الدولية للمغرب والتي من بينها ما يتعلق بالقضاء والسلطة القضائية .
فالموقف المتقدم جدا للإرادة الدستورية العليا ، يجب أن يتم الاحتفاظ به عند صياغة المقتضيات القانونية المتعلقة بالسلطة القضائية مهما كانت طبيعتها و قوتها الإلزامية . وهو الأمر الذي يظهر بوضوح وجود الإرادة السياسية الحقيقية لدى الدولة المغربية من أجل الرقي بالسلطة القضائية بشقيها قضاء النيابة العامة و قضاء الحكم إلى مصاف السلطة القضائية المستقلة . لكن رغم هذه الإشارات التي أشرنا إليها على سبيل المثال في هذا المقام للدلالة على وحدة صفة القاضي ، فإن المشرع الدستوري ترك عبارة عامة تحتاج للتداول فيها ألا و هي عبارة « السلطة التي يتبعون لها « فما المقصود بهذه السلطة و ما هي أثار دلالاتها المحتملة؟ هذا ما سنتطرق له في الفقرة الموالية .
المفهوم العام ل « السلطة التي يتبعون لها « كمؤشر على التأويل الديمقراطي
إن المقاربة المعتمدة في تبيان معنى و مفهوم عبارة : « السلطة التي يتبعون لها « التي أوردها المشرع الدستوري في فصلين هما 110 و 116 من الدستور ، يجب أن تكون مقاربة ديمقراطية أي متصفة بالمواصفات التي تخضع للنطق المولوي الذي جاء بالخطاب الملكي الذي ألقاه جلالته لمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية التاسعة بتاريخ 12 أكتوبر 2012 و الذي جاء فيه بالحرف : « أما الإصلاح القضائي ، فاعتبارا لبعده الإستراتيجي ، فإنه يتعين ، فيما يرجع إلى مهمة البرلمان ، اعتماد القوانين التنظيمية الخاصة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، والنظام الأساسي للقضاة . وهنا نود ، مجددا أن ندعوكم إلى الالتزام الدقيق بروح ومنطوق مقتضيات الدستور المتعلقة بالسلطة القضائية ، كما نحث الهيئة العليا للحوار حول إصلاح المنظومة القضائية ، على أن تجعل من استقلاليته الحجر الأساس ضمن توصياتها. « فالمقاربة الظاهرة و الباطنة أو الالتزام الدقيق بروح و مضمون مقتضيات الدستور تقتضي إعطاء التفسير الذي ينسجم و الاستقلال المطلق للسلطة القضائية ، سواء قضاء الحكم أو قضاء النيابة العامة . و من ثم نجد أن أهم ما يجب إثارة الانتباه إليه هو كيف يمكن قراءة عبارة :» السلطة التي يتبعون لها « ؟ هل يجب قراءتها على أنها توجه نحو إبقاء النيابة العامة تابعة لسلطة وزير العدل و الحريات أم أن إيراد تلك العبارة بذلك الشكل جاء من أجل ترك المجال للتداول في الشكل الذي يتعين أن تكون عليه السلطة التي ستتبع لها النيابة العامة و التي ليست هي وزارة العدل و الحريات ؟
إن ما يمكن الترجيح به هو ما اتجهت إليه الإرادة الملكية الواردة في الخطاب الذي قدم به جلالته مسودة الدستور بتاريخ 17 يونيو 2011 و الذي جاء فيه : « ... كما تم إحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، كمؤسسة دستورية يرأسها الملك ، لتحل محل المجلس الأعلى للقضاء ، وتمكينها من الاستقلال الإداري والمالي، وتخويل رئيس محكمة النقض ، مهام الرئيس المنتدب ، بدل وزير العدل حاليا، تجسيدا لفصل السلط « ؛ فمن خلال هذا الخطاب يتضح بأن المقاربة القائمة على فصل السلطات كانت واضحة جلية عند التنصيص على استبعاد وزير العدل من تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ضمانا لفصل السلط .
بقلم: عبد السلام العيماني, عضو المجلس الأعلى للقضاء وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى