دراسة في القانون: أي إستراتيجية لإصلاح العدالة الجنائية؟
مما لا شك فيه أن مجهود الحكومة اليوم أصبح يميل إلى الاهتمام، أولا بفكرة إصلاح العدالة الجنائية، ليس فقط لأنه مطلب مجتمعي بامتياز،
ولكن أيضا لأنه يلتقي تماما مع ما توافر لدى الفاعلين الحقوقيين من تصور مبدئي لمقاربة موضوع الإصلاح من زاوية مواجهة ظاهرة الجريمة
بمفاهيم متطورة، من شأنها أن تقنع الجميع بأن إشكالية الأمن والاستقرار هي أيضا مسؤولية قضائية. لقد كثر الحديث عن إصلاح جهاز العدالة عموما والعدالة الجنائية على الخصوص، ولا أحد منا ينكر المجهودات التي تبذلها الوزارة المعنية من أجل إخراج منظومتنا القضائية من بعض المشاكل التي تعاني منها، سواء على المستوى البنيوي أو الوظيفي. ومع ذلك تبقى هذه المجهودات على أهميتها، مجرد عملية أولى تمهد لتدشين ورش الإصلاح الحقيقي، الذي بنظرنا المتواضع، لا يتطلب فقط تصحيح بعض المفاهيم وتحريرها، ما قد يحول دون اشتغالها وفق التأويل السليم، ولا حتى اعتماد بعض الآليات الجديدة من أجل تحديث المنظومة المذكورة وجعلها في مستوى مواكبة التطور الذي يعرفه المجال القضائي، بل يستوجب بالأساس ضرورة التفكير فيما ينتظر قضاء المستقبل من تحديات وطنية ودولية كذلك.
وحتى لا نذهب بعيدا في رصد المشاكل المطروحة، يكفي أن نقول وربما نؤكد، على أن أكبر المشاكل التي تواجهها أغلب الدول – بما فيها الأكثر ديمقراطية – الحجم المقلق الذي عليه ظاهرة الجريمة، وكثيرا ما تم إرجاع تفاقم هذه الأخيرة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى الثقافية التي تعاني منها بعض الدول، وباعتقادنا يكفي استحضار الطبيعة المنظمة التي أصبحت عليها ظاهرة الجريمة والمستوى المعقد الذي أصبحت تعرفه طرق إنجازها والفضاءات الأكثر ديمقراطية التي بدأت تفضل أن تحيا فيها، ليتوفر لدينا المبرر الموضوعي للتشكيك في المعطيات التي تربط بين تخلف الدولة و تنامي ظاهرة الجريمة.
صحيح أن مستويات الإجرام، طبيعته و طرق إنجازه، تختلف بحسب تقدم الدولة ومدى قدرتها على توفير معطيات العيش الضرورية للحد من إكراهات التناقضات الاجتماعية. إلا أن صعوبة ضبط آليات العيش داخل المجتمع المنظم، كانت وستبقى الحقيقة الدالة على وجود هامش من الاختلال، لابد وأن تحيا فيه ظاهرة الجريمة على الأقل باعتبارها ظاهرة اجتماعية تفرض وبشكل دائم ضرورة الانتباه إليها، بل و تكريس واجب الترقب لمستويات تطورها خصوصا بعدما أصبحت لا تعرف حدودا وطنية و أخطارها بدأت تهدد المجتمع الدولي في كل مكوناته.
ومن دون الدخول في تفاصيل هذه الإشكالية المعقدة والمتمثلة في ما أصبحت تحمله ظاهرة الجريمة من بعد دولي، نفضل أن نلتزم بفكرة إصلاح العدالة الجنائية أو بشكل مبسط جدا طرح التساؤلات التالية:
أولا: من أين تبدأ فكرة الإصلاح؟
ثانيا: ما هي الأهداف المتوخاة منه؟
ثالثا: كيف يمكن تصوره على مستوى البنية و الوظائف؟
من أين تبدأ فكرة الإصلاح؟
لا بد من الاعتراف بداية، بأن المشكل الأساسي الذي يواجه العدالة الجنائية، النوعية الخاصة التي تتميز بها القضايا المعروضة عليها. فبغض النظر عن كثرتها وتنامي الوتيرة التي تتزايد بها، فهي تعكس أيضا – وهذا الجانب لا يطرح كثيرا – مستوى معينا من الاختلال المجتمعي، الذي بنظرنا لا يرجع فقط إلى اتساع هامش التمرد على القيم التي ينبغي أن يقوم عليها التعايش الاجتماعي، ولكن يمكن أن يعزى كذلك، وعلى الخصوص، إلى الصعوبة التي تواجهها العدالة الجنائية في امتصاص هذا التمرد، حيث ظلت الآليات الموضوعة بيد العدالة المذكورة غير قادرة على مواجهة كل تجليات الظاهرة الإجرامية، فبالأحرى احتوائها والخروج بيسر من تفكيك تعقيداتها المتعددة، الأمر الذي أدى بالتالي إلى تصادم شبه تام بين الرغبة في استئصال الظاهرة المذكورة والخطاب الزجري المخصص لذلك.
وبنظرنا المتواضع، فكرة الإصلاح ينبغي أن تنطلق من حل هذا الإشكال وذلك بتنويع الخطاب الزجري وتدريج سلوك منطق القسوة فيه بكل الدقة التي تتطلب وفي نفس الآن البحث عن تكثير فرص إعادة الإدماج من دون إغفال منطق الردع الذي ينسجم وبكل موضوعية، مع خطورة الإجرام المنظم.
وهنا لا بد أن نؤكد على مدى فعالية الدور البيداغوجي الذي ينبغي أن تلعبه القاعدة الجنائية على المستوى العقابي، حتى تصبح هذه الأخيرة آلية لها من التأثير ما يكفي لتوعية المواطن بنماذج السلوك التي يستهدف الخطاب الزجري تكريسها داخل المجتمع، ومن ثم كلما كان المشرع واعيا بهذا الدور وباحثا عن أهم الصيغ المساعدة على توفيره، كلما نجح في النفاذ إلى عمق الظاهرة الإجرامية، وهو ما يعتبر بنظرنا بداية مشجعة على احتوائها وبخاصة الحد من إعادة انتشارها.
إصلاح النظام العقابي، لا يمكن أن يكون مجديا من دون إعادة النظر في موضوع المصالح المجتمعية واجبة الحماية جنائيا. ومن دون الادعاء أننا ننوي هنا وضع قائمة حصرية للمصالح المذكورة، لا بد من الاعتراف بأن الأسلوب الذي سلكته التشريعات الجنائية، غالبا ما هيمن عليه الطابع الاحتوائي – أي غير الانتقائي – لكل ما من شأنه أن يمس بالقيم والضوابط التي تميز النظام المجتمعي، بل وإلى هنا تتجه ملاحظتنا، حاولت التشريعات المذكورة وبمنطق حمائي مشروع، أن تؤسس توجهها الاحتوائي على مفاهيم جد موسعة وصيغ أكثر عمومية، الشيء الذي أثقل الخطاب الزجري بكثير من التأويلات لم يتمكن القضاء من الخروج بشأنها بتطبيقات حاسمة، وهو ما ندعو إلى تفاديه على الأقل للحفاظ لتقنيات التجريم على هامش الاختيار النوعي لمواجهة الإجرام المنظم.
من أجل ذلك نقترح أولا الرجوع بتقنيات التجريم إلى الضوابط المتحكمة فيها وبالأساس الاحتكام إلى منهجية الدقة والوضوح في الصياغة، ولعلها الحكمة المتوخاة من إقرار مبدأ الشرعية الذي لا يمانع حسب اعتقادنا المتواضع، من إعادة النظر في التقنيات المعتمدة كلما أصبحت غير مستجيبة للتطور النوعي الذي تعرفه ظاهرة الجريمة وباستمرار.
ثم لا بد من التأكيد ثانيا، على أن انطلاق فكرة الإصلاح الحقيقي تستوجب إعادة النظر كذلك في تحديد القيم والضوابط التي يقوم عليها النظام المجتمعي، صحيح أن الكثير منها ليس مثار جدل، بل أصبح أمر التأكيد عليها يحوز أهمية قصوى، خصوصا ما يرجع منها إلى حماية الدولة، نظامها وأمنها ومؤسساتها، و إن كنا هنا نطالب بتكريس الخطاب الزجري في الاتجاه، الذي يدفع إلى توعية المواطن بأن الحفاظ على الأمن والاستقرار واجب وطني ومطلب حضاري يعمق فكرة الانتماء ويمتن أسس التعايش الاجتماعي. إلا أنه مازال على التشريعات الجنائية الوطنية أن تبذل مجهودا إضافيا، ليس فقط لتحقيق نوع من الانسجام مع الضوابط والمعايير الدولية، ولكن أيضا وعلى وجه الخصوص، من أجل تمكين تقنيات التجريم من الانفتاح على واقع الظاهرة الإجرامية واحتواء تجلياتها الحقيقية في إطار سياسة جنائية توفق وبحكمة تشريعية بين الاستجابة لردود الفعل المجتمعية الحقيقية التي تتطلب تدخلا حاسما على مستوى التجريم والعقاب وبين مجرد استثمار الخطاب الزجري في الاتجاه الذي يجعل منه ضابطا مؤصلا لنماذج السلوك الواجبة الاتباع، ولعل غياب هذه السياسة التوفيقية عن تقنيات التجريم الخاصة هو الذي ساهم في توسيع الهوة بين الرغبة في استئصال الظاهرة الإجرامية وتصاعد وتيرتها من حيث الواقع.
بقلم:د. فريد السموني, أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بالمحمدية
نشر في الصباح المغربية الجمعة, 08 فبراير 2013 10:42
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى