لعل هذه المقاربة هي ما يجب اعتمادها للقول بأن المراد بإيراد عبارة «السلطة التي يتبعون لها «، إنما جاءت من أجل ترك المجال للتداول حول شكل السلطة التي ستصبح مسيرة لأعمال النيابة العامة، بدل وزير العدل كما هو عليه الأمر حاليا. ومن المفيد جدا في هذا السياق، القول إن هذه المقاربة تنسجم إلى أقصى الحدود مع التوجهات الدولية الرامية إلى إقرار استقلال حقيقي للسلطة القضائية.
ومن ثم، فإن التفسير الذي نراه ديمقراطيا، هو ذلك الذي ينسجم والتزامات المغرب الدولية من جهة، وما أوصت به هيأة الإنصاف والمصالحة التي دعا جلالته إلى دسترتها، وما ناضلت من أجله الجمعيات وكل الفاعلين الحقوقيين، من أجل تحقيق فصل تام وحقيقي بين السلطة التنفيذية والقضائية، وفك كل أشكال الارتباط بينهما، لأن ذلك كله هو السبيل لضمان حقوق وحريات الأفراد والجماعات من غير تدخل للسلطة التنفيذية، كما جاء به الدستور كالتزام ملقى على عاتق القضاة جميعا وفقا لمقتضيات الفصل 117 من الدستور والذي نص على أنه «يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون».
وبناء على ما ذكر، فإن ما يستخلص من العبارة موضوع النقاش، هو أنها جاءت من أجل بلورة تصور جماعي متوافق عليه بغرض الاتفاق على الشكل، الذي يتعين أن تكون عليه الجهة التي ستشرف على عمل النيابة العامة، هل ستكون جهة منتخبة أم معينة؟ وهل ستكون الجهة التي ستشرف على النيابة العامة فرادا واحدا أم هيأة جماعية ؟ وهل هذا التعيين، يجب أن يكون مضبوطا بضوابط أم بغير ضوابط ؟ وما إلى ذلك من الأسئلة التي يجب أن تنصب النقاشات حولها.
وإسهاما منا في إثراء النقاش، حري بنا أن نثير الانتباه إلى أن المرحلة التاريخية التي نعيشها تعتبر بحق فرصة، نعبر من خلالها على انخراطنا العملي والحقيقي في المنظومة الدولية. وبهذه المناسبة، يمكن إثارة الانتباه إلى أن ما خلصت له لجنة فينيسيا باعتبارها لجنة أوربية من أجل الديمقراطية بواسطة القانون، أرضية مشتركة تجسد المشترك الإنساني في التنظيم والتأطير لعمل النيابة العامة، باعتبارها جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية.
لقد شكل موضوع استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية في هذه الظرفية التاريخية نقاشا مستفيضا، داخل أجهزة الاتحاد الأوربي وانتهى الأمر إلى تكوين لجنة أوربية من أجل الديمقراطية بواسطة القانون، أطلق عليها اسم «لجنة فينيسيا» التي أعدت أخيرا بتاريخ 3 يناير 2011 تقريرا حول الآليات الأوربية المتعلقة باستقلال النظام القضائي في جزئين يهم الثاني منهما النيابة العامة تحت عدد 494/2008 وتم تبنيها خلال الدورة 85 بفيينا انطلاقا من مجموعة من الوثائق الدولية المتعلقة بالنيابة العامة والتي يمكن حصرها في ما يلي :
- التوصية عدد 2000/REC . 19 الصادرة عن لجنة وزراء المجلس الأوربي حول درو النيابة العامة داخل المنظومة القضائية الجنائية.
- المبادئ التوجيهية الخاصة بأعضاء النيابة العامة لسنة 1990 الصادرة عن الأمم المتحدة .
- مبادئ المسؤولية المهنية وإعلان الحقوق والواجبات الأساسية لوكلاء النيابة العامة ونوابهم لسنة 1999 الصادرة عن «الجمعية الدولية لوكلاء النيابة العامة».
- إعلان بوردو الصادر عن المجلس الاستشاري للقضاة الأوروبيين والمجلس الاستشاري لوكلاء النيابة العامة الأوربيين حول موضوع «قضاة ووكلاء نيابة عامة في مجتمع ديمقراطي».
- الخطوط التوجيهية الأوربية حول دور النيابة العامة المجلس الأوربي بودابيست 2005 .
كل هذه الوثائق الدولية أجابت بوضوح عن تساؤلات وضعية النيابة العامة في المنظومة القانونية الدولية، وأكدت بالملموس أن النيابة العامة كجزء لا يتجزأ من السلطة القضائية تمارس عملها في التصاق وطيد بالحقوق والحريات، ويجب أن تتمتع بالاستقلالية التامة عن السلطة التنفيذية.
وقد كان من نتائج التوصية الأوربية المذكورة أعلاه أن عمدت مجموعة من الدول الأعضاء داخل الاتحاد الأوربي إلى تعديل دساتيرها وقوانينها الداخلية من أجل تحيينها وإرساء طابع الاستقلالية على قضاء النيابة العامة، منها على الخصوص المملكة البلجيكية التي تعتبر بحق التلميذ النجيب في مجال، الاستجابة للتوصيات الأوربية والدولية على حد سواء. في هذا المجال عدلت بلجيكا المادة 151 من دستورها لتنص صراحة على استقلالية النيابة العامة وفصلت تلك الاستقلالية في العديد من القوانين التنظيمية، وذلك على الشكل التالي :
إحداث ما يسمى بـ»مجمع الوكلاء العامينCollege des Procureurs Généraux»، ويتألف من مجموع الوكلاء العامين بالمملكة وتتحدد مهامه في تحديد السياسة الجنائية والسهر على تنفيذها وكذا حسن تدبير عمل النيابة العامة ولتحقيق هذه الأهداف، يحق لهذا المجمع اتخاذ قرارات آمرة للوكلاء العامين بالمملكة ووكلاء الملك وكافة أعضاء النيابة العامة، ولا يحق لهم أن يتخذوا قرارات تخص أفرادا بعينهم، ولا أن تنصب قراراتهم على نيابة عامة أو عضو فيها دون غيرهم، إنما يشترط أن تكون التعليمات عامة ومجردة أي أن تطبق على جميع النيابات العامة وعلى كافة أعضائها وأن تكون مجردة لا تمس شخصا أو مجالا بعينه وإنما على عموم المواطنين.
ولتحقيق هذه المهمة، يجتمع مجمع الوكلاء العامين للملك مرة في الشهر على الأقل، ويجب أن تكون لهم أيضا اجتماعات مع مسؤولي الأمن والشرطة القضائية ومع مجلس وكلاء الملك تحت رئاسة أحد الوكلاء العامين بالتناوب، مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الاختصاصات التي يتمتع بها الوكيل العام للملك ببروكسيل في مجال الإرهاب والجرائم المالية والاقتصادية وغيرها.
مجلس وكلاء الملك
يجتمع جميع وكلاء الملك داخل إطار يسمى مجلس وكلاء الملك، من أجل اطلاع مجمع الوكلاء العامين للملك على سير الأشغال والإشكاليات المعترضة في إطار تطبيق القواعد الموحدة للسياسة الجنائية وكل ما له علاقة بعمل النيابة العامة.
لما كان الأمر كذلك، يحق لنا الآن التساؤل عن وضعية وزير العدل والحريات في ظل استقلالية النيابة العامة في إطار المعادلة الصعبة المتمثلة في الموازنة، بين الحفاظ على مبدأ استقلالية قضاء النيابة العامة كجزء لا يتجزأ من السلطة القضائية وبين دور وزير العدل والحريات في تطبيق سياسة حكومته في مجال العدل، التي هو مسؤول عنها أمام حكومته التي بدورها مسؤولة عنها أمام البرلمان؟.
الجواب نجده أيضا في التوصيات الأوروبية لحقوق الإنسان، والوثائق الدولية ذات الصلة المذكورة أعلاه، والتي تحدد علاقة الجهة الحكومية المكلفة بالعدل بقضاء النيابة العمة في كون وزير العدل- باعتباره ممثلا للسلطة التنفيذية- والساهر على تطبيق برنامجها في مجال العدل والحريات، يمكنه أن يحدد لمجمع الوكلاء العامين للملك التوجهات العامة للسياسة الجنائية في مجال الأبحاث والتحريات، شريطة أن تكون هذه التوجهات عامة ومجردة، لا تمس شخصا أو هيأة معينة، ولا نيابة عامة أو عضو فيها دون الآخر، و يتولى مجمع الوكلاء العامين بعد ذلك تبليغها إلى باقي أعضاء النيابة العامة من خلال مجلس وكلاء الملك .
بقلم: عبد السلام العيماني, عضو المجلس الأعلى للقضاء وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط
No comments :
اضافة تعليق
الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى