دولة القانون والمؤسسات
د.عمار قربي-
ربما كانت المؤسسية ودولة القانون من أهم معايير الانتماء إلى العصر الحديث .
صحيح أن المؤسسات قديمة قدم المجتمع البشري، ولكن تحول الدولة نفسها إلى مؤسسة من المؤسسات، أي انفصال سلطتها عن شخص الحاكم، واكتساب هذه السلطة لطابع قانوني لا شخصي، هو إنجاز كبير لهذه العصور الحديثة. ولهذا تتبوأ مؤسسة الدولة في عصرنا الحاضر مكانة سامية.
إن أكثر ما يميز الدولة الحديثة عن الدولة القديمة هو أنها دولة قانون، بينما ليس للدولة القديمة من مرجع سوى شخص حاكمها.
من هذا المنطلق – تحديدا - تبدو الدول العربية دولا تعاني بقدر يكبر أو يصغر من الفوات التاريخي، فهي مازالت اقرب إلى دولة القوة منها إلى الدولة الشرعية، وأقرب إلى دولة القبيلة والحزب الواحد، منها إلى دولة المؤسسات. وهي اقرب إلى دولة الأشخاص، منها إلى دولة الدستور. وأخيرا وليس آخرا حتى على الصعيد الإداري والقضائي نجد أن الدول العربية اقرب إلى دولة الولاء الشخصي، منها إلى دولة الموضوعية القانونية. وبدلا من أن يكون الدستور في الدول العربية سابقا على شخص الحاكم، فإنه لا يزال في غالبية الأحوال يتبعه كظله، ويرتهن بإرادته، وغالبا ما يزول بزواله، أو وفاته.
والدولة التي لا تلتزم على أعلى مستوياتها بالمبدأ المؤسساتي لا يمكن أن تفرض تطبيقه حتى على المستويات الدنيا، وهذا هو السبب الرئيس للفساد الإداري، و القضائي في الدول العربية.
إن الدولة الحديثة تقوم على مبدأ تساوي المواطنين جميعا في الحقوق والواجبات أمام القانون، وفيما بينهم مجتمعين مع الحكام، على اعتبار أن المفروض بالحكام في دولة المؤسسات أنهم أناس عاديون، يخضعون للقانون خضوع سائر المواطنين له. أما في دولنا العربية فتفتقد العلاقات الطابع الموضوعي المؤسسي، وتقوم على عصبيات تتناقض مع مبدأ المساواة أمام القانون في الدول الحديثة، ويصبح المتحكم فيها - بدلا من المساواة - العلاقات الشخصية والعائلية والقبلية والسلالية والتحزبية.
إن موضوع الدولة كرست له في الغرب العديد من الدراسات والأبحاث الجادة، بهدف تحليل طبيعة مؤسسة الدولة عبر التاريخ القديم والحديث، بغية الوصول إلى قوانين عامة تفسر وجود مؤسسة الدولة كضرورة اجتماعية، وكحارس للمصالح الاجتماعية والطبقية، وكانت نتيجة هذه الأبحاث ببساطة: الاتفاق على أن مؤسسة الدولة ضرورة للتقدم والتطور الإنسانيين، وهنا يبدأ الجدل حول العلاقة بين الدولة والطبقة المسيطرة اقتصاديا، وهل الدولة هي فعلا أداة للطبقة المسيطرة اقتصاديا ؟ وإذا كانت كذلك فهل تسيطر الدولة بالقمع الجسدي المباشر أم أنها تحتاج إلى نوع من (التقبل الاجتماعي) من خلال الخدمات العامة التي تؤديها إلى مواطنيها، ومن خلال السيطرة الأيديولوجية على كافة نشاطات المجتمع ؟ وهل هناك - فعلا - إمكانية لتحول مؤسسة الدولة من مفهوم الحارس لمصالح الطبقة المسيطرة اقتصاديا، إلى دولة كلّ الطبقات المشكلة للمجتمع ؟ وفي هذا الإطار أيضا هل يمكن التمييز بين سلطة الدولة – السياسية – وبين مؤسسات الدولة ؟.
إن فقدان الدولة المؤسسية هو من أبرز سمات الحياة المجتمعية العربية، وفي هذا الإطار يجب التفريق بين السلطة من جهة، والدولة من جهة أخرى، نحن في الوطن العربي لدينا سلطات أو جماعات تمارس السلطة، ولديها الجهاز العسكري والقمعي لكي تمارس هذه السلطة، لكن هذه الممارسة لا تعني أبدا أن الدولة موجودة، إن الدولة كمؤسسة لها وظائف معينة في حياة المجتمع، غير وظيفة القمع، إن الدولة العربية لم تكتف بممارسة القمع المادي المباشر فقط، بل تمارس القمع الفكري الإيديولوجي الذي تحتكر وسائله من صحافة وتلفزة وإذاعة، إضافة إلى المؤسسات التربوية والتعليمية....وهذا القمع قد يكون أهم من القمع المادي، لأن ردود الفعل على هذا القمع ظاهرة مجسمة، بينما مناهضة الهيمنة الأيديولوجية تصبح من الصعوبة بمكان، في ظل وعي سياسي واجتماعي محدود لدى أكثر الناس. إن انعدام الوعي لدى الفئات الاجتماعية المضطهدة حال دون ظهور أي رد فعل مجسم ضد هذا الاضطهاد.
إن الدول العربية أخذت من مؤسسات الدول الحديثة مظاهرها فقط، إضافة إلى استعمالها بشكل منحرف، مما أدى إلى تقوية أصحاب السلطة في المجتمع، بينما المطلوب تأمين ضوابط عدم استعمال السلطة بشكل مؤذ وعشوائي على المواطنين، فالدولة عندنا وسيلة لفرض المزيد من الاستعباد، بينما - في الحقيقة - الدولة هي تحرير المواطن من الاستعباد
إن التقاليد الموجودة في المجتمعات العربية هي تقاليد سلطوية عميقة الجذور، ترجع إلى أيام الجاهلية، في الهيكلية القبلية الموجودة عند العرب – وربما لازالت موجودة حتى اليوم – فالحاضر ما هو إلا تراكم للماضي. وفي هذا السياق نرى نزول الأديان السماوية التي أتت لتحرر الإنسان من وطأة السلطة المطلقة النابعة من القبيلة والعائلة، بحيث يصبح الإنسان حرا يمارس مسؤوليته الشخصية بحرية، وليحيا حياته الاجتماعية حسب معتقده الشخصي، لا حسب تقاليد القبيلة والعائلة.
ثم أتت المبادئ الديمقراطية لتكمل مع الأديان تحميل الفرد - بصفته الشخصية - مسؤولية إدارة شؤونه، والمساهمة في حياة المجتمع. ونشأت الدولة بشكلها المؤسسي الحديث الديمقراطي، والتي بدورها خلقت ضوابط داخل المجتمع لمنع تسلط فئات اجتماعية معينة على مقاليد الحياة الاجتماعية، وهذا هو مفهوم الدولة الحديثة، أي دولة "المجتمع المدني "الذي لا يكون الفرد فيه عبدا لروابط عائلية، أو قبلية، أو سلطوية معينة تنبع من إقليمية ما، أو من مصدر طائفي. "المجتمع المدني" إذن هو الغاية التي يجب أن تحميها الدولة الحديثة.
إن إشكالية وجود الدولة في المجتمع العربي معقدة للغاية، ولها جوانب متعددة، فحتى الآن لا توجد دولة واحدة يتفق عليها الجميع، فالبعض يراها دولة الأمة الإسلامية، والبعض يراها دولة الأمة العربية، والآخر يراها دولة الكيانات القطرية...، وتعود هذه الإشكالية إلى اختلاف عميق بين تقاليد العالم العربي وتقاليد العالم الغربي، وهو اختلاف ينبع من حقيقتين:
أولا" : إن الفكر السياسي الغربي يختلف عن الفكر السياسي العربي من حيث أن الأول لم يجاوز كونه عملية ضبط للسلطة في تعسفها إزاء المواطن، ونلاحظ أن كل الفكر السياسي الغربي تمحور حول قضية منع الدولة من الاعتداء على المواطن ، وكيفية جعل الدولة ممارسة لسلطاتها دون الجور على المواطن. فتاريخيا ومن أيام العصر الروماني نرى أن الرومان أدركوا أن التعدد يمنع الانفراد بالسلطة ، وبالتالي يمنع التعسف، ولهذا أعطوا صلاحيات واسعة - نوعا ما - لما يسمّى بمجلس النبلاء آنذاك، أيضا اليونانيون القدماء أدخلوا مفهوم القانون إلى مجتمعهم، وحققوا "المجتمع المدني" من خلال تطويره عمليا، وكانوا سباقين في تحقيق "المجتمع المدني" عن طريق إنشاء "القانون المدني"، بعدها جاء مونتسيكو ليقول بثلاث سلطات، سلطة تنفيذية، وسلطة تشريعية، وسلطة قضائية، انطلاقا من مبدأ أن السلطة توقف السلطة، وهناك قول له:"كل من له سلطة يميل إلى إساءة استعمال السلطة". فهو يعتبر أنّ إساءة استعمال السلطة سمة عامة في طبيعة الإنسان البشرية، ومن هذا المنظار لا يمكن أن نتصور دولة أو نظام حكم لا يتسلط فيه أحد على أحد آخر، لذا تنبع الحاجة إلى إيجاد نظام دولة يقف إلى أقصى حد من تسلط الحاكمين على المجتمع ، بحيث تكون وظيفة الدولة هي إنشاء ضوابط على سلطة الحاكم. أيضا لا ننسى الثورة الفرنسية والثورات الماركسية، ورغم كل ما ارتكب بعهدهم من استبداد باسم قيم التحرر، إنما كان هناك حس ديمقراطي يتمثل بأن الإنسان بكيانه الشخصي له قيمة بحد ذاته، ويجب أن يستقل عن تسلط الحاكم...كل هذا أسس لما نشاهده الآن من مبدأ "سيادة الدستور".
أما العالم العربي فلم يعرف هذا المبدأ لأسباب يطول شرحها، و أما السلطة في الفكر العربي فكانت، ولازالت، تعني "الهيبة "أو "السيادة ". ومن هنا نرى أن صاحب السلطة هو صاحب السيادة، فننادي الحاكم بسيادة الرئيس، كل هذا يعني أن الإنسان في المجتمع العربي لا وجود له كفرد، و لا حماية له كشخص بشكل مستقل عن الدولة " العربية "، لذا بسهل علينا تفسير عدم وجود معارضات منظمة بشكل جماعي في تاريخنا العربي لأن المعارضة - كتنظيم - لم تقبلها ، ولم تعرفها - أصلا"-النظم السياسية العربية *.
ثانيا" : إن تاريخ الدولة في الوطن العربي يختلف عن تاريخ الدولة في العالم الغربي، فتاريخ الدولة في الأول هو تاريخ الطبقة الحاكمة ، أما تاريخ الدولة في الثاني فهو تاريخ المجتمع المحكوم .
إن الدولة في العالم الغربي هي شخص معنوي، و بهذا المفهوم المجرد نضع أيدينا على أسّ الفكر الغربي
أما تراث الدولة في وطننا العربي فهو تراث "السلاطين"، والقواعد التي تأسست عليها الدولة العربية كانت - في معظمها - هي "الأحكام السلطانية" التي تحكم بمقتضى الحاكم، وتؤسس حكمه، وتضمن رفاهيته دون اعتبار كبير لحقوق الرعية، أو مصالحها، ودون أن تسمح بوجود أي مؤسسات أخرى تصون هذه الحقوق وتدافع عنها ولذلك فالدولة عندنا تتبع لشخص الحاكم، لأن دولتنا ليست حقيقة مجردة.
يقرّر ابن خلدون ثلاثة أنواع للحكم:
( 1- نظام "الملك الطبيعي " الذي يناسب العمران البدوي ، ويبنى على القهر والتغلب، وتكون الأحكام فيه جائرة، لأنها تمثل أغراض الحاكم وشهواته.
2- نظام " الملك السياسي" الذي يحمل الناس على مقتضى مصلحة الحاكم و رفاهيته، ودوام ملكه حتى وإن شاب هذا الحكم بعض العدل في الرعية.
3- النظام الثالث والأخير هو نظام "الخلافة". وهو أرقى تصور يطرحه الفلاسفة المسلمون، وأكثرها مثالية وتعاليا على المصالح الدنيوية للحاكم والمحكومين على حد سواء، إنه النظام الشرعي الذي يحمل الجميع حكاما ومحكومين مسؤوليات على أساس مصالحهم، في الآخرة كما حدّدها الشر ع الإلهي.).
هذه النماذج الثلاثة كانت تتراوح وتمتزج عبر تاريخنا الإسلامي، ولكن حقيقة في معظم الفترات كان النظام الذي يعتمد مصلحة السلطان، والذي تأسس في كثير من الأحيان على المذهبية القبلية أو العرقية، كان هو النظام الغالب، أما النظام الأمثل فللأسف لم يستمر سوى فترة الخلافة الراشدة، ولفترة قصيرة جدا في عهد عمر بن عبد العزيز.
أيضا يجب علينا أن نميز بين نظام الخلافة و الدولة التي تطبق الشر ع، فالدولة الأموية أو العباسية مثلا كانت تطبق الشر ع وتحرص على إقامة الحدود الشرعية، ولكن هذا لم يمنع الفقهاء من جهة ،والمؤرخين من جهة أخرى من اعتبارها دولة جائرة وظالمة، بل ومغتصبة للحكم ، يجب التمييز إذاً بين التطبيق الشكلي أو المظهري للشر ع، و نظام الخلافة الذي يتوخى مضمون الشرع وتعاضده، فالدولة "الشرعية**" كانت تستخدم الشرع لتثبت حكمها، وتطلب الطاعة من الرعية ، وتقمع المعارضين إن وجدوا .
أخيرا": إن المثقفين العرب مسؤولون بشكل كبير عن هذا التقصير، حيث لم يكن لهم دور فاعل في هذه القضايا، فهم - في معظم الأحيان- أقرب إلى "فقهاء السلطان" منهم إلى المفكرين الأحرار المستقلين ،حيث كان كل همهم التبرير لتقلد السلطة، ومن ثم تبرير كل تصرفاتها وسلوكها مهما كان، أو السكوت عنها، وهو أضعف الإيمان. لذلك كانوا أعواناً "للسلطة الاستبدادية"، صحيح إن الكواكبي اهتم بقضية الحريات العامة، وبمكافحة الاستبداد إلا أن أغلب المفكرين من بعده ركزوا جهودهم على محاربة الاستعمار، ولم يعطوا قضية الحريات العامة أهميتها الموضوعية.
إن أزمة الحرية والديمقراطية وإقامة ما يسمى بالمجتمع المدني هي أزمة تاريخنا، ومهمتنا اليوم إيجاد البدائل لكل ما هو مطروح، ولكل ما هو أحادي، يجب أن نغير التصورات المعلبة والقوالب الذهنية الجاهزة، وإذا كنا نطالب بالحوار مع أعدائنا، فالأولى أن نتحاور فيما بيننا. فلم تعد الديمقراطية ترفا يهم المثقفين، أو سلعة نستوردها من الخارج، بل هي ضرورة حيوية لخروج الأمة من عنق الزجاجة، وهي السبيل لاستعادة النظم الحاكمة شرعيتها، ومصداقيتها، وهي السبيل لاستعادة الإنسان العربي لدوره وكرامته وعزته بعد أن فقدها.
* عندما أتكلم عن الفكر العربي أو عن تاريخ الدولة عند العرب فأنا أستثني فترة الخلافة الراشدة حيث كانت القيم الإسلامية الناظمة للمجتمع آنذاك تحمي المواطن من تسلط شخص الحاكم وتعسف السلطة .
** المقصود هنا بالدولة الشرعية، الدولة التي تدعي أنها تطبق الشرع ولا علاقة لها بالمفهوم الشرعي الديمقراطي الذي يعبر عن انسجام النظام الممثل للدولة مع اتجاه التطور التاريخي للمجتمع وتمثيله للقوى الاجتماعية الأوسع بطرق انتخابية ديمقراطية.
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى