تنطلق هذه الدراسه القانونية من إعتقاد راسخ بأن الحق في التقاضي وتمكين الفقراء من ممارسة هذا الحق بل وتيسير ذلك عليهم يمثل خطوة أولية علي طريق التمكين الاقتصادي والاجتماعي للفقراء في مصر.
لذلك تري الدراسة أن حصول الفقراء علي حقوقهم الاقتصادية يمر عبرممارسة حق التقاضي إلي جانب حقوق العمل وإقامة الاعمال وتسجيل الملكية العقارية.
وترصد الدراسة ــ التي جاءت كإحدي الاوراق البحثية في مؤتمر التمكين القانوني للفقراء في مصر والذي نظمه المركز المصري للدراسات الاقتصادية مؤخرا ــ عددا من المعوقات الماليه والادارية والتشريعية التي قد تحول دون ممارسة الفقراء لحق التقاضي.
هنا عرض لهذه الدراسة الهامة.
عبر الامتداد الألفي لتاريخ الدولة المصرية,كان إرسال العدل عبر كفالة حق المواطن في التقاضي, الركيزة الاهم في مفهوم الدولة كما فهمه المصريون منذ أكثر من أربعه الآف عام, وكما تفهمه اليوم شعوب العالم المتمدين باعتباره سمت دولة القانون.لقد حافظت مصر عبرتاريخها الطويل, وعلي امتداد الحضارات الفرعونية والإغريقية والرومانية والإسلامية التي اعتركتها, علي كفالة الحق في التقاضي بوصفه أقدس التزامات الدولة تجاه مواطنيها, وأعز بنود العقد الاجتماعي الذي يربط المواطن ببلده أوثق رباط, فلا مراء في أهمية أن يشعر الإنسان بالثقة في أنه حالة أن يعتدي علي حقوقه أو تنتهك حرماته, سوف يجد سبيلا إلي ساحة قضاء عادل ناجز, يصل به إلي حقه, ويصون به حريته من أقصر طريق, وفي أسرع وقت, وبأقل التكاليف.
إن السبيل الوحيد لحماية الحقوق والحريات, هو ضمان وجود وفاعلية سلطة قضائية تسهر عليها, تتكامل مع السلطة التشريعية, حيث لايكفي أن تصدر تلك الاخيرة قوانين تقرر الحماية,بل لابد من قاض يضمن تطبيق القانون, ومن ثم يحقق فاعلية تلك الحماية, فنصوص القانون تظل صامتة جامدة حتي يتدخل القاضي لتقرير المعاني الصحيحة التي أراد القانون التعبير عنها. والاحكام التي يصدرها القضاء وتحوز قوة الأمر المقضي, تنال قوة الحقيقة القانونية, فتستفيد من قرينة المطابقة مع كلمة القانون, ولذا صح القول بإن القضاء ركن في قانونية النظام السياسي, وبأنه لا قانون بغير حق اللجوء إلي القضاء لان كفالة الحق في التقاضي هو السبيل الوحيد لممارسة القاضي لأقدس مهامه بوصفه الحارس الطبيعي للحقوق والحريات, والتي تعد حمايتها هي غاية النظام القانوني.
أزمه التقاضي
إن كفالة الحق في التقاضي تستلزم مفترضات ثلاثة الأول: يعني بتوفير السبل للوصول إلي ساحة القضاء, دون أن يعترض ذلك الوصول أية عوائق مادية قانونية, الثاني يركز علي كفالة محاكمة عادلة يصل الاطراف في نهايتها الي حل منصف, الذي وإن لم يحقق العدل, فإنه يمثل علي الاقل التسوية التي يقبل بها المتخاصمون بوصفها الترضية القضائية لما تعرضت له حقوقهم أوحرياتهم. الثالث: يتهم بالحق في تنفيذ أحكام القضاء, وهو وإن كان يبدو للوهلة الأولي خارجا عن نطاق الحق في التقاضي, إلاأنه وكما أكدت المحكمة الدستورية العليا, يمثل مفترضا هاما من مفترضات كفالة حق التقاضي ذلك أن كل عقبة تحول دون اقتضاء الحق المقضي به, تعتبر اخلالا بالحق في التقاضي, وبالتالي اخلالا بالضمان القضائي.
أمام تلك المفترضات النظرية, يفصح تأمل الواقع العملي المعاصر في شأن كفالة حق المواطن المصري في اللجوء إلي القضاء عن حقيقة أليمة, تنطق بما يتعرض له هذا الحق من أزمة حقيقية, تتسع طولا لتشمل كل أجنحة النظام القضائي مدنيا كان أم جنائيا أم إداريا وتمتد عمقا لتؤثر علي كل فئات المتقاضين غنيهم وفقيرهم,ضعيفهم وقويهم,رجالهم ونسائهم, لترسم صورة قائمة لما يمكن أن يطلق عليه أزمة العدالة في مصر.
في مواجهة أزمة حقيقية تشهد بها أعداد الخصومات التي تنظرها المحاكم, وتنطق بها المدد التي يستغرقها الوصول إلي حكم نهائي, وتقرها النسب المعلنة لتنفيذ الاحكام المقضي بها, يبدو تصور طرح ورقة للنقاش ترصد الاسباب, وتقترح الحلول لأزمة ممارسة حق التقاضي في مفترضاته الثلاثة أمرا مستحيلا, لذا فإننا سوف نعني فقط بالتركيز علي إشكاليات المفترضين الأول والثاني, تاركين إشكاليات إجراءات المحاكمة المنصفة, لعمل أخر إدراكا لحقيقة أن مواجهة تلك الإشكاليات تقترض بداءة أن تصل إلي حلول حقيقية لما قد يواجهه المواطن حتي يصل إلي ساحة القضاء, وما يعوقه بعد أن يخرج بحكم نهائي عن الوصول إلي حقه الذي هو غاية اختياره اللجوء الي تلك الساحة.
ماهية الحق في التقاضي
العدل اسم من أسماء الله الحسني, وصفة من صفاته سبحانه وتعالي, ومنها العدالة كفضيلة شرعها الله لعباده وأمرهم عليها دون تمييز بين أبيض وأسود, رجل وإمرأة, مسلم وغير مسلم. والقسط شعار الديانات السماوية جميعا وشريعة النبيين أجمعين, يقول تعالي في سورة الحديد: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز
إن إقامة العدل وتحقيق القسط هو الركيزة الاهم لأي تنظيم اجتماعي. ومن هنا كان حق المواطن علي الدولة في أن تيسر إقامة العدل بين الناس, فالعدل أساس نشأتها وشرط بقائها, ومن هنا أيضا كان واجب الدولة في كفالة حق التقاضي.
بين إقامة الحق, والحكم بالهوي, ترددت البشرية منذ بدء الخليقة وحتي يومنا هذا بين منطقين لاثالث لهما, إما أن يضبط سلوك الناس قضاء وإما أن تقمعهم قوة ــ وفي مقام الاختيار بين المنطقين ورد في المذكرة الايضاحية لقانون استقلال القضاء أوليس من حق الناس أن يطمئنوا إلي أن كل ماهو عزيز عليهم يجد من كفالة القضاء أمنع حمي وأعز ملجأ ؟ أوليس من حق الضعيف إذا ناله ضيم أو حاق به ظلم أن يطمئن إلي أنه أمام القضاء قوي بحقه, عزيز بنفسه مهما كان خصمه قويا بماله أو نفوذه أو سلطانه؟فمن الحق أن يتساوي أمام قدس القضاء أصغر شخص في الدولة بأكبر حاكم فيها, وأن ترعي الجميع عين العدالة.
لقد حرصت المواثيق الدولية والدساتير في مختلف دول العالم, ومنها مصر علي إقرار حق التقاضي باعتباره من أهم الحقوق العامة للمواطنين, وتلقي المواد أرقام(40),(64),(65),(68),(165),(166) من الدستور المصري الدائم لعام1971, علي هدف واحد هو تأكيد قدسية التقاضي وضماناته, وعلي أهمية احترام سيادة القانون واستقلال القضاء التزاما بحكمة الاجداد إذ قالوا أن: العدل أساس الملك وباعتبار أن سيادة القانون وكفالة حق التقاضي وجهان لعملة واحدة.
ولعل نص المادة(68) يمثل حجر الزواية في هذا الخصوص,حيث تنص علي أن التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة,وأن لكل مواطن حق الالتجاء إلي قاضيه الطبيعي,وأن الدولة تكفل تقريب جهات القضاء من المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا.
لقد ساهمت محكمتنا الدستورية العليا بالعشرات من الاحكام الجليلة في تفسير حق التقاضي وفق ماورد في الدستور, ويمثل حكمها الصادر في3 من أبريل لعام1993 حكما شارحا بوضوح لمفهوم المحكمة للحق الدستوري في التقاضي,حيث قضي الحكم بأن التقاضي يتكون من ثلاث حلقات:
الاولي: تمكين كل متقاض من النفاذ إلي القضاء نفاذا ميسرا لاتثقله أعباء مالية.
الثانية: حيدة المحكمة واستقلالها وحصانتها.
الثالثة: وجوب أن توفر الدولة للخصومة حلا منصفا يمثل التسوية التي يعمد من يطلبها إلي الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التي يسعي إليها.
وفي جميع الاحوال لايجوز إنكار الحق في الترضية القضائية سواء بمنعها ابتداء أو بإقامة العراقيل في درجه اقتضائها أو بتقديمها متباطئة متراخية دون مسوغ أو بإحاطتها بقواعد إجرائية تكون معيبة في ذاتها, فلا يجوز أن يكون طريق الطعن القضائي لرد الامور إلي نصابها ممتنعا أو غير منتج.
وقد أسهت محكمتنا العليا في شرح مضمون ومدلول وأثار فهمها للضمانة الدستورية الحامية لكل حلقة من تلك الحلقات الثلاث, وفيما يلي بيان بأهم ماقررته من مبادئ في خصوص كل حلقة.
الحلقة الأولي: الحق علي قدم المساواة في النفاذ الميسر إلي القضاء.
وقد قررت المحكمة في هذا الخصوص العديد من المبادئ التي يأتي علي رأسها إقرارها بأن الناس لايتمايزون فيما بينهم في مجال حقهم في اللجوء إلي قاضيهم الطبيعي وتحكمهم قواعد محددة في مجال التداعي أو الدفاع أو استئداها أو الطعن في الاحكام الصادرة بشأنهم وإقرارها حظر النص في القوانين علي تحصين أي عمل أو قرار من رقابة القضاء, واعتبارها مصادرة حق التقاضي إنكارا للد ولة في أخص مقوماتها ونكولا عن خضوع الدولة للقانون وتأكيدها علي أن إرهاق المشروع للمتقاضين بقيود تعسر الحصول عليها أو تحول دونها, مثل إخلالا بالحماية التي كفلها الدستور لهذا الحق, وإنكارا لحقائق العدل في جوهر ملاحها.
الحلقة الثانية: استقلال القضاء وحيدته ضمانان لحق التقاضي إدراكا لاستبعادنا مقتضيات التنظيم القضائي الواجب لكفالة محاكمة منصفة من نطاق البحث في هذه الورقة, فلن نتعرض هنا لما أسهبت فيه محكمتنا الدستورية في هذا الخصوص, فقط نكتفي بإيراد ما ضمنته احد ـ أحكامها من شرح لأسباب اعتبار ضمان استقلال القضاء وحيدته حلقه وسطي في حلقات الحق في التقاضي, وفي معرض بيان ذلك أوردت المحكمة قولها بإن:
متي كان الالتزام الملقي علي عاتق الدولة وفقا لنص المادة68 من الدستور يقتضيها تمكين كل متقاض من النفاذ إلي القضاء نفاذا ميسرا لا تثقله أعباء مالية, ولا تحول دونه عوائق إجرائية, وكان هذا النفاذ ــ بما يعنيه من حق كل فرد في اللجوء إلي القضاء, وأن أبوابه المختلفة غير موصدة في وجه من يلوذ بها, وأن الطريق إليها معبدا قانونا ــ لايعدو أن يكون حلقة في حق التقاضي تكملها حلقتان أخريان لايستقيم بدونهما هذا الحق, ولايكتمل وجوده في غيبة إحداهما, ذلك أن قيام الحق في النفاذ إلي القضاء لايدل بذاته ولزوما علي أن الفصل في الحقوق التي تقام الدعوي لطلبها موكول إلي أيد أمينة عليها تتوافر لديها ــ ووفقا للنظم المعمول بها أمامها ــ كل ضمانة تقتضيها إدارة العدالة إدارة فعالة, بما مؤداه أن الحلقة الوسطي في حق التقاضي هي تلك تعكس حيدة المحكمة واستقلالها وحصانة أعضائها, والأسس الموضوعية لضماناته العملية, وهي بذلك تكفل بتكاملها المقاييس المعاصرة التي توفر لكل شخص حقا متكافئا مع غيره, في محاكمة منصفه وعلنية تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة ينشئها القانون, تتولي الفصل ــ خلال مدة معقولة ــ في حقوقه والتزاماته المدينة
أو في التهم الجنائية الموجه إليه, ويتمكن في كنفها من عرض دعواه وتحقيق دفاعه ومواجهة أدلة خصومه ردا وتعقيبا في إطار الفرص المتكافئة, وبمراعاة أن تشكيل المحكمة,وأسس تنظيمها, وطبيعة القواعد الموضوعية والاجرائية المعمول بها في نطاقها, وكيفية تطبيقها من الناحية العملية هي التي تحدد لتلك الحلقة الوسطي ملامحها الرئيسية.
الحلقة الثالثة: تقريب جهات التقاضي وعدم جواز وضع عوائق إجرائية أو مالية وضمان تنفيذ الاحكام.
وهنا أيضا تتعدد الاحكام, وهو أمر طبيعي, حيث يمثل نص المادة(68) واحدا من أكثر النصوص التي تداوم المحكمة الدستورية العليا الاستناد إليه, لكفالة رقابتها الدستورية. وسوف نكتفي بإيراد أهم ماقررته المحكمة من مبادئ في هذا الخصوص:
تقريب جهات القضاء من المتقاضين يتوخي ضمان حماية أكثر فاعليه لحق التقاضي, وقد سببت المحكمة لذلك مقررة أن تقريب جهات القضاء من المتقاضين يتوخي ضمان حماية أكثر فاعلية لحق التقاضي تقديرا بان إرهاق هذا الحق لاينحصر في القيود التي يفرضها المشرع عليه للحد من مداه, وإنما يتسع لاوضاع عملية يندرج تحتها أن تكون جهات القضاء بعيدة مواقعها عن من يلتمسون الطريق إليها, فلا يباشرون حق التقاضي دون مشاق تتضاءل بسببها أو تندثر فرص الإفادة من المزايا التي يتيحها.
وفي مجال إزالة العوائق الإجرائية فقد قررت المحكمة بأن مؤدي حق التقاضي المنصوص عليه في المادة68 من الدستور ــ وعلي مااستقر عليه قضاء هذه المحكمة ــ أن مجرد النفاذ إلي القضاء لايعتبر كافيا لصون الحقوق التي تستمد وجودها من النصوص القانونية, بل يتعين دوما أن يقترن هذا النفاذ بإزالة العوائق التي تحول دون تسوية الاوضاع الناشئة من العدوان عليها, وبوجه خاص مايتخذ منها صورة الاشكال الاجرائية, كي توفر الدولة للخصومة في نهاية مطافها حلا منصفا يقوم علي حيدة المحكمة واستقلالها, ويعكس بمضمونه التسوية التي يعمد الخصم إلي الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التي يطلبها.
أما في مجال ضرورة ألا تؤدي الاعباء المالية إلي تعطيل أصل الحق فقد أكدت المحكمة علي عدم جواز أن يكون النفاذ إلي القضاء محملا بأعباء مالية أو إجرائية تقيد أو تعطل أصل الحق فيه, ولا يكون منظما بنصوص قانونية ترهق الطريق إليه, وتجعل من التداعي مخاطرة لاتؤمن عواقبها, متضمنا تكلفة تفتقر إلي سببها, نائيا عما يعتبر إنصافا في مجال إيصال الحقوق إلي أصحابها أو مفتقرا إلي الضوابط المنطقية التي يحاط اقتضاء الحق بها.
واخيرا تأتي ضرورة اقتران الترضية القضائية بوسائل تنفيذها جبرا باعتبارها أحد أهم مفردات المنظومة المتكاملة للحق في التقاضي, وقد قضت المحكمة في هذا الخصوص بأن: الترضية القضائية التي لاتقترب بوسائل تنفيذها لحمل الملزمين بها علي الرضوخ لها, تغدو وهما وسرابا وتفقد قيمتها عملا, بما يؤول إلي تجريدها من قوة نفاذها, إهدار الحقوق التي كلفتها, وتعطيل دور السلطة القضائية في مجال تأمينها, وإفراغ حق اللجوء إليها من كل مضمون, وهو كذلك تدخل في أخص شئونها, وعدوان علي ولايتها.
عقبات
برغم كل ماكفله الدستور من نصوص تقرر حق التقاضي, وبرغم كل المداد الذي سعي إلي التأكيد علي القيمة الدستورية للمبادئ المتفرعة عن هذا الحق, ومازال غالب الناس يتجنبون القضاء, ويرون في الوسائل البديلة كالصلح والتحكيم, وسائل أنجح لاقتضاء حقوقهم, وحسم نزاعاتهم, يعبر عن تلك القناعة القول المأثور بأن الصلح علي ربع الحق خير من التقاضي عليه كله وهو تعبير عما يحيط بالتقاضي وإجراءاته من عنت ومعاناة, وعن الشكوي من بطء التقاضي من ناحية, ومن تكلفته الباهظة من ناحية أخري, ومن أن الغلبة فيه عادة تكون للمماطل الذي لاحق له وهذا الشعور إذا ما ساد بين الناس كفيل بأن يتهدد واحدا من أقدس الحقوق العامة للإنسان, ذلك أن إقلاع الناس عن ممارسة حقوقهم لايفترق كثيرا عن حرمانهم من ممارستها. وسوف نعرض فيما يلي لاهم عوائق الحق في التقاضي مفرقين بين عوائق النفاذ إلي ساحة القضاء وعوائق تنفيذ الاحكام القضائية.
أولا: معوقات النفاذ إلي ساحة القضاء
يمكن تقسيم تلك المعوقات إلي عدة فئات, تعني الاولي منها بالمعوقات المتعلقة بضعف الوعي القانوني سواء بمضمون الحق أو بطريقة ممارسة وآليات حماية الحقوق. أما الثانية فتتعلق بتعقد وتشابك الخطوات الاجرائية الواجب إتباعها للنفاذ لساحة في ظل تعدد جهات التقاضي, أما الثالثة فترتبط بمعوقات التعامل مع أعوان القضاء وبخاصة قلم الكتاب والمحضرين, وأخيرا تأتي المعلومات المتعلقة بالتكلفة المالية المرتبطة باللجوء إلي القضاء سواء في صورة الرسوم والمصاريف أو في صورة أتعاب المحاماة.
المعوقات المرتبطة بضعف الوعي القانوني
كانت أمور التقاضي قبل عدة عقود بسيطة ميسرة, فقد كان استدعاء الخصوم يتم بغير شكليات, وكان كلام الناس حجة ودليلا, وكان للقاضي سلطانه الشامل علي الدعوي ودوره الفاعل في تسييرها بلا سلبية تقيده ولا شكليات تغل يده. أما الآن فقد صار الأمر معقدا ليس فقط بسبب تعقد الاجراءات وتشعبها وما يلجأ إليه الخصوم ووكلاتهم من حيل أو خدع قانونية, ولكن لان الوعي القانوني للمتقاضين قد صار ضعيفا أو يكاد يكون منعدما, والتأهيل القانوني للمختصين قد أصبح هو الاخر محل نظر ويحتاج إلي وقفة حاسمة, وفيما يلي بيان بأهم أسباب هذا التأخر:
ــ السيل الجارف من التشريعات المتلاحقة التي يعجز أمهر العدائين عن ملاحقتها, والتي غالبا ماتمثل ردود أفعال لاتسعي إلي علاج مشكلة بعينها أو ظاهرة بنوعها ولكن تهدف فقط إلي التعامل مع الألم, مع الظواهر السلبية لثغرة من الثغرات شغلت الانتباه, والغالب أن تغيب عنها النظرة الشاملة, فتفقد من ثم النجانس والترابط وأحيانا تصل إلي حد التعارض وعدم الانسجام وهو سيل جارف من التعديلات الجزئية أو الاضافات التي لم تقتصر علي القوانين الاجرائية فحسب بل شملت القوانين الموضوعية كذلك ــ سيل جارف لم يملك المختصون من رجال القانون( قضاة ومحامون وفقهاء) القدرة علي متابعة ولو في نطاق التخصص فما بالنا بالمتقاضين من غير المتخصصين.
ــ سطوة فكرة التشريعات الخاصة والتعديلات الجزئية علي منهجية التشريع, مما كان له أكبرالاثر في فقدان التشريعات العامة لهويتها والفلسفة الحاكمة لبنودها, فاضحت القواعد القانونية شتاتا لايجمعه منطق واحد, لايستطيع العقل البشري أن يدركه ولو لم يعلم بالفحوي الدقيق لتلك القواعد.
ــ غياب التأهيل القانوني السليم للمختصين من رجال القانون, وهو مايرجع في جزء هام منه إلي ضعف مستوي المقبولين للدراسة القانونية, ولكن يرجع في جزء أهم منه لعدم تطوير مناهج تدريس القانون بالنحو الذي يتواكب مع تطور المجتمع, سواء فيما يتعلق بوسائل وادوات التعليم أو في منهج وطريقة التعليم, وما يجب أن يكتسبه رجل القانون من معارف ومهارات, أو فيما يتعلق بضرورة الربط بين أهداف العملية ومتطلبات العمل القضائي, فالغالب أن المناهج نظرية بحتة, لاعلاقة لها بواقع العمل.
ــ انعدام التوعية القانونية لدي المتعلمين وغير المتعلمين علي السواء, حيث تخلو المناهج الدراسية من أي تمهيد أو إعلام باهم مبادئ القانون, وذلك علي مستوي جميع المراحل الدراسية, حتي أن صاحب المؤهل الجامعي في أحيان كثيرة لايعلم بأي قاعدة قانونية, بل قد يصل الحال إلي حد عدم العلم بمعني كلمة قانون أو دستور أو لائحة. ولاشك الامر يزداد سوءا إذا انتقلنا لغير المنتعلمين أو أنصافهم وإذا تركنا الحضر وتوجهنا إلي الريف يزيد الأمر سوء غياب دور وسائل الاعلام والتثقيف وأحيانا وجود دور سلبي لها بما تبثه من معلومات غير صحيحة وغير دقيقة.
إن خطورة ضعف الوعي القانوني تكمن في أن النظام القانوني يقوم علي قاعدة افتراض العلم بالقانون, وهو افتراض غير قابل لاثبات العكس, فلا يجوز لانسان أن يعتذر بجهله بالقانون. ولما كان المصدر الرئيسي للعلم هو الجريدة الرسمية. وهي جريدة لايتيسر الحصول عليها, ويصعب العثور علي الاعداد القديمة منها, ومفاد ذلك أنه يتعذرعلي المواطن الحريص ــ حتي مع افتراض حصوله علي أعداد الجريدة الرسمية ــ أن يحيط بهذه الالاف المؤلفة من التشريعات أو يستوثق من أن تشريع ما مازال قائما أو تم إلغاءه أو تعديله.
إن حقيقة الجهل المفترض بالقانون وليس العلم به, كما يفترض النظام القانوني تمثل عقبة كؤود في طريق النفاذ إلي ساحة القضاء حيث لا يعلم المواطن بحقه وإذا علم به فلا يعلم وسيلة حمايته واستئدائه, وإذا علم بوسيلة الحماية, فهو يجهل إجراءات استخدام هذه الوسيلة, وهو أمام هذا الجهل عاجز عن أن يصل ساحة القضاء التي يسيطر علي النفاذ إليها الخبراء في استغلال هذا الجهل.
المعوقات المرتبطة بتعقد وتشابك إجراءات النفاذ إلي ساحة القضاء
تنوعت وتعددت وتشابكت إجراءات النفاذ إلي ساحة القضاء بتنوع جهات التقاضي وتعدد أنواع القضايا واختلاف درجات المحاكم, وحتي أصبح القضاة أوالخصوم علي سواء عرضة للخطر, وحتي أصبحت الحيل والخدع القانونية الجانب الاهم في براعة الخصوم ووكلائهم, والمعيار الحاسم في ضمان نتيجة التقاضي قبل أن تصل الدعوي فعلا إلي ساحة القضاء, وقبل أن يتصل القاضي بدعواه, مما جعل صاحب الحق يتردد كثيرا قبل أن يسعي بحقه إلي القضاء طالبا الحماية مهما بدا حقه واضحا وحجته دامغة, إن الاسباب الدافعة إلي هذا التعدد والتشابك عديدة نورد فيما يلي أهمها:
** تقرير إجراءات ومواعيد خاصة بكل نوع من أنواع جهات التقاضي مدنيا وجنائيا وإداريا مع تعدد أنواعه في داخل الجهة الواحدة بين محاكم تجارية وعمالية وأسرة وخلافه, تنظمها قوانين عامة كقانون الاجراءات الجنائية وقانون المرافعات المدنية والتجارية, وقوانين خاصة قد تتضمن بعض التنظيم للجوانب الاجرائية الخاصة بالتقاضي حول الحقوق والدعاوي التي تنظمها, يستحيل علي المتخصص ومن ثم علي المواطن العادي الإلمام بها.
** تنامي ظاهرة القضاء المتخصص, الذي وإن كان الاصل هو أن مناط تميزه يكون بنطاق الموضوعات التي ينظرها, وبتخصص القاضي الذي يفصل في تلك الموضوعات, وأحيانا بالإجراءات الخاصة بنظر المنازلة أو الخصومة, إلاأنه عديدا ما يمتد إلي الاجراءات التي تسمح للمتقاضين بالوصول إليه, يشهد علي ذلك نظام محاكم الاسرة, ومشروع المحاكم الاقتصادية المتخصصة.
** سيطرة الفكر المحافظ علي من حملوا أمانة صياغة أو تعديل القوانين الاجرائية, ذلك أن فقدانهم الثقة في كثير من الاحوال في الاشخاص القائمين علي تلك الاجراءات وتخوفهم الزائد من تلاعب المتقاضين, ورغبتهم في سيطرة القاضي ــ ليس فقط علي مسار الخصومة الدائرة أمامه ـــ بل علي الاجراءات التي أسلست هذه الخصومة إليه, دفعتهم من باب الحرص إلي الاكثار من الاجراءات والامعان في الشكلية والتركيز علي التفصيلات, ومنح أجال ومدد قد تبدو في أحيان كثيرة طويلة نسبيا, بالإضافة إلي فتح الباب علي مصراعيه أمام عدد كبير من الدعاوي والدفوع والطعون التي تجد في إجراءات اتصال المحكمة بالدعوي أحد أهم مواردها التي لاتنضب, فغرقت المحاكم في دفوع البطلان وعدم الاختصاص وعدم جواز السماع وعدم القبول, وغيرها كثير.
** قصور النظام الاجرائي عن متابعة التغير المجتمعي: رغم العديد من التعديلات التي لاحقت القوانين الاجرائية القائمة منذ مايقارب النصف قرن, والتي وإن حاولت مواجهة أوجه القصور, إلا إنها شوهت الفلسفة التي كانت تحكم تلك القوانين عند إصدارها, ومع ذلك فقد عجزت عن التلاؤم مع تطور الحياة وتعقدها وتغير أنماط حياة الناس, وعلاقاتهم, ولنا دليل علي ذلك في مواعيد الاعلان التي مازال قانون المرافعات المدنية ينظمها.
** ظلت المادة السابعة من قانون المرافعات المدنية والتجارية تنص علي أن: يكون إجراء الإعلان بين الساعة السابعة صباحا والخامسة مساء, ولايجوز الإعلان في أيام العطلة الرسمية, وذلك حتي تعديلها بالقانون رقم18 لسنة1999, فأطال المدة التي يجوز فيها الإعلان حتي الثامنة مساء, وسمح بالإعلان في غير هذه المواعيد في حالة الضرورة وبإذن كتابي من قاضي الامور الوقتية.
** لقد ظل هذا النص وحتي تعديله خير مثال علي عدم مسايرة التطور الإجتماعي الذي أضفي إلي أن الأصل هو خلو محل الإعلان من أي شخص في تلك الفترة, حيث يعمل الرجل وزوجته, ويتردد الأبناء علي دور التعليم, والخدم لم يعد لهم وجود مؤثر, والأيام الوحيدة التي يحتمل أن يوجد خلالها المعلن في محل إقامته هي أيام العطلات الرسمية, وهي ذاتها الايام التي لايجوز الإعلان خلالها إلا لضرورة.
** عدم الاستفادة من التقنيات التكنولوجية الحديثة: في عصر ثورة المعلومات, وتحول العالم إلي قرية كونية صغيرة بفضل تطور وسائل الاتصال التي لم تصبح تعترف بمصطلح الحدود, وفي ظل تطور هائل لاستخدام شبكة الانترنت, واعتراف متنامي بحجية التعامل من خلالها, وتوجه عالمي إلي ضرورة تطوير مايسمي بالحكومة الاليكترونية, ماتزال إجراءات النفاذ إلي ساحة القضاء تتم كتابة بخط اليد علي أوراق قلم الكتاب والمحضرين, ومازال مشهد الكاتب العمومي الذي يكتب بخط يده الاوراق اللازمة للنفاذ إلي القضاء, قائما يشهد بتوقف نظامنا الاجرائي عند حدود عقدين سابقين من الزمان.
** عدم وجود قانون إجرائي موحد: أمام اتجاه متنامي لتوحيد القوانين تحت مسميات مثل قانون الشركات الموحد وقانون البناء الموحد في رد فعل لحجم التجزئة الذي عرفته بلادنا تشريعا, في خلال العقود المنصرمة, ماتزال أمنية صياغة قانون إجرائي موحد حلما بعيد المنال, ما دام علم القانون الاجرائي مازال غائبا, وما دمنا نميز بين المتخصص في مجال الإجراءات المدنية أو الإجراءات الجنائية أو الإجراءات الإدارية.
أعوان القضاء
يمثل أعوان القضاء من كتبة ومحضرين وخبراء, الركيزة الاهم في أي إصلاح قضائي منشود, حيث لايمكن أن نتصور نهضة لممارسة الحق في التقاضي, دونما عمل علي النهوض بالمستوي المادي والعلمي والمهني لأعوان القضاة الذي يمثلون طاقم السفينة, الذين إذا فسدت أحوالهم وتفرقت جهودهم, وانحدر أداءهم, فلن يملك قائد السفينة( القاضي) إلا أن يترك سفينته في مهب الرياح, والذي لن يستطيع مهما بلغت مهارته إلا بأن يصل بسفينته إلي بر آمن, ولكنه بالضرورة بر لم يكن يسعي للوصول إليه حين انطلق بسفينته.
أن المعوقات التي يواجهها المتقاضون ووكلاؤهم مع أقلام الكتاب والمحضرين لاتخفي علي أحد, فالجميع يعلم بها والجميع يدرك خطورتها في إهدار حق النفاذ إلي القضاء, وعلي الرغم من ذلك, تندر الحلول والتوصيات التي عرفت طريقها للتطبيق, وبدلا من أن نبذل جهدا في تعداد تلك المعوقات التي لاتخفي علي أحد, نكتفي ببيان أهم الاسباب الدافعة لها بغية الوصول إلي وسائل تجنبها:
* غياب ضوابط الاختيار, وعدم اشتراط درجة كفاية علمية أو تأهيل قانوني يتناسب مع أهمية العمل المسند إلي كل منهم, فالمحضر لايقف دوره عند حد ساعي البريد الذي يتلقي الاعلان ليوصله إلي المعلن إليه, بل يمتد دوره طولا من أول إجراءات النفاذ إلي ساحة القضاء وحتي تمام تنفيذ الحكم القضائي, وعمقا من مجرد قيد المكاتبات وحتي تولي مهمة أمانة التحقيقات والجلسات.
* انعدام التدريب المستمر, فوسيلة التدريب الوحيدة المتاحة هو التلقين من الاقدم, وهو ليس بالضرورة عالما بصحيح القانون أو بما ورد عليه من تعديل, وهو ما يؤدي إلي كفاية فساد أو جهل شخص واحد, حتي ينتقل جهله أو فساده إلي جميع من تلقي عنه.
* عدم الاستعانة بعلم الادارة, فإدارة أقلام الكتاب والمحضرين أبعد ماتكون عن الأسس الحديثة للإدارة, فلا خطة ولا أهداف ولا بيانات إحصائية دقيقة تسمح برسم هذه الاهداف أو تلك الخطة.
* غياب التنميط وإعداد النماذج التي يجب أن تتم كفالتها للمواطنين, وما يترتب علي ذلك من إضافة الوقت وفتح الباب أمام الخطأ أو التلاعب.
* عدم مسايرة العصر في استخدام وسائل الكتابة والتوثيق والتصوير والحفظ الحديثة التي تسهل من عمل الكتاب والمحضرين.
* سوء الاحوال المالية والوظيفية, المادية والمعنوية للعاملين في هذا المجال بما يؤدي إلي عدم رغبتهم في العمل أو تجويده, وأحيانا في امتناعهم عن أدائه فسادا خوفا من الخطأ والمساءلة.
المعوقات المالية
في ظل مجتمع يمثل الفقراء غالبية سكانه, ويمثل العامل الاقتصادي أهم العوامل الموجهة لسلوك الافراد فيه, تمثل العوائق المالية أهم معوقات النفاذ إلي ساحة القضاء ومن ثم أحد أهم الاسباب المانعة من ممارسة حق التقاضي, ولما كانت أهم الاعباء المالية التي قد تواجه المتقاضين تتمثل في المصاريف والرسوم من جانب وفي أتعاب المحاماة من جانب اخر, وإلي جانب غيرها من أعباء مالية أخر كمصاريف الانتقال إلي مقار المحاكم أو تكلفة إعداد الوثائق والمستندات أو أتعاب الخبراء الذين يمكن الاستعانة بهم.
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى